الدور السعودي باليمن وتسريبات قناة الجزيرة.. حقائق مجتزأة ووثائق منتقاة

> صلاح السقلدي

>
الوثائق التي قالتْ قناة الجزيرة أنها سُــرِبتْ لها، ونشرتها قبل يومين على شاشتها وموقعها الإلكتروني، المتعلقة بالدور السعودي السلبي في اليمن خلال السنوات القليلة الماضية، هي في الحقيقة وثائق كانت بحوزة القناة ضمن مخزون هائل من الوثائق تمتلكه، أو بالأحرى بحوزة دولة قطر مالكة وممولة القناة، وتنشرها القناة كلما أزمةٌ أزمتْ بين قطر والسعودية، وكلما استفزها موقف سعودي سواء باليمن أو على خلفية الأزمة الخليجية المستعرة منذ سنوات، وكلما اقتضتْ حاجة السياسة القطرية نشرها، دفاعا كان أو هجوما بوجه السعودية ولمصلحة الدولة القطرية، أو تضع هذه الوثائق تحت تصرف حلفائها دولاً إقليمية أو كيانات في  هذه الدول، كما شاهدنا لها من نشر مرارا في الشأن اليمني.

1. سبب وغرض نشر هذه الوثائق بهذا الوقت بالذات لا يخرجان عن الأسباب والأغراض المشار إليها أنفاً، فقبل هذه التسريبات بيومين فقط تم تسريب تسجيل مصوّر لأحد قيادات حزب الإصلاح باليمن في محافظة تعز(عبده فرحان المخلافي المكنى بـ"سالم") هاجم فيه السعودية بشكل جريء، منتقصا وساخرا من دورها  الفاشل باليمن, وممجدا خصميها التقليديين بالمنطقة: (تركيا وإيران) ومتطلعا لعلاقة أفضل مع إيران التي قال أنهما، أي السلطة التي يمثلها وإيران، يمران بعلاقة جيدة ومتنامية، ناهيك عن العلاقة المتميزة مع تركيا، كاشفا نوايا تغيير تحالفات حزبه ( الإصلاح) مع كثير من القوى المحلية، متوعدا في الوقت عينه بسحق خصومه، وبالذات في المخا وباب المندب التابعات لمحافظته "تعز"، في إشارة واضحة لخصمه اللدود حزب المؤتمر الشعبي العام.

هذا التسجيل المسيء للرياض حدا بها إلى إطلاق صافرة البداية لجيشها الإلكتروني وبعض كبار صحافييها وصحفها للرد بضراوة بمهاجمة ليس فقط حزب الإصلاح ورموزه الذين أتهمهم هذا الجيش وهذا الإعلام السعوديين بدعم الإرهاب، وأبرز من وجهت لهم تهم الإرهاب هو نائب الرئيس اللواء علي محسن الأحمر، بل طال هذا الرد دولة قطر مباشرة، وهي  الداعم الرئيس للحزب ذي الميول الإخوانية. كان ذلك الهجوم السعودي كافيا لحمل قطر عبر قناة الجزيرة إلى الرد بالمثل، من خلال إخراجها جزءاً من مخزون الوثائق التي بجرابها الإعلامي؛ لتستعرض من خلالها بعض من الدور التآمري السعودي على اليمن، وتكشف كيف أن المال السعودي يشتري ويبيع قوى يمنية قبلية وسياسية وإعلامية عبر ما يعرف باللجنة الخاصة وغيرها من مسارب شراء الولاءات والذِمم، بحسب تعبير القناة.

وعلى الرغم من أن هذا التسريب ليس الأول من نوعه على شاشة الجزيرة، وعلى الرغم من أن بعض ما أوردته الوثائق لم يذع سرا وأتى مجتزأً ليناسب طبيعة الغرض، لكن ما يميزه هذه المرة هو انتقاء القناة لوثائق تعود لفترة زمنية محددة (كان حزب الإصلاح فيها إما خارج السلطة أو عائدا إليها لتوه قبل أن يخرج منها ثانية على يد الحركة الحوثية "أنصار الله")، أي فترة ما بين عامي 2011م و2015م، متحاشية الإشارة لمراحل العلاقة المثيرة للجدل بين المملكة والحزب خلال عقود من الزمن، وبين المملكة والقبائل وشيوخها، ومنها قبيلة حاشد أكبر القبائل على الإطلاق، التي ظل يقودها شيخها القبلي الإصلاحي المرحوم عبدالله بن حسين الأحمر، رجل السعودية الأول باليمن، والمُـخلص الأمين لها، والحائز على رضاء ومال المملكة الثرية، وصاحب المقولة الصادمة: "لن نختلف مع المملكة على حفنة تراب".

فضلاً عن تركيز الوثاق- وتعليق القناة - بشكل لافت على علاقة الرئيس هادي بالسعودية، وبالذات قُـبيل الانتخابات التي أوصلته للحكم بشكل توافقي عام 2012م، وكيف أنه، بحسب الوثائق المنتقاة، حريص على الحصول على الأموال السعودية لمصلحته الشخصية فقط، تقول إحدى الوثائق: "الرئيس عبد ربه منصور هادي طلب مبلغ 30 مليون ريال سعودي نحو 8 ملايين دولار لدعمه في انتخابات 2012م إثر تنازل علي صالح عن السلطة، لكن علي بن عبد العزيز الخضيري القائم بأعمال اللجنة الخاصة المكلف من قبل مجلس الوزراء السعودي كتب في الوثيقة الموجهة لمساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية أن الدعم الذي يطلبه هادي هو دعم شخصي وليس لتمويل الانتخابات، لكونه المرشح التوافقي الوحيد، واقترح الخضيري في برقيته أن يدعم هادي بمبلغ مليون دولار فقط".

استحضار هذه الوثيقة نظنه قرصة إصلاحية قطرية بأُذن الرئيس هادي جزاءً له على إذعانه للرياض- بحسب الاعتقاد الإصلاحي والقطري!
 
2. عرّجتْ الوثائق على موضع علاقة الرئيس السابق صالح بالإرهاب بغطاء سعودي بحسب الوثيقة رقم7 /2/ 1 بتاريخ 12/ 3/ 2012 م  قائلة: "المملكة كانت على علم بقيام الرئيس الراحل صالح بتسهيل سيطرة تنظيم القاعدة على مناطق جنوبية عبر قائد المنطقة هناك مهدي مقولة، ومع ذلك استمرت في توفير غطاء" انتهى الاقتباس.

وهو الأمر الذي ظلت السلطات اليمنية، بما فيها حزب الإصلاح، منذ مطلع التسعينيات وأثناء وبعد حرب 94م تنكر هذه العلاقة (الفضيحة)، وتنكر أن تكون ورقة الإرهاب قد ظلت بحوزة سلطة حرب 1994م الذي شكّــل حزب الإصلاح مستودع الجماعات المتطرفة ومخزنها المتخم والمتحكم بخيوطها عن قُــرب وبُــعد.
وفي شأن الدور السعودي بالجنوب، تقول الجزيرة بحسب إحدى الوثائق (17146) : "السعودية كانت تتعامل مع فصل جنوب اليمن كأحد الخيارات الأساسية لحل ما تصفه بقضية الجنوب إلى جانب طرح خيار الفدرالية المحتمل مرحليا، وأنها كانت تحاول استغلال الوضع والاحتجاجات في الجنوب لخدمة مصالحها فقط".
القول بأن السعودية تدعم مشروع استقلال الجنوب هو قول مجافٍ للوقائع بالمطلق، لمعرفتنا بأن الموقف السعودي لم يكن مع فكرة استعادة دولة الجنوب على الأقل بعد توقيع اتفاقية الحدود مع اليمن عام 2000م إلى اليوم، وحتى موقفها إبّــان حرب 1994م الذي كان أقرب، بحسب ما يعتقده البعض، لم يكن موقفا صادقا بقدر ما كان انتقاما من موقف صنعاء المؤيد للرئيس العراقي صدام حسين بغزو الكويت مطلع 1990م.

وهذه المواقف السعودية طيلة تلك المراحل وحتى الساعة لم تكن نابعة من خصومة سعودية مع الجنوب، ولا لقناعتها ببقاء الوحدة اليمنية، بل كان إما مناكفا وناقما لمواقف صنعاء أو لابتزازها وانتزاع منها تنازلات كما تم فعلا عام 2000م بشأن ترسيم الحدود بين البلدين الذي ظل يمثل للسعودية كابوسا قانونيا واجتماعيا طيلة أكثر من نصف قرن، أي منذ اتفاق الطائف في ثلاثينات القرن الفارط.

وهذه المواقف السعودية تتم عادة لتطابقها التام مع المصالح السعودية العليا بالشأن اليمني جنوبا وشمالا، وإلّا ما الذي يمنع السعودية بإمكانياتها المالية والمادية الطائلة وثقلها العربي والإسلامي وتأثيرها الدبلوماسي الطاغي على دول عظمى وعلى دوائر إقليمية ودولية منها مجلس الأمن أن تمضي بدعم الجنوب لاستعادة دولته وقد واتتها الفرص أكثر من مرة، فقد كان بوسعها مثلا أن تتسلح لتنفيذ ذلك بالهبة الجنوبية منذ انطلاقة الحراك الجنوبي عام 2007م، بل قُــل أن تنتهز عاصفتها الحزمية 2015م التي وجدت بطلة الرئيس هادي بالتدخل باليمن فرصة شرعية لتحقق ما يروق لها من مآرب كفصل الجنوب، مستغلة الدور العسكري الجنوبي البارز بهذه الحرب، وبعد أن تدهورت ثقة وعلاقة السعودية بقوى الشمال -المفككة أصلا- تحت تأثير القلق السعودي من ثورات الربيع العربي والعداوة مع إيران؟ فكل الظروف كانت ومازالت مواتية؛ لتكون مبعث تشجيع ومدخلاً ومبررا لها لتتبنى من خلاله مشروع استعادة دولة الجنوب، ومع ذلك لم تفعل، ولكنها، ووفقا لمبدأ المصالح السعودية العليا باليمن الذي أشرنا له سلفا، لن تتردد في تبنى المشروع الجنوبي التحرري إن تطابق ذلك مع مصالحها.

4. أصدق ما تحدثت به هذه الوثائق هو بشأن التعاطي السعودي مع شيوخ القبائل اليمنية، وبالذات في الشمال، وكيف أن معظم هؤلاء الشيوخ كانوا -وما زالوا- مجرد مرتزقة أُجراء نظير مبالغ مالية وامتيازات جزيلة من البلاط الملكي بواسطة ما تُـسمى اللجنة السعودية الخاصة المثيرة للريبة لدى قطاع واسع بالداخل اليمني، وهذه العلاقة المختلة والمعيبة كانت إحدى المعضلات المستعصية التي أفزعت الطرف الجنوبي، ووقفت بطريق نجاح المشروع الوحدوي عام 90م، وأودت هذه المعضلة ومعضلات أخرى إلى فشل هذا المشروع الوحدوي الطموح، إذ تقول إحدى الوثائق إن محضر اجتماع لجنة مراجعة مخصصات المشايخ اليمنيين صادِر من مكتب مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية قد تحدث عن السعي السعودي الدائم لتكريس سلطة القبيلة من خلال تقديم الدعم المادي لبعض المشايخ مقابل ضمان تنفيذهم أجندات وسياسات الرياض، بحسب الوثيقة التي تضيف قائلة إن مقدار الدعم لشيوخ تلك القبائل يحدد حسب أهمية كل قبيلة ومدى التزام شيوخها بتنفيذ التوجيهات والتعليمات الواردة إليهم، بعيدا عن سلطة الدولة اليمنية، مردفة: "السلطات السعودية كان بإمكانها التنسيق عبر سلطة الدولة اليمنية، لكنها كانت تحرص بشكل كبير على تفتيت سلطة الدولة من خلال تقوية شوكة القبائل ودعمها بالمال والسلاح"، مختتمة القول: "وضمت الوثائق خطابا مصنفا بـ"سري للغاية" عام 2010م من قبل ملك السعودية آنذاك عبد الله بن عبد العزيز، يوعز فيه بتوفير مبلغ 50 مليون ريال (نحو 13 مليون دولار) لدعم وتسليح القبائل اليمنية الموالية للمملكة في المناطق المحاذية للحدود السعودية، والسعي لضمان ولائها" انتهى.

ذراع السعودية القبلي باليمن لم يكن وليد ما بعد عام 2011م بل له جذور من عشرات السنين، ويشكل أحد مكابح بناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة، سواء قبل أو بعد عام 90م، وسيظل على حاله طالما بقي سحر المال السعودي ينفث مفعوله بجيوب وقلوب كثير من المشايخ، مثلما يفعل تماما مع  كثير من قادة الأحزاب وبعض الرموز الدينية والعسكرية. 

5. أطرف ما أوردته هذه الوثائق هو ما ورَدَ في تعليق للقناة "الجزيرة" بقولها إن السعودية كانت على عِلم بتحركات الحوثيين قبل وصولهم إلى صنعاء، ولم تحرك ساكنا، فمبعث الطرافة هنا هو أن القناة تتحدث عن عِلم السعودية وحدها بهذه التحركات، وكأن الحوثيين كانوا يتحركون خِـلسة تحت جنح الظلام، وهم يدلفون صوب صنعاء، فالعالَم كله بمن فيهم حزب الإصلاح والرئيس هادي كانوا يعلمون بذلك ولا يحركون ساكنا حياله، بل إن الرئيس نفسه أعتبر سيطرة الحركة الحوثية "أنصار الله" على مدينة عمران  القريبة من العاصمة صنعاء بأنها عودة لحضن الدولة. وتقول أحدى الوثائق: "السعودية كانت على علم بكل تحركات الحوثيين قبل سيطرتهم عام 2014م على العاصمة صنعاء بأكثر من عامين، ورصدت تقاريرها الاستخبارية نية وخطط الحوثيين للسيطرة على صنعاء بمساندة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، لكنها لم تحرك ساكنا، وتركت مليشيات الحوثي وصالح تتقدم وتطيح بالحكومة الشرعية" أنتهى.

هذه الوثيقة لم تذع سِــراً عن رغبة السعودية بتقدم الحوثيين باتجاه صنعاء والسيطرة عليها وطرد من فيها من قوى، وأولهم حزب الإصلاح، وذلك اعتقادا منها أن ذلك سيكون تأديبا لهذا الحزب  المصنف بـ "إخوان اليمن" الذي شكّل رأس حربة بثورة التغيير العربي بصنعاء، وتماهى بدرجة كبيرة مع الحركة الإخوانية في مصر وفي عموم ساحات ثورات الربيع العربي، وهو الأمر الذي رأت السعودية فيه تهديداً مباشرا لها على تخوم بوابتها الجنوبية، وتشجيعا لثورات ربيعية خليجية مفترضة قادمة، واعتبرته جحوداً إصلاحيا لدعمها السياسي والعسكري والاجتماعي والقبلي والديني  للحزب، ولذا كان لا بد من تأديبه بسوط الحركة الحوثية (أنصار الله)، الحركة الناهضة عسكريا وسياسيا واجتماعيا على المسرح اليمني، ناهضة بقوة من رماد ونيران ست حروب دامية, قبل أن يكتشف الإصلاح بدهائه المعهود المكيدة السعودية ويتخلى عن المواجهة مع الحوثيين في صنعاء وعموم الشمال، وآثر عوضا عن ذلك السلامة تحت شعار: "لن ننجر"، وهو الأمر الذي مهّد الطريق أمام الحركة الحوثية لتنتشر طولاً وعرضا بالشمال، قبل أن تتقدم صوب الجنوب فيما بعد بتحالف مع حزب وقوات الرئيس صالح، لتجد السعودية نفسها بالتالي في ورطة تاريخية حين اكتشفت أن الحفرة التي أعدتها للإصلاح لم يقع فيها الحزب بل المملكة هي التي خــرّتْ في هوتها السحيقة، وأن كلما خسره الإصلاح هو السلطة – ربما الى حين- مقابل أن حافظ على بنيته وطاقاته العسكرية وقدرته الجماهيرية والبشرية سليمة حتى اليوم، بل لقد صارت منذ بداية هذه الحرب أكثر تضخما، وكما تنبهت السعودية في ذات الوقت، أي حين سيطرة الحوثيين على الشمال، أن ايران قاب قوسين أو أدنى من حدها الجنوبي، وهي المملكة الداخلة لتوها في مرحلة طيش القرار السياسي النزق الذي ما تزال تعاني منه حتى اللحظة في كثير من مناطق الصراعات الساخنة بالمنطقة ومنها بالتأكيد اليمن، بالتالي لم يكن للمملكة من بد أن تتحالف مع خصمها القديم المتجدد حزب الإصلاح (إخوان اليمن) ولسان حالها يردد  بحسرة قول الشاعر المتنبي:
"ومن نكد الدنيا على المرءِ أن يرى× عدواً له ما مِـن صداقتهُ بدُّ".

6. آخر ما خلصت إليه الوثاق هو اكتشاف اعتبرته القناة مدهشا، فيما هو بالنسبة لنا معروف للقاصي والداني منذ عشرات السنين، ونقصد هنا موضوع استرزاق وشراء ذمم بعض الصحفيين اليمنيين بالأموال السعودية نظير خدمات ومواقف، تقول وثيقة من الوثائق: "سعت السعودية إلى تجنيد وشراء الصحفيين في اليمن، كما دلت على ذلك وثيقة صادرة برقم 598/ل33 بتاريخ 15/ 2/ 2012م إضافة إلى البحث عن قيادات موالية لها في مدينتَـيّ تعز و إب لتنفذ من خلالهم أجندتها، على اعتبار أن المحافظتين تمثلان أكبر تكتل سكاني في اليمن، ووجود المملكة فيهما ضعيف".​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى