الأفلام الإباحية واليمين وغياب الأمانة.. انهيار أخلاقي يهدد بسقوط المجتمع

> تقرير/ عبدالقادر باراس – وئام نجيب

> غياب دور أئمة المساجد سبب رئيس في تدني القيم الاجتماعية
لماذا أصبح الأطفال يرددون الألفاظ النابية دون رادع؟
الأمانة كلمة لها مقام رفيع بين أقرانها من الكلمات الدالة على حسن الخلق، فالأخلاق هي أساس الحضارات وأهم لبنة في بناء الدول، فالشعوب التي ذهبت أخلاقها ستبني مجتمعات قائمة على الغش والكذب والرشوة والاحتيال، ولعلَّ أبرز مظاهر الأخلاق التي ينبغي على الناس أن يتحلوا بها، التزامهم بالنظام والقانون واحترام حقوق الغير التي دعت إليها الأديان السماوية، وجعلتها أساسا للحياة، وتجسدت القيم الأخلاقية في الإسلام وتعمقت مضامينها في القران الكريم باعتباره مصدرا للقيم الإنسانية العظيمة، ويدلنا على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

ولعل سوء أحوالنا وضنك عيشنا، واحد من أهم أسبابها هو غياب الأمانة في تعاملاتنا وسلوكياتنا، سواء مع أنفسنا أم غيرنا؛ فافتقدنا البهجة والبركة والصلاح في أمورنا وأعمالنا؛ فأصبح الفاسد والظالم والسارق والكاذب والغشاش والمنافق هم نجوم الشباك في انحسار مروع ومخيف للأخلاق، ومن المفارقات العجيبة عندما تكثر مظاهر التدين وتتراجع القيم والأخلاق، وفي الوقت الذي يزداد فيه بناء المساجد، وفي نفس الوقت يظل المصلي يراقب حذائه لكي لا يسرق منه داخل المسجد، هذا معناه مجتمعنا فيه تدين كبير وفيه فساد أكبر.

ونحن نعيش في وقتنا الحالي ضياع القيم وتبدلها وانتكاسة الأخلاق، حتى أصبح السلوك الفردي للبعض متسم بالفوضى، ولا يراعي الآداب باحترام النظام والسلوك المدني المتحضر، ويفتقد للحد الأدنى من سلم الأخلاق، ناهيك عن تدهور العملية التعليمية وانعدام تـأثير المدرسة كموجه تربوي وتعليمي رئيس، بالإضافة إلى بقاء الأطفال يفترشون الشوارع في اللعب إلى أوقات متأخرة من الليل.

وما نشهده اليوم من تردٍ في كافة أحوالنا هي أبلغ الشواهد على ما نحن فيه من انفلات الأمور في الانحدار والانحطاط المريع للأخلاق، وبات واقعا مؤلما، فقد ظهرت أساليب منحطة ومسيئة في شتى مجالات الحياة اليومية، مثل إعاقة الطرقات، وتجاوزات على حق المواطنين بالهدوء والأمان، وعمّ الفساد ليشمل الجشع والطمع والرشى والاختلاس والابتزاز واستغلال المناصب والكسب غير المشروع والتجارة المحرمة وإدخال السلع المقلدة والمغشوشة ومنتهية الصلاحية والابتزاز.

أفلام إباحية في أيدي الأطفال
لقد كان من أكثر المناظر الصادمة لإحدى محررات «الأيام» مشاهدتها ستة أطفال لم يتجاوز أكبرهم العاشرة، متجمعين وجالسين حول أحدهم على أحد أرصفة مدينة كريتر، يتابعون أمرا على هاتف محمول، فتسللت المحررة خلفهم لتجدهم يشاهدون فيلما إباحيا، لكن الصدمة كانت عندما صرخت فيهم، بأنهم معتادون على الأمر، بل قام أحد الكبار في الشارع بلومها على مضايقتهم... إلى أين نحن متجهون؟ وأين دور الآباء والأمهات في تربية أطفالهم.

وانتشرت ظاهرة غريبة أيضا بين الأطفال، وهي استخدام ألفاظ نابية وغريبة، وبعضها غير مفهوم أيضا لكنها مفهومة فيما بينهم، فأين هو دور الآباء والأمهات؟

الحلف بالله غموساً وتعريضاً
حتى الحِرَف لم تسلم، فقد تتفق مع أحدهم على طلب إنجاز عمل معين سواء في مهنة نجارة أو سباكة أو بناء، وبعد إعطاءه العربون تراه يماطل ويتأخر، وعند موعد الإنجاز يطلب منك باقي المبلغ المتفق عليه حالفا بالله بأن ينجزه في القريب العاجل. ولانعدام الأمانة عند البعض يصبح حلفه بالله أمرا عاديا، للأسف الشديد، ومرة أخرى تأتي المماطلة والتلكؤ، وحتى إن أنجزه تجد العمل غير سليم وغير متقن، فأصبح يمينه غموساً في أسوء الحالات، وتعريضاً بالأَيْمَانِ في أحسنها.

وهناك كثير من الصور لا يسعفنا ذكرها، كلها تعكس حالة تدهور الأخلاق الذي نعيشه، في هذه المرحلة، خاصة المظاهر المشينة واللاحضارية، مثل رمي القمامة بجانب الحاويات، سلوك سلبي وظاهرة ليست موجودة في أي بلد عدا بلادنا، ويمكن مشاهدتها بوضوح في مختلف شوارع مدينة عدن، فيرمونها بجانبها، ولا يضعونها بداخلها، وعند مشاهدتنا لمتعاطي القات وهم يفترشون أركان الشوارع والأزقة متكئين على الأحجار وقطع الكراتين بصورة تخدش الحياء وتسيء للمنظر العام وتزعج المارين، حتى إن المتنفسات والمنتزهات تحولت إلى ساحات مفتوحة للمخزنين، مما حرم الزائرين وعائلاتهم من الاستمتاع بالشواطئ والمتنفسات، إلى جانب ذلك، نجد الباعة يستخدمون الأرصفة دون مراعاة حق المشاة، مما يعرقل حركة السير ومرور المركبات.
الصورة بجانب مقر نقابة المحامين في مديرية صيرة بعدن، توضح رمي القمامة بجانب الحاوياتبدلاً من وضعها بداخلها
الصورة بجانب مقر نقابة المحامين في مديرية صيرة بعدن، توضح رمي القمامة بجانب الحاوياتبدلاً من وضعها بداخلها

وللسائقين نصيب كبير من انعدام الأخلاق، فقد اتخذت السيارات جانبي الطرقات مواقف عامة، وأخرى تتوقف في منتصف الطريق، وليس عليك الذهاب سوى لجولة البط لتشاهد أكوام الباصات متوقفة في وسط الدوار وعلى جميع جوانبه، حتى تعاق الحركة تماماً، بينما يقف رجال المرور عاجزين عن القيام باي شيء. وبرزت ظواهر جديدة في عالم السواقة، إذ تجد اليوم باصات نقل عام يقودها أطفال لا يحملون رخص قيادة، ونرى بعضا يقود السيارات في الاتجاه المعاكس في تحدٍ وقلة ذوق وبلا التزام بأدنى حد من آداب المرور، أو نجد بعض سائقي الحافلات ومرافقيهم يخلون بالآداب العامة والسلوك القويم أثناء نقلهم الركاب من خلال التلفظ بألفاظ نابية دون مراعاة أو احترام في تعاملهم مع الركاب.

معالم عدن تتشوه
وقد تجلت مظاهر العبث والتشويه حتى طالت معالم المدينة بفعل المخالفات وأعمال التخريب التي طالت المدينة، فمثلا لم نسمع عن أمام مسجد في عدن يطالب الناس في خطبة بعدم البسط على الأراضي والتعدي على حقوق الأفراد والمجتمع، لأنه ببساطة شديدة قد تجده هو نفسه باسطا على أرضية بجانب المسجد أو بالقرب من مكان سكنه.
الصورة من الشارع الرئيسي – مدرم بالمعلا، الوقوف وسط الطريق في مشهد لعدم مراعاة قواعد المرور
الصورة من الشارع الرئيسي – مدرم بالمعلا، الوقوف وسط الطريق في مشهد لعدم مراعاة قواعد المرور

وأصبحنا نشاهد منغصات للحياة وأمورا مؤذية، مثل ظاهرة رفع الصوت العالي نجدها في أعراس "المخادر" في الأزقة والحارات، دون مراعاة للساكنين وتضييق الطرقات أو تعطيل حركة المرور للشارع كله؛ في سبيل إقامة حفلة خاصة على حساب حقوق الغير، وما يصاحب ذلك من إطلاق الرصاص، وهو ما يزعج الجيران، خاصة في وقت متأخر من الليل.

نعم إنها أزمة أخلاق يعيشها مجتمعنا، لا نعرف حتى الآن لمَ أصبحت كل تلك التجاوزات عن الأخلاق من أساسيات حياتنا اليومية؛ فتمادى البعض للأعمال الخارجة عن القانون لعدم وجود العدل والنظام والقانون.
كل تلك المظاهر المخالفة والمشينة تحدث أمام مرأى ومسمع الجهات المعنية التي تتمادى دون منعهم أو فرض القوانين الملزمة لهم بعدم حدوث كل تلك التجاوزات.

الكل متفق على أن جميع الحكومات التي خلفها النظام على مدى الثلاثة العقود الماضية ساهمت في القضاء على الأخلاق، ودمرت البنى التحتية واتخذت أشكالا مختلفة في إفساد المجتمع، فالتركة التي خلفتها حكومات ما بعد 1994م على الجنوب كانت كارثة بكل المقاييس، فقد عملت على تدمير أخلاق المجتمع فظهر جيل مختلف تماما على ذلك الجيل الذي ورثت الأخلاق.

فيا ترى ما الأسباب الحقيقية لذلك؟ وما السبل والمعالجات الكفيلة بإصلاح منظومة القيم والأخلاق في مجتمعنا؟

ضعف الوازع الديني كان له أثر كبير لما وصل إليه الحال، فأثر سلبا على سلوك وأخلاق المجتمع، لكن غياب الرادع القانوني، الذي يتحقق عبر مؤسسات وأجهزة الدولة المختصة من القضاء والأجهزة الملحقة به، ساعد تجاهل أو تغاضي تلك الأجهزة المتعمد في تراجع القيم والأخلاق. وتكمن المشكلة في المنظومة الاجتماعية في التعليم والأسرة والأخلاق السائدة في الشارع، كلها عوامل ساهمت بفاعلية في تدمير النسيج المجتمعي في عدن خاصة وباقي أنحاء البلاد.

إن واقع مجتمعنا افتقد المعنى الحقيقي للأخلاق، فقد تلاشى ومات الزمن الذي كان يحضنهم بعادات فضائله عن ذلك الزمن في تعاملاتهم وسلوكهم، يقول الحاج عادل سيف ناشر، في العقد السادس من العمر: " نشأنا على قيم وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وكانت علاقات الناس قائمة على الرحمة والمودة، وقد اختفت الآن هذه المبادئ، وتخلى العديد عنها، بعد أن طرأت على مجتمعنا عدة أمور تتنافى مع قيمنا بعد أن حل الفساد بدلاً عن الأخلاق، ويتجسد ذلك في ظهور عدد من النماذج في هذا الشأن، زمان كان للمدرس مكانته الرفيعة، وهيبته بين الطلاب، وحينما كنا نشعر بوجوده في الشارع نختبئ ونتجنب أن يرانا، أما الآن فحدث ولا حرج، فقد تلاشت تلك المكانة كليا، وبات الطلاب يلتقون مع معلميهم في مجالس القات وقاعات الأعراس، وبات الناس يعتمدون في تعاملاتهم على الكذب واللف والدوران، وهذه العادات وغيرها أخذوها من أفراد قادمين من مناطق الشمال، بل تفوقوا عليهم، لكن شبابنا اليوم يقتله الفراغ".

عادل سيف
عادل سيف
ويضيف عادل بحسرة عن ذلك الزمن الجميل: "نشأنا آباؤنا على قيم وأخلاق زمان، فقد عشنا طفولة سليمة، وقد اعتدنا العودة إلى منازلنا في أذان المغرب، ثم نشاهد برامج الأطفال في التلفاز، وننام عند الساعة السابعة والنصف مساء، للاستيقاظ مبكرا والذهاب إلى المدرسة والوقوف في الطابور المدرسي بالوقت المحدد دون تأخير، أما الآن فقد تبّدل ذلك تماماً، إننا نجد الأطفال يلهون ويلعبون في الشارع حتى ساعات متأخرة من الليل، وتشكل وسائل التكنولوجيا الحديثة خطورة بالغة على الأطفال، فالغالبية منهم يمتلك هاتفا جوالا أو حاسبا لوحيا (تاب) مزودا بالإنترنت، وذلك ما يزيد الطين بلة، ولا يصح تقديم البنزين بجانب النار، وخطورة هذا الأمر تأتي من عدم مراقبة الأسر للأبناء، لاسيما أن الإنترنت عالم مفتوح يخلو من القيود والضوابط، فضلا على عُشبة القات اللعينة التي تأتي في مقدمة أبرز الأسباب المؤدية إلى ضياع الأخلاق، ويؤدي ذلك إلى نشوب عدة مشاكل أسرية في المنزل، وفي بعض الأحيان يقدم الأبناء على سرقة مقتنيات منزلية وبيعها في الأسواق؛ من أجل توفير قيمة القات أو كما يُطلق عليها "التخزينة"، بات الناس في عدن اليوم لا ينهون عن المنكر كما أمرنا ديننا الحنيف؛ لخوفهم من رد الفعل والألفاظ البذيئة".

وواصل حديثه: "اختفت عادات زمان الطيبة، فقد انتهت المودة والرحمة بينهم إلا من رحم ربي، وجاءت محلها خيانة الأمانة، وصرنا نشهد اليوم زيادة في أعداد مضخات الماء (دينمات) التابعة لكل منزل مزودة بالأقفال، ومع ذلك يقوم بعض الجيران بكسر الأقفال وسرقة المضخات، وانتشر مؤخرا سرقة بطاريات السيارات، وتحولت الأحياء والطرقات و المتنفسات العامة إلى مجالس القات؛ وذلك يتسبب في إزعاج الأسر، خاصة من النساء، ناهيك ورمي مخلفات القمامة في الأماكن العامة، حيث تُرمى بجانب البراميل المخصصة لها، برغم أنها فارغة، عادات غريبة طرأت على المجتمع العدني، أصبح اليوم لا احترام لكبير بعد أن كان الرجل الكبير بركة وله احترامه ومكانته من الجميع، وبعد أن كنا نمشي ونحن خائفين، لأننا فقدنا الثقة بمراكز الشرطة، ولا نستطيع الذهاب إليها لتقديم بلاغ أو شكوى لأنهم يطلبون أموالا مقابل نزولهم، كانت عدن زمان تحظى بالأمن والأمان فلا سلطة تعلو فوق القانون والدولة وعدد العاملين في الشرطة محدود بخلاف الآن".
رمي القمامة أمام سور لحديقة أطفال
رمي القمامة أمام سور لحديقة أطفال

وختم الحاج عادل حديثه بتأكيده على وجوب ارتباط الأخلاق بالنظام بالقول: " ترتبط الأخلاق بالنظام ارتباطا وثيقا، ولكي تستقيم الأخلاق فلابد من ترسيخ الأمن والنظام، ومن الضرورة تفعيل دور التوعية بالقيم الحميدة، وفي مقدمتها الأخلاق والأمانة على منابر المساجد. تنتابنا الحسرة والأسف لما وصلنا إليه في هذه المدينة الطيبة، حينما كانت الضوابط هي أساس العلاقات والتعامل، فكان سائقو السيارات يلتزمون بإشارة المرور حتى في الليل، أما الآن فتجدهم يقفون في منتصف الطريق، ومع هذا يتلفظ بكلام بذيء إن أحد انتقد تصرفه، بعد أن اختفت هيبة رجل المرور. الحكومة هي من تحث على الفساد والسرقة بشكل غير مباشر، ويظهر ذلك في عدم أمانة بعض العاملين في المرافق الحكومية، وقيامهم بالنهب والرشوة مقابل إتمام معاملات المواطنين".

البرفيسور في علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عدن، د. سمير عبد الرحمن الشميري، كان له رأي يصف فيه الوضع القائم والمخاطر التي تعتري البلاد من ظاهرة انهيار المنظومة الأخلاقية،يقول: "لقد أصبحت حياة الناس كومة عفنة من المكر ولؤم الطباع، ومدبوغة بالحرب والفساد والفوضى والفاقة والجــور والوشايات والتفلت والنهب والتوتر والبلوى، وانكسار ميزان التوازن الاجتماعي الذي يصب في خانة الشــر والاحتراب والإرهاب والدم المسفوح والصعود الفوضوي للتعصب والتشــدد والكره والتسافل وتعزز منهج القــهر الاجتماعي والظلم والشر، ولقد صــدق عالم الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون حين قال : الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها".
باعة قات يستخدمون الأرصفة دون مراعاة حق المشاة
باعة قات يستخدمون الأرصفة دون مراعاة حق المشاة

وعن أبرز تجليات انهيار القيم الاجتماعية في ظل غياب الدولة، قال د. الشميري: "إن أبرز تجليات انهيار القيم الاجتماعية هو السقوط المدوي لمؤسسات الدولة والفراغات المرعبة وانتقال الناس من الحالة الاجتماعية إلى الحالة الغرائزية التي أشار إليها المفكر الإنجليزي توماس هوبز حيث تسود حالة (حرب الكل ضــد الكل)، ويتم تقديم الغرائز على العقل والمنطق، وترافق مع هذا المشهد التراجيدي تغيرات سوسيولوجية عميقة وصراعات القبائل والعشائر والجماعات والأعراق والطوائف والمذاهب، وانهيار دور الأسرة والمدرسة والمسجد والبيئة الاجتماعية والمؤسسات الثقافية والإعلامية وتقهقر الضبط الاجتماعي وغياب النموذج التربوي حيث ثم تحويل رجالات العلم والثقافة والتربية و الإعلام إلى فقراء وشحاتين وتم تقزيمهم وتحقير أدوارهم العلمية والثقافية والتربوية، وفي الضفة الأخرى تم الإعلاء من شأن السُــراق و الفاسدين وشاذي الآفاق وجعلهم أنموذجاً يحـــتذى بهم في المشهد العمومي".

ويضيف: "الطغاة عبر التاريخ ضــد تعليم الشعوب مهما ادعوا، فالتعليم يعني الوعي، والوعي يدفع بالمواطن للمطالبة بالحقوق ومحاسبة الحكام‘ علي شريعتي. وفي نفس الأفق، تم تسفيه الهوية وإلغاء الذاكرة الوطنية والتاريخية، وتشويه اللغة والثقافة والدين والتشكيك بهوية الشعب وبحضارته ورموزه التاريخية. لقد تم تحطيم القيم الإنسانية التي تعتبر ’السور الأخير ضــد التوحش والبربرية‘ – حسب تعبير إدوارد سعيد- وتواكبت الانهيارات القيمية والأخلاقية بالأزمات المفتعلة التي يتجرع مراراتها المواطن : أزمة الماء، أزمة الكهرباء، أزمة الرواتب، أزمة الخدمات، أزمة الغاز المنزلي، أزمة البترول، أزمة الديزل، فضلاً عن الانهيارات الشاملة في نسيج الحياة الاجتماعية والحصار النفسي والوجودي".

ويعزز د. الشميري أسباب انهيار القيم الاجتماعية قائلا: "هناك جملة يمكن القول أن ثمــة أســباب بألوان طيفية أدت إلى انهيار القيم الاجتماعية وأبرزها: انهيار مؤسسات الدولة - والحرب العبثية - وعُســر الحياة الاقتصادية - والفساد والفوضى والجهل وضعف الوازع الديني وتوسع مساحة الجشع والأنانية المفرطة - وتفكك البناء الاجتماعي والانهيارات الشاملة - انهيار مؤسسات التنشئة الاجتماعية - تحطيم مؤسسات التربية والإعلام والثقافة - غيبوبة الوعــي وسياسة تجهيل الشعب واحتقار الرأسمال البشري والوجوه الثقافية والعلمية والتربوية - تراجع أدوار الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني - طغيان سلطة التجبر وتقوي مداميك العصبيات - التغير الاجتماعي والحياتي السريع والعاصف - الاحترابات والصراعات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي".

ويختم د. الشميري عن أهم السُبل والمعالجات لإنهاء ظاهرة انهيار الأخلاق: "إيقاف الحــرب - بناء دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية - تحسين الحياة المعيشية لأفراد الشعب - ضرب أوكار الفساد والفوضى وتقوية مداميك النظام العام - إعادة بناء مؤسسات التنشئة الاجتماعية ومؤسسات الثقافة والإعلام - القضاء على الأزمات المفتعلة في إيقاع الحياة - تقوية سلطان القضاء ومؤسسات الضبط الاجتماعي - ترقية الوعــى والثقافة وإعادة الاعتبار للأسرة والمدرسة والمعلم والرأسمال البشري - تفعيل أدوار الأحزاب ومنظمات المجتمع المــدني - محاربة التعصب ونشر ثقافة الحرية والديمقراطية والمحبة والتسامح والسلام - التوجه صوب تنمية شاملة ومخططة مرفقة بنور العقل والتحديث المجتمعي ".

وعن علاقة دور الرقابة الأسرية بهذه الظاهرة، عبرّ عنها المستشار التربوي بوزارة التعليم الفني والتدريب المهني، كُتبي عمر كُتبي قائلا: "تعد الأسرة أولى حلقات التربية في حياة الإنسان، ومن هذا المنطلق، تعد الركيزة المهمة في بناء الأمم؛ فالتربية سلوك يتربى عليه الطفل ويتعلم ويتدرب عن مفاهيم التربية الأخلاقية والإنسانية
كُتبي عمر
كُتبي عمر
منذ نعومة أظافره، فمراحل نمو اكتساب التربية تبدأ من الطفل في المنزل إلى الروضة ثم المدرسة الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية ثم الجامعة، وتأتي المؤسسة التعليمية الحلقة الثانية بعد الأسرة، ثم يأتي دور المجتمع والبيئة المحيطة بحياة الإنسان، فتبدأ من الشارع والحي الذي يسكن فيه والجامع والجمعية أو المؤسسة المنظمة لنشاطات الأفراد، ثم يأتي العمل، وهو حلقة مهمة في تربية الأخلاق الحميدة للأفراد، وجميع هذه العوامل تأثر وتساهم بشكل كبير في بناء شخصية الفرد وسلوكه الإنساني والاجتماعي وحتى الحضاري، وواقعنا هو نتيجة للوضع العام في البلد وعدم الاستقرار الذي أثر بشكل كبير في تدهور الحياة وانعكس ذلك على السلوك العام للأفراد والأخلاق الحميدة، وعلى سلوكيات جديدة تظهر، لم يكن المجتمع يعرفها من سابق".

وتابع حديثه: "من هذا المنظور أرى أن هذا الجيل ضحية هذه المتغيرات التي طرأت على المجتمع، لأنه لم يمر على مراحل التربية التي أسلفت ذكرها، ولم يحصل على قدر كافٍ من علوم التربية تأهله أن يكون إنسانا يحمل كثير من خصال الأخلاق الحميدة، ومع ذلك يعيش غالب الأحيان في صراع مرير مع نفسه، وأحيانا يكون نواة بصفات حميدة يدافع عن الحق وينبذ العنف، وفي فترة لاحقة نواة يسيطر على الأرض ويبتز الأخرين وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، وضعف وغياب الدولة والسلطة في المجتمع له دور سلبي في التربية والسلوك العام للأفراد، ناهيك عن انفلات الأمن وظهور مجاميع من الشباب دون دراسة تعليمية كافية وصحيحة ودون عمل أدى إلى مستقبل مفقود وضائع لهؤلاء الشباب".

وبخصوص مبادرتهم المقامة من مجلسهم الشعبي تجاه المجتمع في المنطقة، نوه كتبي بالقول: "نحن في المجلس الشعبي في التواهي أخذنا هذا الموضوع بعين الاعتبار وأجرينا له دراسة معمقة في مدارسنا في المديرية، وأيقنا أن التغيير وإعادة تأهيل الأفراد في المجتمع يجب أن يكون من التربية والتعليم لأنها الركيزة الأولى في بناء الأفراد واكتساب السلوكيات الحميدة، وأقمنا حلقة نقاش تربوية منذ ثلاثة أعوام عنوانها ’المشكلات والحلول في العملية التربوية والتعليمية‘ ".

وهنا اختتم كتبي حديثه بوجوب العمل بين أفراد المجتمع كلهم بالقول: "من خلال عملنا مع المنظمات والمؤسسات في انتشال تلك الوضعية، وهذا ما سعينا إليه من خلال مبادراتنا المجتمعية بإقامة الفعاليات لعودة الروح للشباب وأكبر دليل على ذلك عند كارثة السيول والأمطار برز دور الشباب بكل فئاتهم في مساعدة المجتمع وإعادة الروح لنا".
متعاطو القات يفترشون الساحل، في صورة تسيء للمنظر العام وتزعج الزائرين وعائلاتهم من الاستمتاع بالشواطئ والمتنفسات
متعاطو القات يفترشون الساحل، في صورة تسيء للمنظر العام وتزعج الزائرين وعائلاتهم من الاستمتاع بالشواطئ والمتنفسات

دور خطباء وأئمة المساجد:
في أثناء إعدادنا لهذا التقرير وجدنا صعوبة في اخذ آراء أئمة وخطباء المساجد في عدن، فقد رفض معظمهم الحديث إلينا، لكن قلة استجابت واشترطوا عدم ذكر أسمائهم، الذين تحدثوا إلينا خلصوا إلى أن الدين الإسلامي استند في التعاليم الأخلاقية على قواعد مشتركة مع الديانات السماوية السابقة التي تشكلت في عمقها حزمة من القيم الأخلاقية الرفيعة التي رسخها الإسلام ونماها وحافظ عليها، ومن ثم ربطها ببعض، ويدلنا على ذلك التربية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، التي ترسخت عبر الفروض من صلاة وصيام، والواجبات (الزكاة والحج).

وتحدثوا عن مظاهر الانهيار الأخلاقي في الاقتصاد والغش والربا والاحتكار والاستغلال والرشوة وضعف الأمن وعدم الاستقرار والجريمة المنظمة وبالأخص انتشار ظاهرة المخدرات، سياسة التجهيل، وغياب المسؤولية ودور الإعلام السلبي.

كما أشاروا إلى الأسباب التي أدت إلى ذلك كالابتعاد عن الدين والقيم الدينية الذي يؤدي إلى فساد أخلاقي وغياب دور الأسرة في التربية وبعد أولياء أمور الطلاب مع إدارة المدرسة، وعدم اتباع المناهج الدينية الصحيحة، والتلفظ بالشتائم والألفاظ النابية وتغليب الثقافة النفعية، وكذا التقصير والسكوت من الأسرة ومنابر الوعظ في دور العبادة (المساجد) ودعاء المصلحين عن الأخطاء، وكل هؤلاء يتحملوا المسؤولية.

وبسبب غياب دور الرقابة على المحتوى كانتشار المواد الإعلامية المسيئة والخادشة، على حياة المجتمع كسلاح قاتل من خلال صفحات التواصل الاجتماعي ومحطات البث المتلفزة في نشر الرذيلة كل هذا يؤدي إلى انتشار الجرائم وكثرة الفواحش، ولا ننسى انتشار الألعاب الإلكترونية، جميعها تدخل في حملات التغريب من خلال الإعلام الموجه إلى الشباب وحتى صغار السن والترويج للثقافات المسيئة للدين.

وفي ختام حديثهم، طالبوا من الجميع القيام بدورهم الفعال في حماية مجتمعهم من هذه الظاهرة.

أخيرا: نقول إن استعادة الأخلاق مرتبط بمسألة إصلاح العقل، فغياب الوازع الديني كان أثره الكبير لما وصل إليه حال مجتمعنا، فأثر سلبا على سلوكه وأخلاقه، والكل يعظ، لكنا نجد منهم من يمارس سلوكيات لا أخلاقية، لهذا مشكلتنا في أسلوبنا في التفكير، وليس في التدين الظاهري لأنه يمكن أن يكون هناك تدين مع أناس صالحين إذا أصلحنا طريقة تفكيرهم فهي مرتبطة بمسألة إصلاح العقل. ودور الأب والأم محوري لصلاح الأبناء، وليس الأمر منوط بأجهزة الدولة فقط.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى