​من سد النهضة إلى أرض الصومال

> شادي لويس:

>
بعد أكثر من عقد من الجولات الدبلوماسية وتجدد للحرب الكلامية كل حين وآخر، وصل الخلاف حول سد النهضة بين القاهرة وأديس أبابا إلى طريق مسدود.

قطعت أعمال إنشاءات جسم السد ومراحل ملء خزاناته، خطوات واسعة، من دون الوصول إلى اتفاق ملزم بين دول الحوض ينظم إدارة مياه النيل، بما يضمن حصص دول المصب.

جاء إعلان القاهرة الشهر الماضي عن انتهاء مسار المفاوضات، والاكتفاء بـ"المراقبة عن كثب" لملء وتشغيل السد مع الاحتفاظ بـ"حق الدفاع عن أمنها المائي والقومي في حال تعرضه للضرر"، بمثابة بيان استسلام للأمر الواقع، وترحيل المواجهة إلى المستقبل، فالأمطار الغزيرة خلال المواسم الماضية، سمحت بتتميم عمليات ملء السد من دون تأثير ملموس في حصة مصر المائية، لتبقى المشكلات مؤجلة حتى مواسم الجفاف المحتملة مستقبليًّا، وتظل المعضلة الأكبر أن أثيوبيا بادرت إلى خرق الاتفاقات القائمة لإدارة نهر النيل وتوزيع حصصه، والإقدام على ذلك من طرف واحد، وهو ما يمهد الطريق لتكرار الأمر، سواء من جهة أديس أبابا أو غيرها من دول المنبع.

الخسارة المصرية، أو ما يمكن اعتباره تعليقًا لا يصب في مصلحة القاهرة، لم تكن نتيجة بعيدة من الاستشراف مسبقًا. ففي ظل غياب حسن النوايا من الجهة الأثيوبية، لم تمتلك القاهرة أدوات للضغط أو للتفاوض أو الترغيب، بل وبداية انطلقت من أرضية ضعف، بحكم موقعها الجغرافي كبلد المصب. كان لجوء الحكومة المصرية لإشراك الولايات المتحدة في جهود الضغط الدبلوماسي على إثيوبيا -وهي الورقة المصرية الأكبر- بلا جدوى تذكر. وذلك في ظل اهتمام إدارة ترامب المحدود بالمسألة، وتضارب مصالح حلفاء واشنطن بخصوص سد النهضة، بل على العكس، عزز الدور الأميركي المحدود وقصير النفس من مصداقية خطاب الحكومة الإثيوبية الموجه داخليًّا حول مشروع السد، بوصفه مشروع تحرر وطني في مواجهة قوى استعمارية، في مقدمتها مصر ومن خلفها الولايات المتحدة. أخيرًا، جاء اندلاع الحرب الأهلية في السودان، تحطيمًا لأي آمال في شراكة بين القاهرة والخرطوم في مواجهة أديس أبابا، ونزع حتى ورقة التلويح غير الجادة بشن عمل عسكري مصري ضد إثيوبيا انطلاقًا من الأراضي السودانية.

نهاية الأسبوع الماضي، عادت الحرب الكلامية بين مصر وإثيوبيا، بعد توقيع الأخيرة مذكرة تفاهم مع حكومة أرض الصومال غير المعترف بها دوليًّا، تسمح لإثيوبيا، وهي الدولة الحبيسة بإقامة قاعدة بحرية عسكرية ومرفأ تجاري وحق استخدام واجهة بحرية بطول 20 كيلومترًا على الساحل الصومالي لمدة 50 عامًا، واستدعى الاتفاق المبدئي إدانة جماعية، شملت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين والجامعة العربية، إنما كان رد الفعل المصري الأعلى صوتًا والأكثر خشونة، إذ جاء مشفوعًا بتهديد التدخل العسكري.

"محدش يجرب مصر"، حذّر الرئيس السيسي في كلمة له من مغبة "المساس بسيادة الصومال أو وحدة أراضيه"، واستدعى بشكل ضمني اتفاقية الدفاع المشترك العربية، مع إعلان نية التدخل إذا طلبت حكومة الصومال ذلك.
الموقف المصري المتشدد معني بمواجهة إثيوبيا، لمعادلة الكفة معها في معادلة المصالح والضغوط. فمنذ سنوات، تمارس حكومة أرض الصومال أعمال السيادة، بما فيها توقيع الاتفاقيات مع دول أخرى ومؤسسات غير حكومية، ولم تستدع 
أي من المعاهدات السابقة رد فعل مصري بمثل هذه الخشونة. فهل يجب التعامل مع الموقف المصري بجدية؟ أم اعتباره مناورة كلامية مثل التصريحات السابقة؟

عمليًّا، يصعب على القاهرة الغارقة في أزمتها المالية الكبيرة، تمويل حرب في أعالي البحار، ولا تبدو الإدارة المصرية في وضع تُحسد عليه، فيما تدور ثلاث حروب على حدودها البرية، في غزة وليبيا والسودان، وبشكل أو بآخر هي طرف في الحروب الثلاث، وبحسب معيار الأولوية، سيكون من غير الحكمة فتح جبهة إضافية وبعيدة.

الواقع أن القاهرة، وبالتوازي مع تصريحاتها الحادة تجاه إثيوبيا، أصدرت في الأسبوع نفسه تهديدات نادرة تجاه تل أبيب، ملوحة بتبعات خطيرة حال مبادرة إسرائيل إلى تغيير الوضع القائم على محور فيلادلفيا، ولعل الفوضى الشديدة التي ضربت المنطقة من الجهات كافة، دفعت القاهرة نحو اتخاذ مواقف أكثر صرامة، ومن بينها البحث عن موطئ قدم في القرن الأفريقي في ظل اضطراب الملاحة في البحر الأحمر، والذي يتضرر منه الاقتصاد المصري أكبر الضرر... وإن كان ذلك الاحتمال يظل مستبعدًا، كون البحر الأحمر تحول إلى ساحة تنافس لقوى دولية وإقليمية كبرى، تعجز القاهرة عن مناطحتها.

في حال كانت التصريحات المصرية تجاه مسألة أرض الصومال غير جادة أو مفتقدة لموارد تنفيذها - وهو الأرجح - فإن النتيجة الوحيدة لها ستكون تدهور لعلاقة سيئة بالأساس مع الجار الإثيوبي البعيد، وترسيخ سوء النية المتبادل، وإضافة إلى رصيد المظلومية التاريخية الإثيوبية ضد مصر، ما يعود بالسلب بلا شك على المصالح المصرية، وبالأخص فيما يتعلق بمواردها المائية.
"المدن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى