50 عـــــامـــا من «الأيام»

> «الأيام» د. هشام محسن السقاف:

> ثمة ما يبقى خالدا في أسفار التاريخ، ناصعا بوهج الحق الذي لايبلى، بل ويزداد نقاءً كلما طوى الدهر حقبة من سيرورته التي لاتنتهي.

و(الكلمة) ذلكم السحر العجيب الذي ترافق مع النشوء والتكوين والبدء، هي تأسيس لقيم الخير والعدل والجمال في المنوط الإنساني ليتسق فعل الفاعلين في مملكة البشر مع القيم العدلية والخيرة والجمالية الكاملة والمطلقة في كلمة الله الشاملة.

والأساس في الأشياء أن تقترن الأشياء بحرية الأخذ لا القسر، ويتجلى وهج الصورة دون داع لصقل صاقل أو مهارة فنان، عندما يجرجرنا الحديث إلى الكلمة (الصحافة) آية هذا العصر، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:

لكل زمان مضى آية

وآية هذا الزمان الصحف

فمن أين نأخذ وماذا ندع، وكيف لنا أن نوصل مبدأ (الحرية) الملازم بـ (الورقة) وخروجها بيضاء من دون سوء، حتى إن كانت مكللة بالحبر الأسود؟!.

من الواضح أن المنظومة التي أخرجت السلعة من معامل ومصانع البرجوازية الناشئة في أوروبا إلى أفق المنافسة كامن في مقدرتها على هذه المنافسة في الأسواق مجردة، إلا من قوة العمل المبذول فيها، وكان لزاما بالمقدرة ذاتها أن تحرر (الكلمة) تماما لتغدو فعلا (ولا أريد القول سلعة) بالاتساق مع المبادئ التي قامت عليها الثورة البرجوازية في أوروبا، مبادئ الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، مبادئ فولتير وروسو ومونتسيكو.

ومن إشكالية أن هذا السحر العجيب الذي احتار معاصروه في تسميته في مصر، قد قدم إليهم مع نابليون بونابرت، وحملته الاستعمارية الشهيرة مطلع القرن التاسع عشر، فإنه كان له ما كان من قوة السحر والصدمة الحضارية وفتح فجوة في الجدار لتهب نفحات عصر جديد على الشرق، يخرج (أم الدنيا) من جلبات الانحطاط وعمائم فقهاء الزوايا والتكايا وفروسية المماليك إلى عصر المطبعة والآلة والمدفع والمدارس الحديثة وبشائر الإحياء والنهضة القادمة.

ولسنا بحاجة لتكرار السجال والجدال بين الفرانكوفونيين والآخرين، بإعطاء السبق للوافدين من مدينة (النور) حتى إن كانت قعقعة أسلحتهم تصك أذن (الصعيد) في أقصى مصر، أو رمي (الشيخ) نابليون الذي وضع (العِمَّة) على رأسه ليغطى أعين أبناء المحروسة عن صفة الغازي فيه، الذي جاء بمطبعته الشهيرة لصوغ الأوامر والنواهي بلغة تفهمها العامة، وفي وريقات لن تستمر في عرف التاريخ هكذا- وريقات- بل تصبح مع المدى المنظور صحافة يضيق هامشها الحر أو يتسع، وسرها الباتع يغري الحاكم والمحكوم، ويتلقف صنعته (حواة) مهرة من أبناء الشام (أولا) هربوا من بطش العثمنة إلى خديوية مصر الأقل وطأة، فظهرت على أيديهم الخطوات الأولى للمولود البكر (آية هذا العصر).

وحين لاننسب الفضل إلا لأهله، علينا أن نمعن النظر في جهود جيل من الرواد في عدن، تنصب في تأسيس صحافة حديثة، بالاتساق مع التطور الذي شهدته عدن تحت الإدارة البريطانية، وبالتحديد أثناء الحرب العالمية الثانية، لأن القوانين لاتصنع نفسها، وإنما هي جهد اجتماعي وإرادة مدنية رافقت عملية التغيير السريع في التعليم والصناعة وبوادر نشوء طبقة عمالية، وتاليا نقابات لها، واكتمال نسق منظمات المجتمع المدني وظهور الأحزاب والتيارات السياسية، دونا عن إغفال أو تجاهل أن ظهور المطبعة في الوطن شمالا وجنوبا أمر يعود إلى الإدارتين العثمانية والإنجليزية قبل بزوغ القرن العشرين.

ويثمر ذلك إرهاصات من قبيل جريدة «صنعاء» التي صدرت عام 1879 بمحدودية أثرها، وتواضع إخراجها، ووضعها بعيدا عن مصاف الريادة، إلا في حدود التاريخ للحدث، لتسير على منوالها وبذات المطبعة «الإيمان» التي صدرت عام 1926 لتكون لسان حال المملكة المتوكلية، وصولا إلى أول مجلة وطنية كان لها تأثير على مجرى تطور الصحافة اليمنية والحركة الوطنية بشكل عام وهي مجلة «الحكمة» التي صدرت في صنعاء عام 1938 (عمر الجاوي، عشر سنوات ولايزال حاضرا ص 198)، بينما جاءت «صوت الجزيرة» كأول صحيفة عدنية تصدر في عدن عن مكتب النشر البريطاني (المرجع السابق)، لتقر في الأذهان وبجدارة صحيفة «فتاة الجزيرة» كأول صحيفة عدنية بمقاييس العصر وبمهنية الصحافة المتعارف عليها، مع أحقية أن تدرس بعناية صحافة المهجر الحضرمية، وتلك التي صدرت في الداخل الحضرمي قبل «فتاة الجزيرة».

إن كل ما هو ماثل أمامي الآن ليس لغرض الرصد والتحري والتاريخ لنشوء وتطور الصحافة في بلادنا، وقد أشبع هذا الموضوع دراسات أكاديمية لاتذهب غالبيتها إلى أبعد من نيل الشهادة، ولكنني إزاء ريادة امتازت بها صحيفة «الأيام» التي نحتفي بيوبيلها الذهبي اليوم بعد أن انقضى من عمرها المديد- إن شاء الله- خمسون عاما بالتمام والكمال منذ أنشأها عميد الدار الأستاذ الكبير محمد علي باشراحيل- رحمه الله- في العام 1958، ولأن الرجل العصامي متشبع بروح المثابرة والعمل فقد غدا واحدا من أعلام الصحافة والمجتمع، ودخل بلاط صاحبة الجلالة برؤية عصرية تنادي بالحرية والقيم الإنسانية والذود عن قضايا المواطنين، ليس في عدن المستعمرة، وإنما في كل بقاع الجنوب والشمال على السواء، مع وضوح مبكر لفكر القومية العربية ومناصرة قضايا الأمة العربية دون خوف أو وجل حتى إن عرضه ذلك لمخاطر جمة.

وليس سهلا على الإنسان أن يبدأ من نقطة الصفر ليتربع على عرش صاحبة الجلالة، إلا أن يكون بمقدرة وكفاءة وكفاح محمد علي باشراحيل، ومعه بنفس تلك الروح المثابرة والعزيمة القوية شريكة حياته السيدة الجليلة سعيدة جرجرة- رحمهما الله رحمة الأبرار- لتكون «الأيام» دارا وصحيفة وملجأ للآراء الحرة وللمهنية الصحافية المتقنة في الخبر والصورة والاستطلاع.. إلخ، في ظل أعراف تؤصل للمهنة سياجا من الأخلاق الرفيعة، لاتتجاوزه إلا الصحف الصفراء والمهترئة، التي تنشأ بإرادة منقوصة لاتتمثل في المهنة أخلاقياتها النبيلة ودورها التنويري والتربوي، وتذهب إلى الإثارة والابتذال والتعرض لخصوصيات الناس، وما أكثرها اليوم.

ويفطن صاحب «الأيام» منذ البدء لأهمية (الحرية) في ازدهار الكلمة المقروءة، فيقف معترضا على أساليب التضييق والإلغاء، ورافعا صوتا مسموعا ومؤثرا يطالب بالحريات إلى أبعد حدودها المشروعة، فيقول الباشراحيل متضامنا مع صحيفة «الأشعة» التي أوقفتها السلطات في السلطنة الكثيرية: «ولم يكن هذا الخبر بالنسبة لنا مفاجئا، لعلمنا بأن رجال الحكم في هذه السلطنة لايرحبون بالآراء الحرة، ويضيقون ذرعا بالصحف التي تسلط الأضواء على مكامن الخطأ.. نقول هذا لأن صحيفة «الأيام» بالذات تعرضت لشتى المضايقات في السلطنة إلى حد اضطررنا معه إيقاف إرسالها إلى السلطنة، لا لشيء سوى أنها تحمل آراء حرة حول الوضع الراهن». «الأيام» العدد 756 في 19 يناير 1961. ولاتعليق لدينا سوى (ما أشبه الليلة بالبارحة)!.

فمع النجاح المهني المتوشح بوشاح أخلاقية المهنة فإن أعداء النجاح والحرية مايزالون على ذات السجية، وإن تبدلت الوجوه والمواقع والزمن، وسوف لن نجد لأمر المبادئ وقيم الحرية الراسخة في عقل وفكر باشراحيل «الأيام» تبديلا تفرضه مساومات أو حسابات خاصة، لكنه في ذات الوقت لايجد حرجا من الإشادة بالمواقف المسئولة التي تستجيب لنداء العدل والإنصاف، فها هو في (كلمة اليوم) المعنونة (العدل أساس الملك) يشيد بمواقف السلطان فضل بن علي سلطان السلطنة العبدلية بعد أن «أثبت أن صدره يتسع للنقد- النقد البناء طبعا» والأمر يتعلق كما يشرحه الباشراحيل الكبير بسوء معاملة التجار اليمنيين من قبل سلطات جمارك لحج، وقد نشرت شكوى الفريق الأول في «الأيام» فما كان من السلطان إلا أن اهتم بأمر الشكوى وأنهى الأمر، وينقل الباشراحيل في نفس (الكلمة) أن هذه القضية ليست الأولى التي يستجيب ويتفاعل لحلها سلطان لحج فقد «سبق أن نشرنا نقدا على السلطات العبدلية عندما اعتقلت الشيخ علي قائد الرزيحي، أحد مشايخ الصبيحة ورفاقه، لأنهم انتقدوا السلطنة في بعض تصرفاتها، وكانت هذه الصحيفة بالذات هي التي نشرت مقالات للشيخ علي الرزيحي أدت إلى اعتقاله، وكان نقدنا مبنيا على أساس احترام حرية القول، وأن الإنسان من حقه أن يعبر عن رأيه بحرية دون أن يعرضه ذلك إلى الاعتقال والتنكيل، لاسيما أن ممارسته لحقه هذا ليس فيه إضرار بأمن الدولة، واهتم عظمته (يقصد السلطان فضل بن علي) بالأمر، وبعد الفحص والتدقيق أمر بالإفراج عن الشيخ الرزيحي، وخفف عن زملائه الإجراءات التي اتخذت ضدهم». «الأيام» العدد 685 في 28 أكتوبر 1960، وأيضا أقول تعليقا على ما ورد (ما أشبه الليلة بالبارحة)!.

لقد غيب دور وطني كبير لعبته صحيفة «الأيام» ومثيلاتها من صحف عدن في الدراسات التي دبجت في فترة التسلط الأيديولوجي الواحد منذ 1967، وشوهت المواقف الناصعة لمقاصد يراد منها التبجيل والتهليل للرأي الواحد السائد، وتجيير ماضي الصحافة العدنية بالاتجاه الذي يخدم أغراضه بالتسفيه والانتقاص أو بالكذب والمبالغة، وخلق أدوار من العدم، فعندما أراجع مواقف الأستاذ محمد علي باشراحيل من وحي كتاباته الموثقة في «الأيام» منذ صدورها في العام 1958 حتى إيقافها في 1967 عن عدن ومحميات الجنوب وقضية الاستقلال، وموقفه الداعم للثورة في شمال الوطن، ونضاله الذي لم يفتر يوما في مضمار القضايا العربية والقومية، ومناصرته للثورة والوحدة العربية أدرك ما الذي جعله في طليعة الرواد المناضلين والمخلصين لوطنهم وشعبهم ولعروبتهم، وقد عانى كثيرا وتعرض لكثير من المضايقات، حتى محاولات الترويع والقتل، وكان حريا بالعقل اليمني بعد الاستقلال أن يضع أكاليل الزهور على رؤوس هؤلاء الرواد، وعلى رأسهم الباشراحيل بدلا من إقصائهم وإبعادهم عن وطنهم، وإيقاف صحفهم، وتشويه نضالتهم وأدوارهم الوطنية، وهو الأمر الذي يجر نفسه- للأسف- حتى اليوم الذي لم نشهد فيه إنصافا حقيقيا لكل الرواد والمناضلين بتخليد أسمائهم وإدراج سيرهم ومآثرهم في المناهج الدراسية، ووضع كتاباتهم بين أيدي طلاب الجامعات اليمنية، وبالأخص كلية الإعلام في صنعاء وأقسام الإعلام في الجامعات الأخرى.

وليس أروع من أن أختتم مقالي المتواضع- والعجل- هذا في ذكرى العزيزة علينا جميعا صحيفة «الأيام» بمناسبة بلوغها نصف قرن من العطاء والخدمة الصحفية الراقية بدءا بالمؤسس العملاق الأستاذ محمد علي باشراحيل، ووصولا إلى عهدها الزاهر اليوم- رغم المتاعب والعقبات والمطبات المصطنعة- بقيادة الزميلين الرائعين الأستاذين هشام وتمام باشراحيل وأبنائهما المثابرين.. ليس أروع من أن أختتم بهذه الكلمات لفقيد الصحافة والأدب والنضال الوطني الأستاذ عمر الجاوي: «إن النظام الذي يحجر على المواطن حرية الرأي، ويقيد الصحافة لايمكن أن يعيش طويلا، لأنه يخالف طبيعة الأشياء، ويحول الإنسان المواطن إلى مسخ غير قادر على الإبداع والتطور».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى