أمراء العشق والطرب في لحج العبدلية.. الأمير محسن بن أحمد مهدي العبدلي أنموذجا

> د. هشام محسن السقاف

> لحج حاضرة عباسية، وقد يرى البعض في ذلك إطراء عاطفياً يعطي لحج فوق ما تستحق. لكنا نقول: بالقياس المجازي يكون ذلك التوصيف منطقياً في حدود ما أبدعت أرض (القمندار، كما يحب أن ينطق اللحوج هذه الكلمة) من معطيات الإبداع ما فاض عن حواف حوض لحج الثقافي ولامس كوامن الإنسان ولواعجه حتى الضفاف الشمالية للجزيرة العربية.

يقول القمندار أحمد فضل العبدلي في موشحته (صادت عيون المها):

صادت عيون المها قلبي بسهم المحبة

وبات ساهر أسير محبته أيش ذنبه

قهري على ذي انتهب عقله وطار لبه

هايم قفا الزين شفى به حواسد وشاني

محسن بن احمد مهدي العبدلي
محسن بن احمد مهدي العبدلي
كانت بغداد العباسية بأحشاء فارسية وقلب عربي، تستلهم تراث الفرس وتعيد صياغته عربياً. شهدنا أوانئذٍ ثورة في الشعر والأدب والموسيقى. أعاد أبو الفرج الشعر منذ منشأه إلى يومه ذاك إلى الغناء أو (الصوت) فبدأ بالعشرة ثم العشرين فالمائة الصوت وبأمر الخلفاء. وأحدث (النواسي) عاصفة في الشعر لم يسبقه إليها أحد.

كان المنصور مشدوداً إلى سجايا الجزيرة في سليقتها البدوية، جالس العلماء وكسر (الطنبور) في رأس عبد من عبيده أسمع جواري القصر ما لا يبتغيه المنصور في قصره.

لكن ابنه (المهدي) والأحفاد من بعده ساروا على نسق ما أفسحت لهم الدنيا من ترف وبذخ وقصف ورقص، فغنت جواري بغداد في أركان القصر، وأصبحت (علية) العباسية و(إبراهيم) العباسي ممن يشار إليهم بالبنان في الغناء والطرب، وكان (الواثق) فناناً مطبوعاً، ولو استمر (الهادي) في الحكم لبنينا جدران بيوتنا من الذهب كما قال إبراهيم الموصلي لابنه إسحق.

والقمندار اللحجي شبيه بـ "ابن المعتز" في تطرحاته الشعرية، لكن الحكم الذي اعتلاه مكرهاً ابن المعتز، ولم يمكث فيه سوى يوماً واحداً وليلة أودى بحياته وأدبه البديع شعراً ونثراً، نتذكر ما قاله في دير (عبدون):

سقى المطيرة ذات الظل والشجر

ودير عبدون هطال من المطر

يا طالما نبهتني للصبوح به

في ظلمة الليل والعصفور لم يطرِ

وجاءني في ظلام الليل مستتراً

يستعجل الخطو من خوف ومن حذر

فقمت أفرش خدي في التراب له

ذلاً وأسحب أذيالي على الأثر

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا

مثل القلامة قد قصت من الظفر

فكان ما كان مما لست أذكره

فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

فأمراء بني العباس كانوا أمراء بحق في عالم الشعر والأدب والغناء والموسيقى، بل والفلسفة والفكر كما هو المأمون.
وفي حوطة العبادل كان الأمراء يسيرون على منوال العباسيين، ويصنعون هذا المجد الخالد في ربى لحجهم المحروسة بالله.

لقد استوقفني هذا التماثل الرائع والتشابه البديع بين عبادلة لحج وعباسيي العراق. حين
كنت أقلب قبسات مضيئة من حياة الأمير الفنان محسن بن أحمد مهدي العبدلي وأجدني مشدوداً إلى عبادلة آخرين على رأسهم عمه الأمير الشاعر صالح مهدي بن علي العبدلي.

وما بين الأميرين انبلاج لهذا السحر العبدلي المتمكن من نوازع الروح والقلب بعشق الكلمة واللحن والرقص والطرب.
يخرج الأمير العم فرحاً منتشياً باكتمال القصيدة في رحاب قصر (الرزميت أو البراق أو الشكر)، ويتلقف ابن الأخ الأمير محسن بشارة الميلاد هذه ويختفي قليلاً في غرفته المزانة بالآلات الموسيقية والطربية، ليهل على الجمع المبارك راقصاً طرباً وفرحاً، وقد اكتمل اللحن بين يديه كما ينبغي له أن يكون أغنية يتردد صداها في أروقة القصر. يعزف بعوده الأغنية واقفاً كما كان يفعل جده القمندار، ومن حوله من في القصر أمراء وأميرات وحاشيتهم يرقصون ويرددون اللحن وكأنهم جوقة في كنيسة قروسطية يؤكدون بها مصداقية حكمهم للأرض العبدلية بشفافية قلوبهم الشاعرة لا بقبضة سيوفهم.

لاشك أن الأمير محسن باق على ذكرى جده القمندان عند (مخاواته) أوتار العود عند كل لحن، لا يحتاج أن يكرر القمندار ولا القمندار الكبير يتكرر، لكن الأمير محسن يخرج حقاً من عباءة (المبجل) دوماً القمندار بصيغته هو المغايرة، يضع لحنه (اللحجي) على منوال التجديد في الغناء، وقد دقت أبواب (الحوطة) و (كريتر) الأغنية المصرية. فجاءت رائعة الأمير صالح: "يقولوا لي نسي حبك وليه تجري وراه" بلحن ابن أخيه الأمير الموسيقار محسن إيذاناً بالخروج المحتشم من تحت وارفة السنديانة الضخمة "القمندار" بصيغ التجديد يشاركه في ذلك العمالقة الكبار فضل محمد اللحجي، وعبدالله هادي سبيت، ومحمد سعد صنعاني، وصلاح ناصر كرد، في خمسينيات القرن العشرين.

وبشهادة واحد من أهل الصنعة الفنان القدير علي سعيد العودي يقول: " كان الأمير محسن موسيقياً وملحناً كبيراً لن يتكرر أبداً، رقيق المشاعر والأحاسيس وطيب القلب، ألحانه ترقى إلى مصاف الألحان العربية الخالدة. استفاد من الألحان المصرية، مثلاً أغنية الموسيقار فريد الأطرش "عيني بتبكي وقلبي بيضحك"، اقتبس منها الأمير بعض ( اللزم) الموسيقية، وأخرج رائعته الجميلة الخالدة "يقولوا لي نسي حبك".

في قصر (الرزميت) ولدت أجمل الألحان بثنائية الأميرين الرائعين الشاعر صالح وابن أخيه وزوج ابنته الموسيقار محسن "على الحسيني سلام"، "يا ربيب الحب"، "ليه يا هذا الجميل"، "يقولوا لي نسي حبك"، "ليتني نسمة على وجه الحبيب"، "إن قلت باتوب".. إلخ، وغنى للعم أو لهما معاً فنانو لحج، وعلى رأسهم أسطورة الغناء اللحجي فضل محمد، إلى جانب أحمد يوسف الزبيدي، محمد صالح حمدون وعبد الكريم توفيق، ومحمد عبده زيدي، فيصل علوي وسعودي أحمد صالح.. إلخ.

نستذكر إحدى أغاني ذلك الزمن الجميل، أغنية "ليه يا هذا الجميل":

ليه يا هذا الجميل

خدك الباهي الأسيل

دمعتك فوقه تسيل

كلما سالت وجالت

رفرفت روحي ومالت

تمسح الطرف الكحيل

ليه تبكي ذي العيون

ليه تمسي في شجون

تسهر الليل الطويل

ذا بكا وإلا دلع

با تزيدني ولع

فوق ما بي من شعيل

ليه وردك والخدود

ليه صدرك والنهود

تظلم القلب العليل

ليه يا هذا العنود

ليه هكه ما تجود

جود لي حتى قليل

يستطيع هذا المبدع العملاق بشهادة من عايشوه أن يعزف على الآلات الموسيقية والإيقاعية العود على رأسها، والكمنجة والقانون والبيانو، كما أجاد العزف على (الهاجر، أو كما يحب أن يسميه الفنان فيصل علوي "الكابر"، بالإضافة إلى المرواس والرق.

أما شخصية الأمير محسن فهو صدارة الصفوة العبدلية التي امتلكت حضوراً كبيراً في الأوساط اللحجية وفي عدن والجنوب عموما. فهو من مؤسسي الندوة الموسيقية اللحجية التي ترأسها الفنان الكبير صلاح ناصر كرد، وقد أخذ بأيدي الموهوبين الشباب الذين ظهروا تزامناً مع دورة الغناء اللحجي الثانية في خمسينيات القرن الماضي. ومن أولئك الفتية كروان لحج الأسمر عبد الكريم توفيق الذي عاش شرخ صباه في كنف العائلة العبدلية الكريمة في قصر (الرزميت).

كما أسهم الأمير محسن في النهضة المسرحية في لحج، وكان المسرح شعلة نور أخرى حملها العبادلة الأفذاذ إلى أبناء وطنهم في فترة مبكرة إذا قارنا ذلك الزمن بما كانت عليه الجزيرة العربية وقتها.
أما حضور الأمير محسن بن أحمد مهدي في مجال الإعلام فقد كان بارزاً في الإذاعة والتلفزيون. تقول الأميرة مريم بنت صالح مهدي عن ابن عمها: "كان الأمير محسن بن أحمد مهدي العبدلي إعلامياً صحافياً وإذاعياً، وكان ضمن لجنة إجازة النصوص في تلفزيون وإذاعة عدن".

وتقول الأميرة مريم عن ذكرياتها في قصر (الرزميت):
الأميرة مريم
الأميرة مريم


إن القصر يتحول إلى أوكسترا حية يمتزج الغناء بالرقص عند ميلاد أغنية جديدة (وهات يا رقص) من جميع من في القصر العامر، والأمير محسن يعزف على العود واقفاً كما كان يفعل جده القمندار.

بعد نيل الاستقلال 1967م وتحديداً بعد انقلاب اليسار في 1969م أقصي الأمير محسن مع من أقصي من كوادر تلفزيون وإذاعة عدن، ومنع جده القمندار من البث في الإذاعة والتلفزيون بأمر من سالمين وعبد الله الخامري وزير الإعلام، لكن الأستاذ عمر الجاوي استطاع أن يعيد القمندار إلى مستمعي إذاعة عدن من خلال مسلسل إذاعي من ثلاثين حلقة ألفه الأستاذ الكبير عبدالله هادي سبيت استمر لمدة شهر، لكن الجاوي لم يكمل عامه بعد هذا المسلسل فأخرج من رئاسة الإذاعة والتلفزيون بقوة نفوذ سالمين وأداته المنفذة الخامري.

أما الأمير محسن بن أحمد مهدي فقد انزوى غير مكرم في أرضه وهاجر إلى مدينة الضباب بلندن ليمكث فيها وقتاً قبل أن يعود بدعوة من الجاوي نفسه عام 1988م مشاركاً في مهرجان القمندار الأول، وتخرج لحج لاستقباله استقبالاً حاراً، وكأنها تعتذر له عن كل ما حاق به وبأسرته العبدلية الكريمة.
ثم يموت -رحمة الله الواسعة عليه- في لندن بين أفراد أسرته الصغيرة وبعيداً عن أسرته الكبيرة في الحوطة المحروسة بالله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى