الأخطار الداخلية والخارجية المحيطة بشعب الجنوب

> د. صالح طاهر سعيد

> المقدمات السياسية الخاطئة وعلى الأخص في السياسة المتبعة بين الدولتين أفضت إلى نتائج كارثية عبرت عن نفسها في الإعلان الوحدوي الاندماجي بين الدولتين في مايو 1990م، كان إعلانا عن إسقاط الدولتين ولم يقم اتحاد بينهما؛ فبإسقاط أجزاء الاتحاد، ولد الاتحاد المعلن ميتا لأن الكل لا يقوم إلا على أجزائه. وكانت حالة اللادولة والفوضى وعدم الاستقرار النتيجة الطبيعية لذلك المسار السياسي الخاطئ الذي تبع في العلاقة بين الدولتين.

أراد شعب الجنوب تصحيح المسار فأُعلنت عليه الحرب في مايو 1994م، حين اجتاحت القوات الشمالية الجنوب وفرضت سيطرة عسكرية على كامل أراضي دولة الجنوب، وحكمتها بالحديد والنار.

شعب الجنوب وجد نفسه أمام تحدي الكينونة يكون أو لا يكون. فبدأ مسار استعادة الهوية والسيادة والدولة لشعب الجنوب وكانت مقاومة الغزو والعدوان في عام 1994 نقطة البدء في هذا المسار. وبالرغم من أن الجنوبيين سجلوا في تلك الحرب بداية لمقاومة الغزو والعدوان إلا أنها أخفقت بفعل الانقسامات التي يعانيها شعب الجنوب جراء الصراعات الأيديولوجية وانقسامات الماضي وما أحدثته من تشوش في وعي شعب الجنوب لذاته الوطنية ووعيهم للحق والعلاقات الحقوقية مع بعضهم البعض وعلاقاتهم الحقوقية مع الشعب في الجمهورية العربية اليمنية بوصفهما شعـبان يتمتع كل منهما بحقوق وطنية ثابتة معترف بها دوليا.

في سياق تقييم الجنوبيين لنتائج حرب 1994 أدرك الجنوبيون أنهم مطوقون بخطرين: خطر الانقسامات الداخلية وما يترتب عليها من ضعف في وحدتهم الوطنية، وبالتالي ضعف قوتهم، وخطر الأطماع والغزو الخارجي. وعلاقة الخطرين ببعضهما علاقة طردية فكلما زاد ارتفع منسوب الخطر الأول تضاعفت احتمالات الخطر الثاني، (الخارجي)، فالانتصار في مواجهة الخطر الخارجي يشترط إتمام التغلب على الخطر الداخلي، وإنهاء الانقسامات الداخلية وتعزيز وحدتهم الوطنية. إن الجنوبيين باتوا على بينة أن ذاك هو الطريق لبناء القوة واستعادة بناء التوازن الاجتماعي السياسي والعسكري الذي يسمح لهم ببلوغ أهدافهم الوطنية الكبرى.

في ضوء هذا الإدراك بدأت من الإرهاصات وانطلاق سلسلة من النقاشات والحوارات بين مختلف شرائح المجتمع الجنوبي، ليتوصل الجنوبيون بالنتيجة إلى الإعلان الوطني بشأن التسامح والتصالح في يناير 2006. وهو الإعلان الذي مثل محطة الانطلاق في تجاوز صراعات الماضي وانقساماته وإعادة ربط جسور المكونات الجنوبية ببعضها وترسيخ التعاون والتكامل بينهما وتعزيز وحدة البناء الداخلي، استعداداً لخوض معركة المصير؛ معركة استعادة الهوية والسيادة والدولة.

حرب 1994 وما أفضت إليه من نتائج أحدثت صحوة في العقول عمت كل فئات وشرائح المجتمع الجنوبي، كانت ثمرتها محطة التسامح والتصالح وإعادة بناء الوحدة الوطنية لشعب الجنوب والتهيئة للوصول إلى محطة ثالثة؛ محطة انطلاق الحراك السلمي الجنوبي في يوليو 2007.

مثل الحراك السلمي الجنوبي اختبارا حقيقيا لصحوة العقل وتشكل وعي الشعب لذاته الوطنية بعد أن تم تنظيفه من المؤثرات الأيديولوجية التي كانت العامل الأقوى في التشويش على وعي الحق وثوابت الحق الوطني ووعي العلاقات الحقوقية بشقيها الداخلي (بين الجنوبيين أفرادا وجماعات) والعلاقات الحقوقية بشقها الخارجي ومع الشعوب الأخرى ومن بينها شعب الجمهورية العربية اليمنية.

هذا الوعي الجديد كان أساسا لإعلان التسامح الوطني، وفي مجرى الحراك السلمي الجنوبي اكتسب تجلياته العملية في بلورة المبادئ التي تحكم العلاقات الداخلية بين أبناء الشعب والعلاقة الخارجية بالآخر التي يمكن تقسيمها إلى قسمين:

1 - المبادئ الأصول؛ مبادئ الهوية الوطنية المستقلة للشعب ومبدأ سيادة الشعب على أرضه وسيادته على قراره السيادي المستقل (تقرير المصير).

2 - المبادئ الفروع: مبدأ إعادة صياغة العلاقات الداخلية على أساس الانتماء الوطني والمواطنة بدلا من الانتماء للتيارات الأيديولوجية والولاء لهذا التيار أو ذاك، مبدأ المساواة في التمثيل السياسي بين مكونات الشعب، ومبدأ التوزيع العادل للثروة بين المكونات الإدارية والجغرافية، ومبدأ التوزيع العادل للوظائف في المؤسسات العامة في كل القطاعات الوظيفية، والتساوي في توفير الفرص للمواطنين في مجالات التعليم والصحة وكل القطاعات الخدمية الأخرى.

طبقا لهذا التقسيم تنقسم مراحل تحقيق الأهداف الكبرى للمشروع الوطني شعب الجنوب إلى مرحلتين:

- مرحلة استعادة الدولة.

- مرحلة إدارة الدولة.

تحكم المبادئ الأصول (الهوية والسيادة وتقرير المصير) كامل المرحلة الأولى للمشروع الوطني الجنوبي- مرحلة استعادة الدولة، ووسيلة تحقيقها هي قوة الوحدة الوطنية للشعب، وهي مرحلة اتفاقية يجمع عليها كل أبناء الشعب، فهي ثوابت حق تقوم عليها وحدة الشعب ولا تقبل التعدد. فيما تحتكم المرحلة الثانية -مرحلة إدارة الدولة- للمبادئ الفروع وهي مرحلة تخضع الكثير من مهماتها لمبادئ الوحدة والتعدد، ومن ثم فهي قابلة للاتفاق والاختلاف ولكنه اختلاف محكوم بمرجعية الشعب.

خطى الحراك السلمي الجنوبي خطوات جريئة في إعادة تشكيل الوعي الجمعي لشعب الجنوب وإسقاط الواحدية اليمنية التي ظلت مسيطرة علي وعي الناس خلال نصف قرن من الزمان، وإعادة تأسيس وترسيخ الثنائية التي يقوم عليها الواقع المتعامل معه؛ ثنائية الجنوب والشمال، وهذه الثنائية تحددها ثوابت الحق الوطني لشعب الجنوب وثوابت الحق الوطني لشعب الشمال.

انتصر وتنامى هذا الوعي الجديد أفقيا ورأسيا وتحول إلى فعل شعبي عم محافظات ومديريات دولة الجنوب بحدودها الدولية المعروفة، ليبلغ الذروة في حشد وتنظيم أكثر من 21 مليونية في العاصمة عدن وعواصم محافظات الجنوب ومديرياتها، كل ذلك تم تحت شعار واحد وهدف واحد استعادة دولة الجنوب الوطنية المستقلة كاملة السيادة.

هذه الحشود الشعبية الرائعة التي اكتسبت مسمى الحراك الشعبي السلمي الجنوبي. كان لابد أن يتنامى تطوره الكمي ليكتسب بعدا نوعيا بما يعنيه ذلك من الحاجة إلى ظهور قيادة تمتلك شرعية التأييد الشعبي الداخلي الذي يؤهلها لاكتساب شرعية التأييد الخارجي الإقليمي والدولي.

هذا المسار النوعي في تطور الحراك الجنوبي أضاف بعدا سياسيا للبعدين الشعبي والاجتماعي الذي تميز به الحراك منذ بداياته الأولى واستغرق الكثير من الوقت.

وبالنظر إلى وعورة الإرث السياسي الذي ظل مهيمنا لعقود مضت أعاق التقدم السريع في هذا المسار، حيث تداخلت المراحل مع بعضها، فظهرت أطراف التعدد القيادي في مرحلة كان لا ينبغي لها الظهور فيها هي مرحلة استعادة الهوية والسيادة والدولة. والكل منا يتذكر العلاقة بين الساحة والمنصة، حيث كانت الحشود المليونية في الساحة موحدة وتحت شعار واحد، فيما كان الاختلاف والتعدد محصورا على المنصة، الأمر الذي خلق هوة حقيقية بين مسار استعادة الحق الذي تعبر عنه الحشود الشعبية ووحدتها ومسارات السياسة التي تنفصل شيئا فشيئا عن الشعب حتى إنها كادت تمزق وحدة الجسد الجنوبي من جديد.

هذه الحقيقة عبرت عنها تعدد المحاولات الموجهة لتشكيل القيادة السياسية الجنوبية لإدارة الداخل الجنوبي وتمثيله أمام الخارج.

وجد الجنوبيون أنفسهم أمام خيارين لاختيار قيادتهم السياسية:

الأول: خيار الانطلاق من المنصة المشحونة بأطراف التعدد المتصادمة وإجراء حوارات ومشاورات بينها للوصول إلى اختيار قيادة سياسية موحدة، وكان ذلك ضربا من المستحيل وهذه الاستحالة عبرت عن نفسها في تعدد المحاولات المكرسة لتشكيل القيادة السياسية الموحدة لطول الزمن الذي استغرقته هذه المحاولات، أذكر منها محاولة زنجبار ومحاولة نجاح ومحاولة المجلس الوطني في العسكرية، وفيما بعد المؤتمر الجنوبي الأول في القاهرة ثم المؤتمر الوطني لشعب الجنوب في عدن ومحاولة قيادة الحراك الثوري الجنوبي جميع هذه المحاولات لم تصل إلى النهاية المرجوة منها.

يبدو أن العوامل والظروف القائمة في الجنوب آنذاك قبل عام 2015 مثلت العائق الأكبر ومنعت حدوث أي اختراق في هذا المسار.

الثاني: خيار الانطلاق من الساحات والحشود الشعبية الموحدة والتفويض المباشر للقائد وتكليفه بالاستناد على مبدأ التفويض بتشكيل القيادة الوطنية العليا وفروعها في المحافظات فكان خيارا ناجحا نسبة للمحاولات السابقة دعمته مجموعة من العوامل والمتغيرات التي شهدها الجنوب بعد حرب 2015 أهمها:

1 - اعتماد مبدأ التفويض الشعبي وتجنبا المكونات المليئة بالتناقضات والذاتيات الأنانيات.

2 - جاء تشكيل المجلس الانتقالي بعد حرب 2015 والانتصار العسكري الجنوبي بعد تطهير معظم أراضي دولة الجنوب من القوات العسكرية الشمالية وانحسار نفوذهم وتأثيرهم في الامتداد الجنوبي كله.

3 - تفكك مراكز النفوذ في صنعاء التي ظلت مهيمنة وتفرض سيطرتها على الجنوب في سنوات 1990 - 2015.

4 - اختيار التوقيت المناسب للإعلان عن قيام المجلس الانتقالي الجنوبي.

5 - ثم إن خبرة التراكم التي نتجت عن المحاولات السابقة خلقت تجربة كافية لحدوث هذا التحول النوعي بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة لشعب الجنوب.

6 - نشوء توازن اجتماعي سياسي وعسكري أعاد تأسيس ثنائية الجنوبي الشمال، توازن يضع نهاية للحرب ويفسح الطريق للحوار وإحقاق الحق وإرساء قواعد السلام، وكان اتفاق الرياض والبدء بتنفيذه تتويجاً لهذا المسار.

إن هذا العرض والتمعن في محطاته وتفاصيله يكشف بالقطع أنه بالرغم من أن البداية كانت في عام 1994م ونتج عنها من صحوة العقل وإعادة تشكيل وعي الشعب لذاته الوطنية، إلا أن محطة الإعلان عن التسامح والتصالح في يناير عام 2006 مثلت النقلة الكبرى في تحريك الشعب الجنوبي وحشد كل قواه إلى معركة المصير؛ معركة استعادة الهوية والسيادة والدولة. فمن محطة التسامح والتصالح إلى محطة انطلاق الحراك الشعبي الجنوبي إلى محطة الانتصار العسكري الجنوبي في عام 2015م، إلى الإعلان عن تأسيس المجلس الانتقالي واكتساب شرعية التأييد الداخلي إلى محطة اتفاق الرياض واكتساب شرعية الاعتراف الخارجي.

الآن بتجديد الاعتراف بثنائية الجنوب والشمال وبوجود توازن القوى بين طرفي المعادلة وبوجود القيادة الموحدة التي تتمتع بشرعية التأييد الداخلي والإقليمي والدولي، أصبح الوقت ملائما لبدء الخطوات العملية لإعادة بناء المؤسسات المجتمعية والسياسية وتتويجها بدستور الدولة الجديدة وإعلانها واستعادة موقعها الطبيعي عضوا كاملا في مؤسسات الشرعية العربية والدولية.

*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد- كلية جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى