من غناء الزمن الجميل.. المحبة عذاب

> عياش علي محمد

> من عادة المرأة عندما تمر عليها أربعون يوماً من ولادتها، تغتسل وتخلع ريحه الولادة، وتلبس رائحة الطيب والفل والكاذي، وتعمل حفلاً غنائياً محدوداً مع أقاربها وصديقاتها، اللاتي يأتين لمساعدتها في نقش الحنا والخضاب، وأخريات يشككن زهرات الفل وقبوات الكاذي، ومنهن من تعمل على وضع البخور والعطور على ثيابها، فتبدو في تلك الليلة كعروس جديدة.

ومن عادة الأمير أحمد فضل القمندان، أن يعود إلى منزله الساعة العاشره مساءً، وليلة الأربعين تأخر القمندان إلى منتصف الليل لاضطراره على استقبال ضيوفه وتقديم واجب الضيافة حتى وإن جاؤوا دون علم منه، فقضوا الأمسية بكاملها دون أن يشعروا بمرورها زمنياً، لما تخللته تلك الزيارة من وصلات فنية تمتعوا بها.

فلما عاد القمندان بعد منتصف الليل أراد أن يدخل مخدعه فوجده مغلقاً، فطرق الباب عدة مرات ولم يفتح له الباب، فخرجت من لسانه مقطوعة فجائية من كثر التعذر من فتح الباب فقال:

افتح الباب وإلّا بايقع دوب قبقاب

أعجبه هذا المقطع، وعاد إلى غرفة مطالعته ليسجل أبيات قصيدة خرجت لتوها فكتب:

ليه وعدني وعاب

قفل على نفسه الباب

يا حقيب الخضاب

افتح الباب ولا

بايقع دوب قبقاب

أوجس القلب ذاب

ليه ضاع الحساب

تسلق حزيران في آب

قد كشفنا النقاب

ثم عاد القمندان بعد كتابته هذه المقاطع يحاول الدخول إلى مخدعه، فتعذر عليه الدخول مرة أخرى، وحاول عدة مرات الدخول إلى مخدعه، لكنه لم يتمكن حتى خرجت الشغالة التي كانت تؤانس أميرتها، فوجدت القمندان لا يزال متسمراً عند الباب فقالت له:

صحيح والله ما قالوه أهلنا من زمان: "إن المحبة عذاب".

هذه الحكمة التي قالتها الشغالة للقمندان، كسرت الموسم كما يقال، وحاول أن يكمل هذه الحكمة بيت من الشعر حتى ينتهي من إتمام قصيدته.

كان يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً لعل قريحته تسعفه بإتمام البيت الذي قالته الشغالة فلم يعثر على لغة تكمله، فقرر الذهاب إلى أقرب شاعر لحجي يسعفه بإتمام البيت المذكور.

أخذ عباءته وعصاه وخرج من منزله قاصداً الشاعر الذي يهواه والعارف بإمكانيته الشعرية كي يسعفه بإغلاق البيت الشعري، فقصد منزل الشاعر صالح فقيه، ودق بابه، وكان الشاعر صالح فقيه نابهاً تلك الليلة، فلما سمع دقات الباب، قال من معي بالباب؟ فجاءه الجواب: (أنا)، ولم يفصح باسمه، لكن الشاعر صالح فقيه فطن لصوت القمندان حتى بكلمة (أنا) فصوت القمندان متعود على سماعه، ففتح الباب الشاعر صالح فقيه، وقال للقمندان (عسى ألّا يكون شراً) فرد عليه القمندان: (المحبة عذاب).

وعندما تكرر طلب صالح فقيه بالدخول إلى منزله كان يجد إجابة القمندان (المحبة عذاب) فوجد أن القمندان (خارج التغطية) جراء هذا المقطع الذي لم يستطع إكماله، فقال للقمندان:

المحبة عذاب من صابها الله بها صاب

هب القمندان راجعاً إلى بيته بعد أن قضى شأنه ووجد مقصده، وأثناء عودته إلى منزله كانت الأبيات الشعرية تخطو معه في خطواته، حتى أتمها إلى آخرها

فدخل منزله فوجد باب مخدعه مشرعاً إلى آخره، فتسهل له الدخول بدون أن تمتد يده للقبقاب، فكانت القصيدة كالتالي:

المحبة عذاب من صابها الله بها صاب

ذاك فصل الخطاب

في الحسيني مست خبرة جماعة وأحباب

والسمر طاب طاب

يسحبوا الأنس بين الفل والكاذي سحباب

في جناين عجاب

ثم صوت الرباب والعود والماء ينساب

والمطر والسحاب

اسكبوا لي شراب قهوة قرنفل وعناب

بعد ماء الكزاب

قودني الأنس كان أي قاب قوسين أو قاب

فاسقني والصحاب

اسقني اسقني متى أنكر العشق كذاب

قال غير الصواب

ليه ليه العقاب ما فيش للعتب أسباب

من سعى فيه خاب

في اليوم التالي عاتبت الشغالة أميرتها، وقالت لها: لقد عذبتي سيدي أحمد البارحة، ليه بس هذه القساوة، ردت عليها الأميرة: لقد تعمدت إثارة سيدش أحمد حتى يقول قصيدة غنائية من صميم تلك الإثارة حتى تتغنى لحج بها وتتذكرها طوال الزمن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى