الأديب الصامت.. أحمد محفوظ عمر

> حاورته/ جيهان عثمان

> "ما أقسى صمت المثقف الحقيقي! عندما يكون الصمت أبلغ من الكلام والألفاظ والعبور إلى عمق الإنسان، أحمد محفوظ عمر الذي يعيش بهدوء وصمت بعيدا عن الطنطنة الإعلامية والتمظهرات الدعائية والأوهام وتلميع الوجوه، متشبعا بثقافة الصمت والإصغاء للآخرين، ومعجونا بالمعاناة والآلام، متدفق الإحساس، يسكب إحساسه في المناطق القصية من المشاعر الإنسانية، مترعا بالحب والوفاء والعفة والمسامحة".

استقبلني بحفاوة وحب وترحاب بعد إقناعه بالحوار معي، ولو دقائق من وقته. هذا الأديب الراهب المتعفف عن الكلام، والمعروف عنه عند القاصي والداني أنه لا يجيد لغة المجاملة والطنطنة الجوفاء، ولا السجود والركوع لأصنام الثقافة وأهل القرار، ولا يلبي إلا صوت ضميره، فهو رجل بسيط متواضع وتواضعه مشبع بالكبرياء.

في بداية حديثي معه اعتراه الصمت لدقائق. لم يكن ضعفا بالذاكرة كما يدعي، و إنما غصة بالقلب تكاد تفطره صمتا، لرجل عشق الصمت كثيرا وصار سمة من سمات شخصيته الأبية الكريمة. الرجل الذي أفنى زهرة حياته في محراب الإبداع القصصي، ومنح تفاصيل الواقع نكهته الخاصة بالخوض في محراب القصة القصيرة الممزوجة بالتأمل والتسلية والخيال المبدع ببلاغة أقرب إلى النثر تقطر عذوبة ورقة.

- الأستاذ أحمد محفوظ عمر رائد القصة القصيرة اليمنية، شيخ القصة، رئيس جمهورية السرد، كما لقبك الروائي الغربي عمران، حدثني عن الدور الريادي للثقافة والأدب لعدن قبل الاستقلال؟
كان دور الأدب والقصة القصيرة يرمز للواقع وتوثيق لوضع البلد آنذاك، بفترة وجود الاستعمار، وعملنا بقوة الكلمة والحرف، وكانت البدايات في الخمسينات من القرن الماضي بأول قصة "ضحية الوطن"، نشرت بصحيفة النهضة في 1955، ثم قصة "القلب الضائع" التي فازت في مسابقة للقصة القصيرة في الصحيفة عام 1956.

- هل مارست العمل الصحفي إلى جانب كتابة القصة القصيرة ؟ و ما نوعيتها؟
كنت أكتب عمودا أسبوعيا بصحيفة الأيام تحت اسم "عجبي"، كنت أنتقد الوضع، ونتعجب من الواقع المؤلم الذي نعيشه بأسلوب ساخر راق غير مبتذل وهادف. وكتبت بصحيفة 14 أكتوبر بعض الذكريات الأدبية بقالب قصصي بعنوان "قطرات من حبر ملون" جمعتها في كتيب صدر عام 1989.

- الأستاذ أحمد محفوظ عمر كان، ومازال، أيقونة القصة القصيرة في اليمن، ومعلم من معالم الأدب اليمني والعربي، وما زالت إرهاصات الكتابة عند الشباب تثرى وتؤثر على الواقع المَعِيش وتؤرخه. فهو رائد وشيخ القصة الواقعية التجريبية في اليمن.
اكتفى بالصمت وبقي اجترار الحديث معه مؤلما له ولي أيضا.

إبداعاته القصصية تمنح المتعة للقلب والنفس، وملفعة بنفحة إنسانية وروحية ثاقبة، وتعتبر مرآة للواقع الاجتماعي، وملمحا للحب والجمال والجلال، ولا تتسم بركتها وهلهلة نسيجها بل بالرصانة والعمق وتحتاج لمن يغوص في أعماقها.
إنه يكتب ويمشي فوق صفيح ساخن في أجواء الانكسار، شديد الولع بطقوس الكتابة الإبداعية، شغف بالذوبان في تضاريس وتعرجات وأعماق الروح الإنسانية. يكره المناورات خارج نطاق الناموس الاجتماعي، ويتجنب الألسن المنفلتة الموغلة في السباب والمشاتمة.

ولا نضيف جديدا إن قلنا إن أحمد محفوظ عمر صوت قصصي فيه سكينة ووقار مندغم بحس شعري خلاب، يحرك أحاسيس القارئ بالسلاسة والترميز والكثافة الدلالية، فله فرادة وقسمات ينفرد بها عن غيره من كتاب القصة والرواية اليمنية.
ـ أحمد محفوظ عمر من مواليد 1936م في مدينة الشيخ عثمان.

ـ أنهى دراسته الثانوية في مدارس عدن حاصل على شهادة تدريب المعلمين.
ـ التحق بجناح الثقافة لجيش الاتحاد في عدن مدرساً في المدرسة الابتدائية ثم مديراً لها، وذلك في عام 1956م.

ـ في عام 1969م غادر الجيش، والتحق بالسلك التربوي المدني، وعمل في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية.
ـ التحق عام 1975م بمركز البحوث والتطوير التربوي مديراً لتحرير مجلة «التربية الجديدة».

ـ أحيل إلى التقاعد في أكتوبر 2000م.
ـ حاصل على وسام الآداب والفنون عام 1979م.

له المجموعات القصصية التالية «الإنذار الممزق» عام 1960م و"الأجراس الصامتة" عام1974م و«يا أهل هذا الجبل» عام 1978م و«الناب الأزرق» 1980م، وكتيب يحتوي على بعض الذكريات بقالب قصصي بعنوان «قطرات من حبر ملون» صدر عام 1989م، وله مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان «أبيع الفل يا شاري»، وله روايتان تحت الطبع: «مبادئ لا تباع» و«رسائل إلى من لا يهمه الأمر».

«يعد أحمد محفوظ عمر من رواد القصة الواقعية القصيرة في اليمن، وهو من أوائل الأسماء التي بدأت النشر في بداية الستينيات، بمجموعته القصصية «إنذار الممزق» التي صدرت عام 1960م، وتعتبر مجموعته «الثانية» بعد مجموعة «أنت شيوعي» لصالح الدحان عام 1957م على مستوى الوطن اليمني بشكل عام.
ولقد صور إبداعه القصصي مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية التي مر بها الوطن.

كما عبر إبداعه القصصي خير تعبير عن تطور الحركة الوطنية وصعودها إلى مرحلة الاختمار والإرهاص والثورة، وذلك يتجلى في إبداعه القصصي. وقد قطعت القصة القصيرة على يديه شوطاً كبيراً على طريق التطور الفني.

يقول عنه الناقد عبدالعزيز المقالح: «الصياغة الجمالية في قصص أحمد محفوظ عمر جزء لا يتجزأ من الصياغة الموضوعية، الشاعرية في القصص تختلط بالنثرية. ويمكن القول إن أحمد محفوظ عمر قد وصل في بنائه الفني من خلال قصص مجموعة «يا أهل هذا الجبل» أوج نضجه ومن خلال هذه المجموعة تبوأ هذه المكانة العالية بين كتاب القصة في بلادنا خاصة، وفي الوطن العربي عامة».

أما الناقد العراقي سلام عبود في تحليله لقصص يا أهل هذا الجبل يقول: «في هذه المجموعة أحرز أحمد محفوظ عمر تقدماً في تكنيكه القصصي، وفي وسائل تعبيره، ووسع من دائرة مشكلاته إلى ما هو أبعد من محيطه المحلي، وأصبح الهم الإنساني جزءاً أساسياً من رؤيته الجديدة: التجريد والرمز واللغة الشعرية الموحية هي الخيوط التي نسج بها عوالمه الجديدة.

ويقول الباحث الألماني جونتر أورت في كتابه دراسات في القصة اليمنية القصيرة: «إن أحمد محفوظ عمر يخلط ما هو سياسي وما هو ذاتي مع صور سريالية، ويتجاوز بذلك الحدود بين الأدب الواقعي والأدب الخيالي، فهو يستخدم أحدث تكنيك القصص مثل التنقل المفاجئ بين المشاهد والأزمنة وإدخال نظرات إلى الماضي والمستقبل وكسر الترتيب الزمني وتيار الشعور والتداعي».

أما القاص العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي فيقول: «أحمد محفوظ عمر اليوم استطاع أن يطور نفسه فنياً ويطور تجربته وصولاً إلى مجموعته القصصية الهامة «يا أهل هذا الجبل» ولكنه في الوقت نفس لم يتخل عن التزامه بالطبقات المسحوقة ونضالاتها من أجل أن تعيش في ظروف أخرى أكثر اطمئناناً».

ويقول أحمد محفوظ عمر في مقابلة في مجلة الثقافة الجديدة «إن الإنسان ابن بيئته وبالطبع فالأديب هو الإنسان أيضاً، وهو لا يمكن أن يبدع من فراغ، فهو يكتب من محيطه، ويعكس ما يدور حوله من أحداث في عمله الإبداعي، ويلتقط شخوص أعماله الأدبية من نماذج مختلفة من الناس الذين يتحركون معه في الحياة وبالقرب منه، فيحسن تصويرها ويعكس أحداثها المعيشة بصدق، فإذا تمكن هذا المبدع من جذب اهتمامك إلى عمله الإبداعي فهو يكون قد نجح في مهمته».

و في مقالة للأستاذ الدكتور سمير عبد الرحمن الشميري عن التجاهل المخيف للقامات الإبداعية:

"القاص أحمد محفوظ عمر اشتغل في حقل التربية والتعليم، وفي سفر حياته التعليمية، كان أستاذاً في يوم ما للرئيس عبد ربه منصور هادي، كنت أتمنى على الرئيس هادي أن يمــد بصره إلى قامة قصصية سامقة ومهضومة حجبها ستار سميك من التجاهل، وأن يكرم القاص المبدع أحمد محفوظ عمر، ويضاف اسمه إلى قائمة الأسماء اللامعة التي كرمها.

فثمة أسماء تظهر فجأة في سماء الثقافة مرفوقة بصخب إعلامي كبير لا تتلاءم مع حجمها الثقافي والإبداعي، ويتم صناعتها من قبل جهات ومؤسسات لتزييف الوعي والترويج لشخصيات منفوخة بمديح من المغالطات ليس لها علو كعب في خارطة الإبداع الثقافي ومنهم من يكتب بلغة ميتة خالية من نكهة الإبداع، ولا تخرج من ضلوعهم وأفئدتهم الولادات الفنية والإبداعية الجديدة".

القاص أحمد محفوظ عمر يحمل على ظهره 85 من السنين، ويعيش حياة طبيعية معجونة بالمعاناة، وحتى اللحظة لم يحظ برعاية مادية أو معنوية من المراجع المسؤولة، وقد لا يعرف البعض أن هذا الكاتب أغنى المكتبة اليمنية والعربية بأعماله القصصية المشهورة : "الإنذار الممزق"، "الأجراس الصامتة"، "يا أهل هذا الجبل"، "الناب الأزرق"، وأعمال أخرى لم تر النور بعد، مثل : "مبادئ لا تباع"، "أبيع الفل يا شادي"، "رسائل إلى من لا يهمه الأمر".

القاص أحمـد محفوظ عمـــر الذي كتب القصة بمـــداد قلبه لا يريد شيئـــاً ســــوى الإنصاف.

إن أكثر ما يوجع روحــي الصــمت الذي يقتل المبدعين، والتجاهل المخيف للقامات الإبداعية التي تسبح في دهاليز التهميش، وعندما يموتون تسيح الدمع في الخــدود، وتكثر كلمات العزاء المبللة بالدمع، وتبادر جميع الأطراف والجهات بمسمياتها المتنوعة لرفع شأن المبدعين، وذكر مناقبهم وتكريمهم مادياً ومعنوياً، وتقام مجالس العزاء على أرواحهم، وتتحرك الأقلام الراقدة وعدسات التصوير لنقل المشاهد وشحن العواطف ونثر الذكريات والتذكير بالخصال الفنية والإبداعية والإنسانية للمبدعين، وتنهال عليهم الهبات والشهادات والنياشين وهم تحت التراب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى