كيف قارع "محمد علي باشراحيل" بالحجج والبراهين المنطقية دعاة (اليمننة) السياسية

> د. علي صالح الخلاقي

> عندما نحتفي بشخصية وطنية ورمز من رموز النهضة الثقافية والتنويرية التي شهدتها عدن نتذكره بآثاره وكتاباته التي خلفها لنا، وهذا هو حالنا مع الأستاذ محمد علي باشراحيل الذي اقترن اسمه بصحيفة ومدرسة "الأيام"، وجمع في شخصيته بين الصحفي والسياسي والمفكر ، وسيبقى أبداً في سفر تاريخنا الوطني صاحب وعميد "الأيام"، التي برزت في عهده كمدرسة صحفية رائدة ومتميزة ، وكم هو رائع أن ينهض مركز عدن للبحوث والدراسات التاريخية بدراسة تراث ومواقف هذا الرائد الفذ في ساحات النضال السياسي والاجتماعي وإبراز دوره الإيجابي والفعال في بناء ثقافتنا الوطنية وفي الدفاع عن هوية شعبنا وحريته واستقلاله.

والحديث عن محمد علي باشراحيل هو في الحقيقة حديث عن مرحلة هامة في تاريخ شعبنا وبلادنا شارك بقلمه وبفكره في صياغة ملامحها وكان من الطلائع الرائدة لتلك المرحلة في أهم جبهة هي جبهة صياغة الوعي الوطني وترسيخ الهوية الوطنية في ظل اضطراب وتصادم المشاريع السياسية والسيطرة الاستعمارية. وفي البدء لا بد من الإشارة إلى أن صدور صحيفة "الأيام" عام 1958م قد تزامن مع شيوع وطغيان الوعي القومي العربي التحرري الذي أوقد جذوته الزعيم جمال عبدالناصر بعد نجاح ثورة يوليو المصرية عام 1952م مع ما تلاها من نهوض عربي تحرري في كثير من البلدان العربية ضد الاستعمار الأجنبي.

وقد تأثر مؤسس وعميد "الأيام" بهذا الفكر ، كما تجلى من مواقفه وفي كتاباته الافتتاحية التي تقودنا إلى استجلاء حقيقتها في سياقها وبعدها التاريخيين حتى نقترب من جوهرها.

ومن هذا المنطلق، وفي ضوء تصفحنا لافتتاحيات "الأيام" يمكن لنا استعراض مواقف ورؤى باشراحيل الواضحة من هوية الجنوب العربي، بما لا يتناقض مع مواقفه القومية العربية الوحدوية التي عُرف بها وتجلت في كتاباته ومواقفه. علماً أنه لم ينفرد في موقفه الواضح والجلي من هوية الجنوب العربي التي دافع ونافح عنها بقوة ضد كل من يريد تزييفها أو تغييرها وفقا لقناعات أو رؤى سياسية أو ايديولوجية، بل كان ضمن كوكبة من الرموز الوطنية الجنوبية ممن تبنوا موقفاً واضحاً وتصدروا جبهة الدفاع عن هوية الجنوب العربي ووحدته، وهو موقف يتماهى مع موقف حزب رابطة الجنوب العربي، ولا غرابة في ذلك خاصة إذا ما علمنا أن محمد علي باشراحيل قد شارك مع الرعيل الأول أمثال: محمد علي الجفري وشيخان الحبشي وآخرين بتأسيس حزب رابطة الجنوب العربي عام 1951م وارتقى باشراحيل درجات السلم في ذلك الحزب من عضوية اللجنة التنفيذية إلى مركز نائب الرئيس.


فمن المعروف أن إشكالية هوية الجنوب العربي وعلاقته باليمن شغلت في تلك الفترة اهتمام الكثيرين، ممن تصدوا لها بين مدافع عن هوية الجنوب العربية ككيان حر ومستقل بعد أن يتم طرد الاستعمار، وبين من يرى تبعيته أو ضمه لليمن. وكان باشراحيل وصحيفته "الأيام" ومعه كوكبة وطنية نذكر منهم: محمد علي لقمان صاحب صحيفة "فتاة الجزيرة" العدنية، ومحمد علي البار صاحب صحيفة "الرائد" الحضرمية وأحمد عوض باوزير صاحب "الطليعة" الحضرمية وآخرون ممن دافعوا بشدة عن هوية ووحدة الجنوب العربي ككيان حر ومستقل.

وبالعودة إلى افتتاحيات صحيفة "الايام" التي حَبَّرها باشراحيل على مدى سنوات صدور الصحيفة وحتى توقفها الإجباري عشية الاستقلال الوطني 1967م، يتضح لنا أن هوية الجنوب العربي ووحدته كانت بين أهم وأبرز القضايا الحيوية التي ظلت تؤرق باله. وهذا ما نلمسه من عناوين افتتاحياته، ومنها افتتاحية بعنوان (قضية الجنوب) عبر فيها عن إيمانه بحق الشعب العربي في الجنوب في الحرية وتقرير المصير، «الأيام » العدد 1584 في 17 مارس 64 م.

وتحت عنوان (وحدة الجنوب) أشاد بالجهود التي تبذل لوضع الأسس لهذه الدولة العربية الجديدة الموحدة في الجنوب العربي، وبحماس جماهير شعب الجنوب العربي في بقية الأجزاء- بما في ذلك حضرموت والمهرة- لفكرة دولة الجنوب العربي المستقل استقلالا حقيقيا كاملا مع وحدة أراضيه -«الأيام » العدد 369 في 7 ديسمبر 65 م]. كما وقف بقوة ضد سياسة (تمزيق الجنوب) التي اتبعتها بريطانيا ،«الأيام » العدد 149 في 5 أغسطس 66 م.

وقارع باشراحيل بالحجج والبراهين المنطقية دعاة (اليمننة) السياسية التي برزت بشكل خاص بعد الإطاحة بنظام الإمامة في اليمن، وهو ما تحاول هذه الورقة أن تتعرض له من خلال كتابات عميد الأيام، التي تصدرت افتتاحيات "الأيام". فقد نظر إلى الجمهورية العربية اليمنية كدولة شقيقة مجاورة، وهو ما يتسق مع مواقفه ورؤاه التي لم تنساق مع موجة الأصوات والمواقف السياسية المتأدلجة التي ارتفعت حينها بصخب وترى في الجنوب العربي جزءاً مكملا للجمهورية العربية اليمنية وقبلها المملكة المتوكلية اليمنية ، ودافع عن هوية الجنوب العربي بقوة أمام ما أثاره مندوب اليمن حينها في الأمم المتحدة محسن العيني الذي تحدث عن بلادنا الجنوب العربي مكررا الإشارة بأنه جنوب يمني محتل، متصدياً بذلك لمظاهر التبعية وادعاءات الضم التي تميز بها عهد الأئمة في اليمن وما كانوا فيه من حلم في مد سيطرتهم وسلطانهم على الجنوب العربي، وغاظه أن يبرز هذا التوجه من قبل اليمن الشقيق بعد الثورة خاصة وأنها ساندت في الأمم المتحدة إرادة شعب الجنوب العربي في التحرر والاستقلال، وكانت من أوائل المؤيدين لقرارات الأمم المتحدة بهذا الخصوص، لذلك فإن باشراحيل يعتبر العودة في الأمم المتحدة إلى نغمة «جنوب اليمن المحتل » انتكاسة لموقف يمن الثورة المشرف من أماني الجنوب العربي وشعبه في الحرية والاستقلال.


وفي هذا المنحى نذكِّر بأن باشراحيل قد رحب بالثورة ضد نظام الإمامة ، وكتب تحت عنوان (صرح الحرية) يقول: "عاش المواطن العربي في اليمن على مدى حقب التاريخ محروما من أبسط مقومات الحياة، عاش وكأنه سلعة يتصرف بها مالكها، عاش محروما من صفته الأساسية كإنسان، إن وجه التاريخ تغير اليوم، غيّرته إرادة الشعب وأصبح قادة الشعب في اليمن خدامه الأمناء المخلصين"، «الأيام » العدد 1305 في 14 أبريل 63 م.

وحينما تكشفت نوايا الحكام الجدد بعد الثورة في صنعاء كتب يقول :"إذا كان الحال كذلك فإننا نتطلع إلى إخوتنا في اليمن أن يقفوا معنا نفس الموقف الذي وقفه معهم بالأمس شعب الجنوب، فلا ينادون بالتبعية أو الضم، ويتركون الجنوب العربي لشعب الجنوب ليقرر فيه بناء عزته وحريته وكرامته كشعب مستقل تربطه بالشعب اليمني روابط حسن الجوار والأخوة العربية الصادقة؛ ذلك لأن المناداة «بجنوب يمني» تشعرنا بنوايا غير حسنة تجاهنا، «الأيام » العدد 153 في 10 أغسطس 66 م.

وخلاصة الأمر فإن الجنوب، في كل كتابات ومواقف باشراحيل، عربي وجزء من الأمة العربية التي يؤمن بوحدتها، بعيداً عن التعبية والضم والإلحاق، وكأنه يحذر مبكرا وببعد نظر لما حدث من اندفاع عاطفي من قيادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية نحو وحدة فورية متسرعة غير مدروسة ولا أساس مع نظام الجمهورية العربية اليمنية في 22مايو1990م، وها قد أثبتت الأيام والأحداث التي نعيشها مدى صحة تلك المواقف المبكرة والرؤى الثاقبة إزاء قضية الوحدة، التي لو تم الأخذ بها لما وصلنا إلى هذه التداعيات الكارثية المؤلمة.

وكم نحن بحاجة اليوم أن نكرر ما قاله باشراحيل في تناوله لفشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا من أن تجارب الماضي لا يمكن أن تمر دون الاستفادة منها.. حتى لا يفقد الشعب العربي الأمل في تحقيق الوحدة العربية الكبرى ومن ثم كان السير على طريق الوحدة يستدعي بالضرورة تخطيطا مرحليا ترتبط حلقاته برباط التجربة والخبرة المكتسبة بين واحدة وأخرى، «الأيام » العدد 92 في 14 يوليو 64 م.

ختاماً، نستخلص من رؤى وكتابات باشراحيل أن الدول والممالك تعيش وتموت وتضمحل، وتختفي أسماؤها أو تتغير، فالجغرافيا هي الثابتة وما عداها متغير ومتبدل، وبعد كل هذه الأحداث العاصفة والتغيرات المتسارعة التي حفلت بها العقود القليلة المنصرمة، يعود بنا الزمن مجدداً بعد تجارب مرة إلى تلك القضية التي حسمها الرواد الأوائل بمواقفهم المبكرة حول مستقبل الجنوب العربي وهويته وحريته واستقلاله التي ينبغي أن نستلهمها جيداً في هذا الظرف العصيب.

"اليوم الثامن".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى