​العين لا تعلو على الحاجب!

> ​تحت ظلال تاكسي عتيق، يقف وحيدا مثل السيف فردا، يحدق في تلك السيارة التي قاطعتها يداه المرتعشتان، يبدو كهلا حائرا يتفرس في ملامح المارة بعينين مسهدتين ذهب بريقهما، لقد جفت ينابيع العطاء في بدنه منذ أن قض مرض الرعاش مضجعه.
* من بعيد، كنت أرقب هذا الرجل الأشيب مشدوها بعراقة ماضيه مع الصفارة، لم أجد في ذلك الحكم الصارم الحازم الأمين المؤتمن، الذي يقلب ناظريه بعجز بين الوجوه، سوى شبح لذلك العملاق الذي عرفته قاضيا مهيبا لا يعرف في الحق لومة لائم
* لم يذهب البريق و العطاء و معهما العافية فحسب، إنما ذهب عنه أيضا من كان يتصورهم زملاء و أخوانا يدخرهم لساعة الشدة و العسر.

* يزفر من أعمق أعماقه زفرة حارة، وهو يحدق في ذلك التاكسي الذي طالما شاركه رحلة الكفاح عن لقمة العيش، اليوم لم يعد قادرا على قيادته وتلبية رغبات الزبائن، مرض الرعاش الذي داهم يديه فجأة أنهى علاقته بأعز و أغلى رفيق.
* إذا صادفت هذا الرجل في المعلا وهو يبتسم ابتسامة واهنة لا تهدر الفرصة، توكل على الله، اجلس إلى جواره، وثق أن القدر حقق لك أمنية يتمناها كل رياضي غير ضال، عاش ربيع هذا الرمز الجنوبي الأصيل الذي يعاني اليوم ضيق ذات اليد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* عرفتموه طبعا، إنه الحكم الدولي الجنوبي العملاق (علي حاجب)، قاضي الملاعب المهيب، وحكم الساحة الذي يتخذ قراره في جزء من الثانية.
* تذكرون حتما صرامته في الملاعب وشخصيته القوية، وجرأته في توزيع الكروت الملونة دون أن يضع اعتبارا لثقل ووزن نجوم الكرة المدورة، حنكته في اتخاذ القرارات المصيرية، سرعة بديهته، سيطرته على أجواء المباريات الصعبة، قدرته الاستثنائية على تطويق المباريات الصعبة، والخروج بها إلى بر الأمان، لياقته البدنية الخارقة، منسوب تحركاته في الملعب، كان يبدو مثل نقطة التقاء بين عذوبة النهر وملوحة البحر، حتى ليبدو، لمن يتابع إلمامه بكل صغيرة وكبيرة، أنه الرجل الخارق (زورو) ذو العيون الثلاث، يرى مربعات و زوايا الملعب بقوة إبصار زرقاء اليمامة.

* قلت من قبل عن علي حاجب: إما أن يكون حاكما يظهر الاستثناء كله، أو ملاكا لا يتنفس بغير رحيق الزهر، إما أن يكون على قمة هرم الكرة كقاض يفك طلاسم قضايا الكرة بخبرته وحاسته السادسة، أو يكون مستشارا كرويا في الاتحاد الآسيوي يحاضر ويقدم للحكام خلاصة تجربته الطويلة مع التحكيم الكروي.

* لم أر الحكم الدولي علي حاجب طوال تراكمية تحكيمية عمرها يناهز الثلاثين عاما سوى حكما محايدا، فاقت حياديته الكروية منظومة دول عدم الانحياز.
* كان علي حاجب حكما دوليا يوزع عدله على المباريات، يتحكم في زمام قرارته، ولا يخشى سطوة فريق أو شهرة نجم، عدله سيف مسلط على رقاب الجميع دون استثناء، لا يجامل و لا يتفلسف في القانون، يطبقه بحذافيره بعيدا عن مواويل الاجتهادات.

* منذ أن أطلق الصافرة الدولية عام 1973، وهو يمشي في ميدانه واثق الخطوة على طريقة الملوك، صال وجال داخليا، ولم تسجل عليه يوما ملاحظة أو لفت نظر، كان نموذجا للحكم المثالي المغتسل من أدران أخطاء سبق الإصرار والترصد، وعلى المستوى الدولي كان بارعا مهيبا بفضل شخصيته الصارمة التي تضبط حدود الملاعب، وتحد من تداعيات المتاعب، يمتلك قوة بدنية هائلة وخارقة،  اكتسبها من كونه عداء وبطل المسافات القصيرة.

* عام 1984 على ملعب الشهيد الحبيشي وفي ربع نهائي كأس الجمهورية بين فريقي التلال وحسان، فغر أكثر من 15 ألف متفرج، ضاقت بهم مدرجات الملعب، أفواههم في دهشة، فقد أقدم الحكم علي حاجب على اتخاذ قرار صعب ومثير في نفس الوقت.

* ما كادت مباراة القمة تدخل أجواء الوقت الإضافي، حتى وقعت الحادثة التي ليس لوقعتها كاذبة، كرة مشتركة في منتصف الملعب بين العملاقين أبو بكر الماس ومحسن ماطر، يتدخل الثاني لينتزع الكرة من الأول - وقد كان وقتها رقيبا فوق العادة للاعب فوق العادة بالطبع أبو بكر الماس - يسقط الماس أرضا وتنتقل الكرة إلى مكان آخر، الماس يقبض على حفنة من التراب الأحمر، يبدو غاضبا، في حين ندت من ماطر ابتسامة غامضة، فجأة ودون سابق إنذار يستدير الحكم علي حاجب نحو أبو بكر الماس تحديدا، وبدون أن يتبادل معه كلمة واحدة أخرج الكارت الأحمر من جيبه، ثم أشهره في وجه الماس مغادرا الملعب بمنتهى الأدب والاحترام، وسط دهشة وذهول رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم البرازيلي جواو هافيلانج ضيف الجنوب الكبير في ذلك الوقت.


* لا أحد يدري بماذا تفوه أبوبكر الماس في حق زميله الحساني محسن ماطر؟ هل شتمه بلفظ قاس؟ هل تلفظ على ماطر بكلام جارح ؟
لا أحد يدري عن السبب الحقيقي الذي دفع الحكم الصارم علي حاجب إلى رفع بطاقة الطرد الحمراء دون المرور بإنذار شفهي كما جرت العادة، وبقيت الواقعة مقيدة في السجلات على أنها "سوء سلوك". لا أدري متى سيبوح الحكم الشجاع علي حاجب بالسر، ويكشف عن محتوى اللفظ
الذي تسبب في حصول قائد الكرة الجنوبية أبو بكر الماس على الكارت الوحيد في مشواره الكروي الناصع خلقا وأدبا وتألقا؟

* لا أظن أن حكما آخر قادر على طرد الماس في ذلك الوقت، حين كان الجوهرة القائد الكبير والأيقونة التي لا تمس، لكن علي حاجب لم ينظر لنجومية (الماس) وسطوته في الملاعب ونجوميته في الصحافة والإعلام، و طالما أخطأ في حق زميله فالجزاء من جنس العمل، لقد قدم الحاجب درسا في كيفية جعل اللاعبين متساوين أمام القانون.

* القانون عند علي حاجب مقدس، لا يهادن في مواده، ولا يتفلسف في فقراته، هو دائما جاهز بقراراته الجريئة التي لا تضع حسابا لوزن وحجم الفرق واللاعبين.
* انحبست أنفاس جمهور ملعب (الحبيشي) و اتسعت عيون المشاهدين خلف الشاشة الفضية دهشة وانبهارا وعلي حاجب يفاجئ لاعب الوحدة، الألمعي في ذلك الوقت، حسين عمر بكارت أحمر أمام فريق شمسان، مع بداية النصف الأول من المباراة، هاج لاعبو الوحدة، وماجوا، ورفض القائد حينها (الأحمدي) تقبل القرار، فلم يكن هناك من بد سوى إنهاء المباراة بصافرة جريئة للحكم (علي حاجب).

* وكما أن العرب احتارت في تحديد هوية (طيور الأبابيل) التي رمت (الأحباش) بحجارة من سجيل، فقد احتار الشعب الجنوبي في تحديد ميول الحكم (علي حاجب)، مرة قالوا إنه (تلالي) لكنه لم يجامل (التلال) يوما، رغم أنه يعلم أن التلال هو نادي السياسيين بامتياز، قالوا عنه وحدوي، لكنه لم يساند الوحدة ولو برمية تماس باطلة، مع أنه يعلم أن الوحدة نادي الفئات الشعبية المهمشة، قالوا عنه شمساني بحكم سكنه، لكنه لم يدعم شمسان ولو بركلة ركنية خاطئة.

* يعتبر علي حاجب وجه السعد على الكرة الجنوبية، فهو عندما تقلد الشارة الدولية بملعب الحبيشي عبر الأخ محمد غالب أحمد، كان الرئيس علي ناصر محمد شاهدا على تألقه وهو يقود مباراة الجنوب ومنتخب العراق دون أن يسجل عليه العراقيون ملاحظة واحدة، رغم أنه ضبط تشنجات العراقيين مع نهاية المباراة، التي آلت إلى فوز منتخبنا بهدفي محمد جعبل ومحمد شرف.

* بعد تحقيق "الوحدة" عانى علي حاجب من تقلبات ذوي القربى، نقلوا عمله من عدن إلى صنعاء، رفضوا تفريغه للتحكيم، عاملوه معاملة ابن الخالة، وعندما ترك الساحة التحكيمية على مضض، رموا أرشيفه وخبرته وبطولاته الدولية في الزبالة.
* حتى عندما خجلوا من أنفسهم أسندوا للحكم المتقاعد قهرا وقسرا مهمة المراقبة الفنية للحكام، وعندما شعر أن تقاريره وتوصياته وتقويمه للحكام ترمى في سلة المهملات استقال مرتاح البال والضمير دون أن يستسلم لمغريات القرش الذي لا يلعب إلا بحمران العيون.

* غادر علي حاجب الساحة الكروية بملف أبيض وخبرة دولية لم يسبقه إليها إلا الحكمان التاريخيان أحمد محمد الفردي والمرحوم أحمد محمد مقبلي.
* ورغم هذا التاريخ الذي يمشي على قدمين إلا أن الحاجب لم يحظ بالمكانة التي يستحقها، أكلوه لحما ورموه عظما، حتى عندما هجم عليه المرض لم يجد مسؤولا يشتري له ثمن إبرة الرعاش.

* كان الحاجب يصحو مع نجمة الفجر ليؤمن لعائلته قوتا من عرق جبينه بواسطة تاكسي قديم الطراز، وجد فيه وفاء لم يجده في أصدقاء الليلة الظلماء.
* اليوم انقلبت حياة الحاجب رأسا على عقب، لم يعد قادرا على قيادة سيارته، ولا يدري كيف يطعم عائلته من جوع، كما أن السبل ضاقت به فلم يستطع تدبير قيمة إبرة علاج تقيه قليلا من آلام ارتعاش اليدين.

* الحكم الدولي الكبير يعاني ويلات المرض وآلامه الساقطة لا ترحم، لم يجد عونا لا من حكومة "الهبارين" و لا من وزارة "
المنافقين"، يموت يوميا بدل المرة ألفا متحسرا على أمجاد تاريخ يهد كتفه، لكنه في ساعة العسر لم يمنحه ولو قطرة عسل في برميل الخل.

* و من يعتقد أن الحاجب، بتاريخه الذي يساوي وطنا كامل السيادة، سيطرق باب العيسي أو ميسي أو يهاتف وزارة البكري بحثا عن لفتة مساعدة فهو مخطئ، لأن مثل هذا الرجل صاحب كبرياء، وليس مستعدا أن يضع تاريخه في غربال التسول والتوسل.
* يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
"أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل".
ويقول أيضا:
"إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه"، وهذه منزلة نغبط عليها رمزنا علي حاجب، و ندعو له من صميم قلوبنا بالسلامة، فمثله سيظل حاجبا يعلو عيوننا في السراء والضراء!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى