الروائيون النقاد يمتلكون السر: الروائي ينظر إلى النص من الداخل بحثا عن الانسجام

> مدوح فراج النابي

> غاية الروائي هو البحث عن المعنى والرسالة داخل النص، وكيف عمل الروائي عبر التآلف بين عناصر الرواية من توصيلها بانسيابية واتساق. وفي نفس الوقت تأتي ممارسته النقدية لتأكيد دور النقد في خدمة الإبداع، وكيف أنه جزء مكمل للعملية الإبداعيّة وليس منفصلا عنها.

روائيون عرب
من الأسماء – في عالمنا العربي – التي مارست هذه الوظيفة المزدوجة، يحضر اسم الكاتب يحيى حقي، وهو صاحب الإنجاز المهم في الرواية (قنديل أم هاشم، والبوسطجي، ودماء وطين، وغيرها)، ومع هذا الاهتمام بالرواية والقصة إلا أنه ترك للمكتبة النقدية كتابه الرائع “فجر القصة” (1960)، وهو الكتاب الرائد الذي أرّخ فيه للفن القصصي المصري الحديث، وبداياته.

يأتي الكتاب من نظرة خبير يُعاين النصوص بمنطق الذوّاقة، فيكتب عن رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل، وعن رائد القصة القصيرة محمد تيمور، ومحمود طاهر لاشين، وعيسى عبيد وشحاته عبيد، وفي الكتاب إشارة إلى دور قصص توفيق الحكيم في انتهاء عصر الاقتباس والشكوك، وانتقال القصة من الوجدان فقط إلى الوجدان والفكر معا، ومن السطحية إلى العمق، وعلى يده تحول الأسلوب من الشكل إلى الجوهر.

كما يتوقف حقي عند عملي الحكيم: أهل الكهف وعودة الروح، ويحلل ببصيرة ووعي إمكانات الفن عنده، رافضا آراء النقاد الذين رفعوا أهل الكهف عاليا وهبطوا بعودة الروح أرضا. كتابة حقي هي إنصات حقيقي للنصوص وتأثيراتها على المتلقي، بما تطرحه من قضايا جادّة تمسّ وقائعها، دون أن يغضَّ الطرف عن مسالبها.

عبدالرحمن منيف الروائي المُحنَّك، وضع هو الآخر خلاصة تجربته في الكتابة الروائيّة، في كتابات نقدية عالج فيها مسائل خاصة بالرواية وموضوعاتها وأيضا فنياتها، فقدَّم أكثر مِن عمل تناول فيه أعمال سابقين، منها كتابه “لوعة الغياب” وكتاب “رحلة ضوء” وكذلك كتاب “بين الثقافة والسياسة”.

يتحدّث منيف في كتابه “لوعة الغياب”عن شخصيات أدبيّة راحلة، متناولا أعمالهم بالدرس والتحليل، من خلال استجلاء التراجيديا في حياتهم المتمثّلة في المأساة بكافة تنويعاتها: الموت والقتل والمنفى واستبداد السُّلْطة وضيق المكان والاغتراب عن الواقع وضياع الأحلام والإخفاق عن تحقيق المشروع الذاتي في ارتباطه الجدلي بالمجتمعي والتاريخي ثم الكوني فالحضاري. في واقع الأمر هي كتابة تمزج بين الذاتي والموضوعي كما في دراساته عن سعدالله ونوس، غائب طعمة فرمان، جبرا إبراهيم جبرا، محمد الجواهري، نزار قباني، جميل حتمل، محمد الباهي، إميل حبيبي، حليم بركات، يوسف فتح الله وحسين مروة، إلى جانب شخصيتين غربيتين هما: الشاعر الإسباني لوركا، والكاتب اليوغسلافي إيفو أندريتش. في الكتاب يختبر درجة قربه من أصدقائه وهو يتناول أعمالهم.

يَبْعُدُ في كتاب “رحلة ضوء” عن الشخصيات الأدبيّة، مركّزا على مناقشة قضايا أدبيّة مُتعلّقة بالرواية، فالقسم الأوّل من الكتاب الذي أَوْقفه على الرواية بعنوان “ضوء على الرواية”، ناقش فيه مفهوم البطولة وتطوراتها، والشخصية الروائية، والحوار، وتحدّث عن صورة المدينة في الرواية، وكذلك العلاقة بين الرواية والسيرة، والتاريخ كمادّة.

موضوعات – على تنوّعها – متصلة بإشكالية الكتابة، فمثلا عندما يتحدث عن مفهوم البطولة في الرواية، يشير إلى انحسار الدور الوهمي للبطل الفردي، وهو ما يُضفي قدرا من المصداقية على هذه البطولة، على نحو ما تجلّى في رواية المغامرات، في حين لعبت الرواية التاريخيّة دورا مزدوجا، إذْ اختارت من التاريخ النماذج الأكثر حضورا وإيحاء ولجأت إلى إعادة التكوين والتركيب ضمن نسق يجعل البطل التاريخي بديلا مُناسبا، يضرب أمثلة من كتاباته ومن كتابات آخرين.

كما يستعرض للكثير من عناصر العمل الروائي كالحوار واللغة والبطل، ولكن من منظور تجربته الروائية، وأيضا عبر نماذج روائية عالمية. في هذا يسعى إلى إبراز ملامح التطوّر الذي لحقت بالفن الروائي دون أن يعمد إلى الجنوح للتأريخ أو حتى الإسهاب في الحديث عن عناصر العمل الروائي.

وكذلك رصده لمراحل تطوّر الرواية في بنيتها سواء على مستوى مفهوم البطل، وتحوله من البطل الفردي كما في روايات المغامرات إلى البطل العادي من نسيج الحياة، سواء أكان فارسا أم إنسانا مهمَّشا كما صوّرته الرواية التاريخيّة، إلى القفزة المهمّة في مفهوم البطل، حيث لم تعد البطولة مقتصرة على البشر، بل أصبحت الأماكن والحيوانات والأشياء مادة للبطولة. أو على مستوى اللغة، التي كانت تسير بإيقاع غير منتظم بين لغة الحوار ولغة السرد، إلى أن تجاوزت هذا المستوى، وتخلّت لغة الحوار عن عجميتها وصارت لغة قريبة معيشة، لذا نراه يُولي اللغة في الرواية أهمية كبرى، بحيث تكون لغة قوية وحيوية ومتطوّرة، وكيفية استيعاب الحوار لمفردات جديدة، ومرونتها في التعامل مع اللهجات بموازاة للفصحى.

كما يعتبر أن الروايات المغرقة في محليتها، تُشكّل حاجزا بين الرواية ومداها العربي، ومن ثمّ يحكم عليها بأنها ليس لها مستقبل. وبالمثل العربية الفصيحة المقعرة لا تمثّل الصّدق المرجو في العمل. ولذا يميل إلى اللغة الوسطى لأنها الأقرب إلى الواقع.

نظرة منيف للغة واستخداماتها في النص الروائي ما زالت تمثّل معضلة لكتاب الرواية الآن، فكثير منهم يميلون إلى اللهجة العامية، وبعضهم يميل في كتابة الرواية التاريخية، إلى لغة المدونات والحوليات، ظنّا منه أنه ينقل القارئ إلى أجواء العصر، دون أن يدري أنه يعمل على إبعاد القارئ عن النص ذاته. ما تناوله منيف يأتي من واقع تجربته كروائي، ومن ثم نراه يضرب الأمثلة عن كتابات موضحا ما يريد إيضاحه، وهو ما يجعل من النقد أشبه بالإبداع ذاته.

"العرب"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى