​حرب اليمن في ذاكرة ضابط مصري

> حسن العديني

>
استغربت من نفسي. فالكتاب صدر في 2014، وأنا أتردد كثيرًا على بعض مكتبات الهيئة العامة المصرية للكتاب، ولم يقع بصري عليه إلا في زيارتي، الشهر الماضي، لمكتبة الهيئة بشارع شريف. زاد على ذلك أن العنوان واضح بارز لا تموهه ظلال ولا رموز "يوميات ضابط في حرب اليمن"، مع اسم المؤلف "محمود مبروك" أسفل الغلاف الأول، وصورته ببزته العسكرية.

بعض كبار الضباط سجلوا تجربتهم في اليمن، اللواء "أنور القاضي" أول قائد للقوات المصرية في اليمن، والذي تولى بعده الفريق "عبدالمحسن مرتجى".
كما أن صحفيين مصريين زاروا جبهة الحرب في اليمن "مكرم محمد أحمد" و "جمال حمدي" وآخرون. غير ذلك، فقد كتب البعض في سياق حملة إحراق صورة جمال عبدالناصر، وتحطيم منجزاته. ولم يقتصر تشويه التدخل المصري لنصرة الثورة اليمنية، على كتاب مصريين فقط، بل مارسته أطراف يمنية محسوبة على الصف الجمهوري في الشمال، وعلى حركة التحرير الوطني في الجنوب، فضلًا عن القوى المناصرة للملكية في الشمال، والمداهنة للاستعمار في الجنوب.

تنبع أهمية هذا الكتاب أن صاحبه كان ضابطًا صغيرًا حديث التخرج عندما ذهب للقتال في اليمن، وهو يروي من واقع خدمة ميدانية كقائد فصيلة ضمن سرايا إحدى كتائب المشاة المرابطة شمال صنعاء. وقد وصلت الكتيبة ضمن لواء مشاة إلى الحديدة، يوم 17 مارس 1974، وهناك أُبلغت بالتحرك إلى صنعاء لتأمين مطار الرحبة، ثم بعد أسبوعين من التوقف في المدينة الساحلية، توجهوا إلى صنعاء عبر الطريق المعجزة، كما يصفه. وكانوا قد تلقوا وصفًا دقيقًا للطريق بإيضاحات تضمنتها خريطة مع تعليمات بإجراءات احترازية، وهو فهم المعنى عندما شاهد الآليات والمركبات المحطمة والمحترقة على طول الطريق.
من قبل استمعوا في مصر من ضابط كبير انتدبته القيادة العامة، إلى محاضرة عن ميدان المعركة، شرح فيها على الخريطة التقسيم الإداري والمناطق العسكرية والمدن المهمة وأسماء أمراء الحرب والشيوخ المتركزين فيها والأساليب المتبعة في القتال.

والكتاب عبارة عن يوميات اعتاد الضابط أن يسجلها في دفاتره. ولذلك يتوزع للحديث عن التدريب والدوريات الليلية وزيارة المواقع والوجبات اليومية والتسوق في المدينة والمباريات والألعاب الترفيهية.
في أول من أبريل كانت الكتيبة في مواقعها، وفي الخامس منه زارهم الفريق عبدالمحسن كامل مرتجى، قائد القوات المصرية في اليمن، وتحدث إليهم، فقال، "إن العدو الذي نواجهه ليس الشعب اليمني، وإنما شريحة محددة منه، وأن مستوى الوعي السياسي والقومي لديهم تدنى عبر قرون، بسبب القهر والعزلة". ونبه من أن المال يلعب دورًا كبيرًا في شراء بعض الضمائر. هذا المعنى سوف يؤكده له في ما بعد أحد الشيوخ المتعاطفين مع القوات المصرية، فيقول له "إن بعض القبائل يلعبون لعبة المال وتبادل الولاءات، ويغيرونها داخل العائلة والأسرة الواحدة، ملكيون من أجل ذهب السعودية، وجمهوريون حين تغدقون عليهم العطاء، ريالات وقطع قماش وعلاج وتعليم الأولاد في مصر".

والواضح أن تشخيص الشيخ مازال صحيحًا اليوم بعد 6 عقود من الثورة، تعلم خلالها أبناء شيوخ القبائل في جامعات مصر وفي غيرها، وحصلوا على أعلى الشهادات، لكنهم حين رجعوا ظلوا يتكلمون نفس لغة آبائهم حين يكون الحديث عن الدولة والقبيلة، ورغم أن بعضهم التحق بأحزاب يسارية، قومية وأممية، فإنهم في لحظة الاختيار ينحازون إلى القبيلة، وإلى المذهب، وإلى العائلة الصغيرة. ولقد عرفنا نماذج تولت مراكز عليا في الحكومة والإدارة العامة، واستخدمت الوظيفة العامة والمال العام في الحروب القبلية. كذلك، فنحن نشاهد اليوم صورًا جديدة من تغيير الولاء وتبادل الأدوار بين الإخوة وأبناء العمومة، إذ يتوزعون على أطراف النزاع لكي تمتلئ جيوبهم، وتصان ممتلكاتهم، ثم لا يترتب على أفعالهم غير إطالة أمد الحرب وزيادة معاناة الشعب.

إن استمرار الظاهرة على هذا النحو، قد يستوجب دراسة مستفيضة من علماء النفس الاجتماعي لتفسيرها، وأما العلاج فلا أظنهم يقدرون عليه، ولا غيرهم.
في اليوميات وصف للحياة الصعبة التي عاشها الجنود والضباط المصريون في طبيعة لم يألفوها.. الجبال والسحب والأمطار تجعل الطرق الوعرة بركات ومستنقعات يتعذر سير الناس والمركبات عليها، حتى ليقول في مرات إنهم كانوا يحتاجون إلى قوارب أو لينشات، وليس إلى عربات تجري على عجلات. ويتكرر الحديث عن الدوريات في عربات مصفحة غطى الطين كشافاتها، فيمضي السائق على غير هدى، إلى أن يصده حجر، أو يسقط في حفرة. ولا ينسى الضابط أخبار زملائه الذين وقعوا في كمائن فقتلوا، أو أولئك الذين تطايروا أشلاء بعد أن داست عرباتهم الألغام، وقد وقع هو الآخر في كمين قتل فيه معظم جنوده، ونجا منه بضربة قدر، وإن كان راديو لندن قد أعلن مقتله، حتى إنه يوم عاد في إجازة فوجئ بعض معارفه عندما صادفوه في شارع بالقاهرة.

والرجل لا يروي المصاعب، ولا يتحدث عن الحياة القاسية بلهجة توحي بالندم أو التذمر. على العكس، فقد كرر القول بأنه كان ورفاقه يؤدون واجبًا قوميًا تجاه شعب أُرغم على أن يعيش عهودًا طويلة خارج التاريخ.
إنه لا يقدح في اليمنيين، بالرغم من أنه واجه الموت من قبل بعضهم، فالإنسان اليمني في رأيه شديد الصلابة، لماح وذكي. وهكذا قال لجنوده في أول عيد أضحى له في اليمن: "نحن نقضي هذا العيد في أمجد وأعظم الأعمال، نقضيه في نصرة قضية عادلة ومقدسات نعتز بها: الثورة والوطنية والقومية".
في ذلك العيد سوف يتلقون مفاجأة لم يتوقعوها، ولم يصدقوا أن الرئيس جمال عبدالناصر يمكن أن ينزل بلدًا مسلحًا رجاله حتى الآذان. ظل ذلك الاحتمال ضربًا من الخيال، لكن المستبعد حصل. والأخطر منه أنه نزل بسيارة مكشوفة في الطريق الذي كان يحرسه هذا الضابط، ليس بعيدًا عن الكمائن التي طالما تعرضوا لها.
يوميات ضابط صغير في الرتبة، كبير في المرتبة.. يوميات تستحق القراءة.

المشاهد نت

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى