كل يناير وأنتم أحرار (2)

> ليس قدر الجنوب وحده أن يشهد صراعا على السلطة داخل الحزب الحاكم، فهناك ما يشبهه في بلدان كثيرة مع اختلاف المقاييس والظروف، والحديث عن أي صراعات جنوبية قديمة لا يقع بالضرورة ضمن "معادلة ممنوعة"، لكنه بالتأكيد يختلف حسب المصدر والنوايا، وتلك هي الإشكالية.

ظل الجنوب عرضة لحملات إعلامية ومحاولة تسليط الأضواء على مرحلة محددة عاشها خاصة من قبل دوائر إعلامية وقنوات لا تدخل في نطاق الأهلية الأخلاقية والمهنية للإفتاء أو التحري ولا تحمل أي نوايا بريئة نظراً لمواقفها السياسية غير المحايدة وأهدافها المكشوفة.

في كل مرة يتم تصوير الجنوب وكأنه شعب مصاب بعاهة مستدامة أقعدته عن النهوض وغيبته عن الحياة مع الترويج لحكاية انقساماته إلى شرق وغرب وإلى أشكال هندسية ومناطق مظلومة وأخرى مذمومة.. إلخ. حتى أنه يتم تصنيف كل فرد فيه حسب منطقته، أي أن الجنوب وفقا لفرضيات البروباجندا الإعلامية شعب لم يعرف الحياة إلا حين نفخت صنعاء فيه روحاً جديدة وأعادته إلى رحاب الوجود، وأن أي محاولة لاستعادة الدولة ما هي إلا العودة إلى تلك البيئة المتصارعة.

هذا ليس كل شيء بالطبع، لأن الفكرة الرئيسية تتمحور حول توطين مفهوم في وعي الأجيال بأن الجنوب مجرد جغرافيا ومواطنين دون كيانية تاريخية سياسية وثقافية أصيلة مع رفض الاعتراف بالهوية المستقلة والسمات الفارقة للديموغرافيا والأرض والثقافة والمصالح وما تراكم عبر قرون طويلة. كل ذلك يعكس حالة إنكار انهيار مشروع الوحدة لأنه جينياً لا يحمل شروط البقاء.

وهناك من يمتلك عقيدة راسخة بأن الحفاظ على الوحدة اليمنية يتطلب شرطين: الأول إضعاف الجنوب وخلق جغرافيات متصارعة فيه مع تكثيف الدوامات الإعلامية لهذا الغرض، أما الثاني فهو الحفاظ على النسيج والتضامن الاجتماعي في الشمال، رغم ظروف الحرب، حتى تتم معالجة وضع السلطة، مع عدم المساس بالثوابت المزعومة.

نعم هكذا تفكر النخب في الأحزاب بدرجات متفاوتة ويترجمها إعلامهم وبعض إعلام الحواضن الإقليمية منطلقين من حقيقة واحدة وهي أن الجنوب القوي سوف يقود بلا شك إلى نهاية وحدة 94. تلك هي القضية الأولى التي تتسع على أساسها الجهود الإعلامية لاستغلال الماضي والحاضر وكل شيء.

بالمختصر المفيد يحاول ذلك الإعلام تصدير فرضيتين: الأولى للداخل الجنوبي، وهي أن يناير كربلاء الجنوب التي قسمته إلى طائفتين متقاتلتين ولن يستطيع أن يتعافى بعدها أبدا. أما الثانية فهي موجهة للإقليم ومفادها أن الجنوبي لا يزال يحمل تراث الحزب الاشتراكي وجذور صراعاته الداخلية والخارجية ولا يفهم غيره سلوكاً وخطاباً، وهذه الأخيرة موجهة بالذات إلى المملكة (ويشارك فيها إخوان المملكة وبعض صقورها)، ومن الرسالتين تلك تستطيع عزيزي القارئ أن تستشف البصمة الوراثية لمهندسي الفخاخ وكيف يتطور أداؤهم.

لم يدرك أولئك الإخوة حتى الآن أن لحظة انزلاق علم الجنوب على حبل السارية نحو الأسفل، كانت الأصعب في التاريخ ولا تزال تبث في نفوس الغالبية العظمى من أبناء الجنوب مشاعر القهر والندم الرهيب. ذلك هو الحدث الأبرز الذي يحاول الجنوبيون تصحيحه إلى الأبد ولم يعد يعنيهم ما سجّل التاريخ قبله إلا لأخذ العبرة وتعلم الدروس.

يناير ذكرى حزينة ويتعين أن تكون محفزة للتغيير وإجراء مراجعات في الأداء والسلوك وتعزيز قيم الحوار والمصالحة وحماية النسيج الاجتماعي من أي تجاوزات ومن حملات التضليل والفتنة، وتقديم نموذج في السلوك مختلف عما يتبدى للمراقب بين حين وآخر.. مع محاولة أن لا تظل بعض النخب عالقة بين عقليتين أو منهجين، براغماتية لا قيَمية أو ثورية مفرطة.

وفي ذات السياق، يتعين إدراك أهمية تبني خطابا موضوعيا يعزز الروابط الروحية والمادية التي تجمع أبناء الشعب في الشمال والجنوب، إذ يمكن استبدال الوحدة القسرية بثقافة التكامل والالتقاء حول المشتركات الكبيرة وبناء مستقبل مزدهر للأجيال بعيدا عن المقاربات الايديولوجية.
ملاحظة : بجانب العنوان (رقم 2) بسبب أنه تم نشر مقال بنفس العنوان قبل سنوات

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى