أصل الكلام.. (اقرأ)

> فهمي غانم

> ي البدء كانت الكلمةُ (اقرأ) هديةَ السماء.. ثم تحولتْ إلى فعلٍ مفعمٍ بالحركة.. كم من معانٍ تختفي خلف الكلمات قد تتصحر ولا تنضج شيئاً كسرابٍ يحسبه الظمآن ماء.. وقد تتحول إلى ينابيعَ للخيرِ ممطرةً فتسقي العروقَ اليابسات.. كم هو رائعٌ أن يتزاوجَ المبنى والمعنى الاسم والرسم عندها تتحول الكلمات إلى قيمةٍ معنويةٍ وجوهرٍ للسلوك القويم والفعل الرشيد.. هنا لم تعدْ الكلمةُ كلمةٌ في جوفِ الفراغ هائمة في اللاوعي بل أصبحتْ سلوكاً يضبط إيقاعَ الحياةِ على نحوٍ غيرِ متخيل.

ما أجمل كلمة (اقرأ) وهي مرسومة بعنايةٍ إلهية رائعة تشئُ إلى مخزونها المعرفي الإدراكي اللامتناهي، علينا أن نستعشر اهميتها لأنها ارتبطت بالعلم وقدرتها على فتح أسرار الحياة صعوداً وهبوطاً في بواطن الأرض وفي عوالم البحار والمحيطات وفي أعالي السموات ومجراتها تلتقط بحساسيتها الغازَ الوجود وسحره وقصةَ الحياة من مبتدأها إلى نهايتها فهي بذلك فعلٌ مضادٌ للعدم.

وجاءت اقرأ على وزن افعل وهو فعلُ أمرٍ مُلزم الاستجابة له لأنه تكليف إلهي عظيم حتى تتحقق مُرادُ الآية بأن يتعلم الإنسان مالم يعلم.. وفي سياقٍ آخر متصل بالقراءة نفسها.. يقول سبحانه وتعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها).. (فتلقى آدمُ من ربه كلماتٍ فتابَ عليه).

الأسماء هنا كلمات هي محل العناية الإلهية إذ أُعطِي الإنسانُ القدرة كي يفك طلاسمها بعد أن عرّفَ أبونا آدم عليه السلام المفاتيحَ الأولى لتشغيل العقل مدعوماً بالتفكير والتأمل لتنويع مصادر المعرفة في ملكوت الخلق والخليقة فكانت الكلمات محل اعتزازٍ كوني مقدس من الباري عزَّ وجل في تعليم الناس وإدراكهم لأفعالهم من خلال الخطأ والصواب لتصحيح وتقويم تجاربهم باتجاه تفعيل الإيجابي ونبذ كل ما هو سلبي.

لم تعد الكلمةُ شكلاً من أشكال الرسم البياني بل إنها تجاوزته لتصبحَ أداةً لغوية ومعرفية وإدراكية وقناة للتواصل لخلقِ التفاهم المطلوب لتحقيق الهدف من وجود الإنسان نفسه كخليفة لعمران الكون وصنع الحياة.

والكلمة تحمل مدلولاتها من خلال محتواها فأما أن تكون حقٍ أو باطل كلمة خيرٍ أو شرٍ، فكانت الحكمة أن يقول المرءُ خيرا أو يصمت، وهذا ما أشار إليه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري في أنّ كلمةً واحدةً قد تكون مقتلك.. لأهميتها ومغزاها..

والقرآنُ الكريم يعطي وصفين وتشبيهين لحال الكلمةِ الطيبةِ او الخبيثة.. فقال تعالى: (ألمْ ترَ كيفَ ضربَ اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعُها في السماءِ).. وقال تعالى أيضاً (ومثلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجُتثتْ منْ فوقِ الأرضِ مالها منْ قرارٍ).

إذن كلُّ المعطيات القرآنية تحثنا على القراءة ومتوالياتها من التأملِ والتفكر والاستنتاج والعيش في المشاهدات البصرية على نحو يعزز مدارجَ الرؤية ويفتح لمدارك القول التنقل في الاطارات الحسنة منه ترطيباً لِلِسانِ المعنى وتحقيقاً لجودةِ التعبير الذي يخرجُ من مشكاةٍ واحد هذبتها (اقرأ) وجعلت منها فعلاً مثمراً ووعياً مدركاً وحلماً سابحاً في ملكوت الكون يلتقطُ من هنا حرفاً يضئ سماءَ المعرفة ويلتقطُ من هناك كلمةً طيبةً تربطنا بأقطار السماء في صفاءها وجمالها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى