تداعيات الحرب على شبكة الأمان الاجتماعي في اليمن

> تقرير/ د. مطهر العباسي :

> مع مطلع عام 1995، تبنت الحكومة حينها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري بدعم ومساندة البنك والصندوق الدوليين، وفي لغة المؤسستين سميّ برنامج "التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي"، وتضمّن عددًا من المكونات؛ أهمها: تحرير سعر صرف الريال، ورفع الدعم عن بعض السلع المستوردة (كليًّا عن القمح والدقيق؛ وجزئيًّا عن المشتقات النفطية)، وخصخصة العديد من مؤسسات القطاع العام؛ مما أدى إلى ارتفاع حادّ في مستوى أسعار السلع والخدمات، وأثّر سلبًا على مستوى معيشة الشرائح الاجتماعية الأقل دخلًا. ولمعالجة آثار ذلك على الأسر الفقيرة، في الريف والحضر، اتخذت الحكومة العديد من الإجراءات خلال الثلاث السنوات الأولى من إنشاء منظومة شبكة الأمان الاجتماعي لتعزيز الحماية الاجتماعية للمتضررين، شملت صندوق الرعاية الاجتماعية، والصندوق الاجتماعي للتنمية، ومشروع الأشغال العامة، كما عززت قدرات صناديق التقاعد المدني والعسكري والأمني والخاص. وعلى مدى عشرين عامًا تقريبًا، ساهمت تلك الصناديق في التخفيف من معاناة المحتاجين، وفي توليد فرص عمل، والحد من البطالة، وبناء مشاريع تنموية في عموم المحافظات، إضافة إلى رعاية المتقاعدين وضمان حصولهم على مرتباتهم الشهرية دون انقطاع.

ولتنفيذ ذلك، أسست الحكومة، في عام 1996، صندوق الرعاية الاجتماعية، وقدمت له الدعم المالي بهدف تقديم الإعانات النقدية للأسر المحتاجة والفقيرة، كل ثلاثة أشهر، بدءًا بمئة ألف مستفيد حتى وصل إلى قرابة 8 ملايين مستفيد (حوالي 1.5 مليون أسرة) في عام 2014، وحينها بلغ حجم الإعانات السنوية أكثر من 62 مليار ريال. وحظِيَ الصندوق بدعم بعض المانحين، كما حصلت الحكومة على منحة مالية من "الشقيقة الكبرى" تكفي لتغطية سنة ونصف من الإعانات النقدية للأسر الفقيرة والمحتاجة، عبر الصندوق، ولكنها للأسف تبخرت وضاعت في دهاليز حكومة الوفاق الوطني قبل رحيلها، ولم يصرف منها شيء للمستحقين الفقراء.

يمكن القول إن الحرب ألقت بظلالها السلبية على نشاط كلٍّ من الصندوق الاجتماعي للتنمية ومشروع الأشغال العامة، فقد مثّلا أنموذجًا رائعًا للمؤسسات الفاعلة في تحسين القدرة الاستيعابية لليمن؛ للاستفادة من القروض والمساعدات وفقًا لأفضل الممارسات الدولية وبانضباط عالٍ لمعايير الشفافية والمساءلة.

ومع اندلاع الحرب، مطلع عام 2015، تجمد نشاط الصندوق؛ حيث توقفت الحكومة عن تمويله، وفقد الملايين من المحتاجين، في كافة محافظات الجمهورية، الإعانات النقدية المتواضعة، بل إن الحرب زادت من انتشار الحاجة والفاقة بوجود حوالي 4 ملايين نازح ومتضرر من مآسي الحرب ودمارها، وقد أشارت تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 24.3 مليون شخص في عام 2020، كانوا معرضين لخطر الجوع والمرض، وكل ذلك زاد من مساحة الاستهداف للصندوق، بصورة تفوق بكثير قدراته وإمكاناته. ولمعالجة هذه المشكلة، تعاونت الدول المانحة لتقديم الإغاثة الإنسانية للنازحين، كما أقر البنك الدولي المشروعَ الطارئ للاستجابة للأزمات، ومن خلاله تم توزيع الإعانات النقدية للأسر المحتاجة المعتمدة لدى صندوق الرعاية الاجتماعية عبر منظمة اليونيسف.

كما أنشأت الحكومة في عام 1996، مشروعَ الأشغال العامة من أجل إيجاد أكبر قدر من فرص العمل للعمالة الماهرة وغير الماهرة، وتوفير الخدمات الأساسية للفئات الأكثر احتياجًا، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والبيئية للفئات الفقيرة. وخلال عشرين عامًا تمكن المشروع من تنفيذ أكثر من خمسة آلاف مشروع في قطاعات عديدة، مثل: الصحة، والتعليم، والمياه والصرف الصحي، والطرق، والزراعة، والأسماك، بتكلفة بلغت حوالي 500 مليون دولار، شكلت مساهمة الحكومة قرابة 15 %، ونجح المشروع في جذب التمويلات من بعض الجهات المانحة، مثل: البنك الدولي، وصندوق النقد العربي، والصندوق السعودي، وغيرها، وساهم المشروع في توليد مئات الآلاف من فرص العمل المؤقتة والدائمة، ووصلت خدمات المشاريع إلى الملايين من المستفيدين في عموم المحافظات.

ومع نشوب الحرب، توقف تمويل الحكومة للمشروع، كما تم تجميد التمويلات من المانحين، وواجه المشروع تحديات جمّة، وبحكم أدائه المتميز في تنفيذ المشاريع تمكن من الحصول على بعض التمويلات من عدد محدود من المانحين، على الرغم من قدرته على تنفيذ مشاريع عديدة في كل المحافظات.

وفي عام 1997، تم إنشاء الصندوق الاجتماعي للتنمية بهدف المساهمة في تمكين الأفراد والأسر والشرائح الفقيرة عن طريق إقامة المشاريع الخدمية والإنتاجية، وصولًا إلى الإسهام في الحد من البطالة والفقر والتعامل مع الآثار الجانبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، وتخفيف وطأة إجراءاته عن كاهل محدودي الدخل، ولقي الصندوق الدعمَ والمساندة من الحكومة والعديد من الجهات المانحة، واستطاع خلال عقدين من الزمن تنفيذ أكثر من 14.7 ألف مشروع في قطاعات مختلفة لتنمية المجتمعات المحلية في عموم البلاد، شملت الزراعة والري، والتعليم، والصحة، والمياه والصرف الصحي، والطرق الريفية، والبيئة والتراث الحضاري، وبناء القدرات، والتمويل الأصغر، وغيرها، وبلغت إجمالي تكاليف تلك المشاريع قرابة (2.1) مليار دولار، كانت مساهمة المانحين في شكل قروض ميسرة ومساعدات حوالي 90 % منها، والباقي مساهمة الحكومة. ومن أهم الجهات المانحة للصندوق: البنك الدولي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والصندوق السعودي للتنمية، وبريطانيا، وساهمت تلك المشاريع في توليد الملايين من فرص العمل المؤقتة والآلاف من فرص العمل الدائمة، واستفاد من مشاريعه الملايين من السكان في كلٍّ من الحضر والريف والمناطق النائية.

اختلال الدعم
ومنذ اندلاع الحرب، توقفت الحكومة عن دعم أنشطة الصندوق، كما توقف معظم الجهات المانحة عن تقديم التمويلات للصندوق باستثناء عدد محدود، أهمهم البنك الدولي الذي أقر البرامج الطارئة للمساعدة، لتنفيذ مشاريع في عدد من القطاعات ذات الأولوية. وعلى الرغم من ذلك، تراجع نشاط الصندوق بشكل كبير مقارنة بما كان عليه قبل الحرب، وعلى الرغم من احتوائه على إمكانات مؤسسية وبشرية قادرة على المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذا ما توافرت لها الموارد المالية اللازمة.

ويمكن القول إن الحرب ألقت بظلالها السلبية على نشاط كلٍّ من الصندوق الاجتماعي للتنمية ومشروع الأشغال العامة، فقد مثّلا أنموذجًا رائعًا للمؤسسات الفاعلة في تحسين القدرة الاستيعابية لليمن، للاستفادة من القروض والمساعدات وفقًا لأفضل الممارسات الدولية وبانضباط عالٍ لمعايير الشفافية والمساءلة، وساهما في تقديم صورة مميزة لإدارة المشاريع الممولة خارجيًّا، وحظيا باحترام وتقدير المؤسسات الدولية والإقليمية.

ومن جانب آخر، شكلت صناديق التقاعد المدني والعسكري والأمني والخاص مكونًا رئيسيًّا في شبكة الأمان الاجتماعي، باعتبارها تقدم خدماتها لشريحة مهمة في المجتمع، قضت كل عمرها الإنتاجي في خدمة الدولة أو في القطاع الخاص، وخلال الثلاثة العقود الماضية استطاعت تلك الصناديق أن تراكم مدخرات الموظفين حتى بلغت مئات المليارات من الريالات وظلت ملتزمة بالوفاء في صرف مرتبات المتقاعدين، وفقًا لاختصاصها، وللأسف فإن تلك الصناديق استثمرت أموال المتقاعدين في السندات الحكومية لدى البنك المركزي، بلغت في نهاية عام 2014 أكثر من 800 مليار ريال. وبعد مرور عام ونصف من نشوب الحرب، واجه البنك المركزي والقطاع المصرفي أزمة حادة في السيولة؛ مما أدى إلى تبخر أرصدة الصناديق لدى البنك المركزي، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه المتقاعدين في كل القطاعات، كما أن الحكومة أضحت عاجزة عن مد يد العون والتمويل لتلك الصناديق؛ مما يجعل مستوى معيشة المتقاعدين في وضع لا يحسدون عليه، كما أن حقوق الموظفين الذين سيحالون للتقاعد، حاضرًا ومستقبلًا، ستذهب في مهب الريح إذا لم يكن هناك برنامج وطنيّ لإنقاذ الصناديق من أزمتها المالية، وإنقاذ حياة مئات الآلاف من المتقاعدين في أجهزة الدولة أو في مؤسسات القطاع الخاص.

وإذا كان هناك من دروس مستفادة خلال سنوات الحرب لمعالجة التحديات والأزمات التي تواجهها مؤسسات شبكة الأمان الاجتماعي ومنظومة الحماية الاجتماعية بشكل عام، فإن الواقع المعاش لحياة الشرائح الفقيرة أو المعرضة للفقر تحتم على ذوي العقول والألباب من أصحاب القرار، التوقفَ عن الاستمرار في حرب عبثية مفتوحة دون أفق زمني ودون رؤية صائبة للسلام والاستقرار، ووضع حدٍّ لمآسي ومعاناة شرائح واسعة من المجتمع، يعيشون على الكفاف في منازلهم أو في مخيمات النازحين ويفتقدون أبسط مقومات الحياة الكريمة.

ومن جانب آخر، فإنه لا بد من تثمين الجهود الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية وضمان الحماية الاجتماعية للأسر المحتاجة والمتضررة من الحرب، عبر المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. وأيضًا تقدير مساهمة البنك الدولي في دعم مؤسسات شبكة الأمان الاجتماعي من خلال تقديم تمويلات مالية موجهة لمشاريع تنموية ولمساعدة الشرائح الفقيرة، بلغت أكثر من ملياري دولار خلال الأربع السنوات الماضية.

* أستاذ الاقتصاد جامعة صنعاء - "خيوط"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى