الراوحي .. حنجرته أصدق أنباء من القدم ..!

> محمد العولقي

> * تشتهر عدن ببركانها الخامد رابضا على فوهة (كريتر)، لكن بركانا إنسانيا ثار وبقيت توابعه مرسومة على لاعبين سيماهم في وجوههم .. إذا أردت أن تستقرئ تاريخ نادي (وحدة عدن) ستجد أرشيفه محفوظا في حنجرته الذهبية ، و سترى الأرقام الذهبية معلقة على حباله الصوتية .. لم يكن فنانا يعزف على العود، أو لاعبا يعزف بقدميه ، لكنه كان فنان المدرجات الأول بلا منازع، يعزف أروع سيمفونيات التشجيع والمؤازرة على أوتار حنجرته.

* رحل صامتا متوجعا من مآلات ناديه الصعبة ، لأجل الأخضر تهتكت حباله الصوتية، ولأجل فرسان الفيحاء حمل كفنه على حنجرته، وكانت حنجرته فندق (فايف ستار) تستوعب كل نجوم (الوحدة)، تمدهم بلوازم القوة والعنفوان ، لم يغب يوما ما عن مباراة لفريقه، هتافه يملأ كيان لاعبي العصر الذهبي لنادي (وحدة عدن) ..

يفوز (الوحدة) ينتشي ، يخسر (الوحدة) يبكي بكاء جنائزيا لا مثيل له ، لا يعتدل مزاجه إلا وسط المدرجات، ولا يرى من ألوان الطيف السبعة سوى اللون الأخضر ، عاش حياته منقبضا و ودعها حزينا مهموما ، شيعوا جثمانه و كأنما شيعوا تاريخ (وحدة عدن)، إذا كان مدربو (الوحدة) و أجهزتهم الإدارية و لاعبوهم صنعوا نصف تاريخ (الوحدة)، فهذا الرجل الذي ملأ ملاعبنا صخبا و ضجيجا صنع النصف الآخر، دون أن يكون في هذا الوصف أدنى مبالغة، هذا لأن حنجرته أصدق أنباء من القدم و القلم ..

فنان العود يعتزل ، يتبرم و يبتعد عن حقله الفني مثله مثل فنان الكرة، و فنان مدرجات (الوحدة) عندما تراخت حباله الصوتية رفض التقاعد، وفي لحظة الحشرجة منح الأخضر آخر أنفاس صوته المبحوح ..

أحدثكم هنا عن الراحل (محمد الراوحي)، أول و آخر من بنى للوحدة ألف جنة و جنة على حنجرته، أول و آخر حبيب يطرب ناديه بهمس القوافي و غمغمة السواقي ، أول و آخر من وهب (الوحده) صوته و حياته، وعندنا سكت ناديه عن مغازلة معلقاته ولم تعد البطولات تغريه كما كان في الثمانينات والتسعينات، أطبقت حباله الصوتية على التاريخ، ولم يبح بعدها إلا بدموع حراء لم يسبقه إليها أي متيم أو عاشق ..

عشق (الراوحي) الوحدة صغيرا ، و العشق عند هذا الرجل بلوة ما بعدها بلوة ، فهو عشق قاتل فيه استنزاف لحياته و صحته و ملكاته، كان يعلم أنه اختار طريقا يقصف العمر لكنه لم يتب ولم يندم وهو يقدم حنجرته على طبق من ذهب للاعبين تناسوه في الليلة الظلماء ، حتى في لحظاته الأخيره جاد عليهم بما تبقى له من نبض ..

(محمد الراوحي) بالنسبة لجيل الملك (الأحمدي) و ما تلاه من ترانيم للحاوي (وجدان شاذلي)، لم يكن مجرد مشجع مهووس يقيم المدرجات ولا يقعدها ، لقد كان المخزون المعنوي الذي لا ينضب ، عندما كان يبدو للاعبي (الوحدة) أنهم في غير يومهم، يرتفع صوت (الراوحي) مصدحا بشعاراته و بصوته الأشبه بزلزلة عاتية فتدب في أقدام اللاعبين طاقة خارقة و حيوية ليس لها مثيل ، أحيانا يفوز الوحدة في أوج ضعفه ، و عندما يتساءل اللاعبون كيف فعلوها ..؟ يأتيهم صوت (الراوحي) كبركان ثائر و موج هادر ، فيطمئنون على حاضر ناديهم ..

هناك مدربون صنعوا تاريخ (الوحدة) الكروي ، و هناك لاعبون صالوا و جالوا و جلبوا للأخضر أغلى البطولات ، و دائما هناك (محمد الراوحي) يسكن في قلب و عقل كل لاعب وكل مدرب، يكتب و يدون و يؤرخ ويفهرس و ينحت كل شيء أخضر على قاموس حنجرته ..

المدربون و اللاعبون يتقاضون مكافآت سخية عقب كل فوز أو بطولة ، (محمد الراوحي) لا ، فهو الذي يعطي و لا يأخذ مقابل ما يعطي ، وهل هناك أغلى من الصوت و الحنجرة و اللسان ..؟

رحل (محمد الراوحي) بقلب مثقوب من الألم ، كان يحاول أن يعطي (الوحدة) قبلة الحياة من صوته المبحوح و من دموعه المدرارة ، و عندما شعر ذات مرة بالعجز ناولني ورقة كتب فيها جملة ركبت حروفها من حنجرة تنزف أنينا :

" ماذا أفعل لم يعد لدي حبل صوتي واحد أقدمه قربانا لفريقي ، هل دموعي تكفي للتعبير ..؟"

غاب قمر (الوحدة) عن سماء المدرجات ، فحل الظلام الدامس ، توارى التاريخ بعيدا حاملا على جناحيه حنجرة رجل بسيط يستحق أن ينال لقب شهيد المدرجات ، هل هناك من تذكره يوما و اعترف بفضله على ناديه الذي أصبح مأوى للغربان و البوم و الجراد ..؟

نعم .. تلقيت رسالة ( واتس) من ملك مملكة الفيحاء الكابتن (أحمد الأحمدي) اللاعب الحاذق الذي كان يمرر بدقة من يدخل الخيط في سم الإبرة ، يحثني على كتابة خاطرة عن (الراوحي) الصوت الذي كان وراء سر انتصارات (الوحدة) في زمن (الوحدة كسبان في كل ميدان) ، أيام الكرة الجميلة التي كانت فيها نجومية (الراوحي) تفوق بمراحل نجومية بعض لاعبي (الوحدة) ..

و طالما وقد فتحنا سيرة رجل قدم حياته لناديه، فلي رجاء في صورة سؤال عند رفاق الكابتن (الأحمدي) ينتصر للراوحي في قبره :

هل يمكن للاعبي الوحدة الذي يشعرون بفضل حنجرة (الراوحي) على تاريخهم أن يقيموا أمسية أو ندوة أو مهرجان كروي يخلد هذا الرجل ويعرف هذا الجيل الفوضوي العاق و المعاق من يكون (الراوحي) ..؟

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى