ثقافة العمل المهني في الرعاية الاجتماعية غائبة بالمجتمعات العربية

> هبة ياسمين:

> ​تعاني أنظمة الرعاية الاجتماعية في العديد من دول المنطقة العربية من عدم وجود سياسات ومنهجية للتعامل مع الفئات الهشة، رغم أنها أبسط مقومات الرفاه الاجتماعي الذي بات حلما لغالبية المواطنين في هذه المنطقة.

وأكدت نيفين القباج وزيرة التضامن في مصر أن “جودة سياسات الرعاية الاجتماعية تنعكس بشكل مباشر على الفرد والمجتمع والأمن، ولذلك فالسعي نحو أفضل الممارسات والحوكمة عملية مهمة في ضوء رغبة الكثير من الدول العربية تطوير سياستها باستمرار، لأن الأحداث المتصاعدة في العالم لن تنال من الجهود المتزايدة للإصلاح وإقرار سبل آمنة وكريمة لرعاية الأطفال والشباب الفاقدين لها”.

وجاء حديث القباج خلال المؤتمر الإقليمي الأول حول سياسات الرعاية وتحقيق الأمن الاجتماعي، الذي نظمته مصر بالتعاون مع جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) وتناول نماذج دولية في تطبيق سياسات الرعاية وخبرات الدول حول النظم البديلة فيها وصياغة رؤية مستقبلية للسياسات المطلوبة لتحقيق الأمن المجتمعي.

وعلى مدار يومي 27 و28 فبراير الماضي، ناقش المؤتمر نظم الرعاية ورؤيتها وأهدافها، وسبل التمويل، والربط بين الرعاية والحماية المجتمعية، بالإضافة إلى التمكين الاقتصادي لمواجهة الفقر، خصوصا للفئات الأولى بالرعاية مثل الأيتام كريمي النسب والأطفال ذوي الإعاقة.

وتشمل مظلة الحماية الاجتماعية العديد من الفئات مثل المرأة والأيتام والمسنين.

وسلط المؤتمر الضوء على تجارب لبعض الدول التي تمتلك تجربة رائدة في مجال رعاية الأطفال والأسرة وإعادة الدمج والحماية الاجتماعية مثل رواندا.

تجارب رائدة

استعرض نفتال روتايسير المسؤول في الهيئة الوطنية لتنمية الطفل في رواندا نتائج دراسة حالة إصلاح الرعاية في بلاده، وقدم نماذج عملية للآليات التي أدت إلى النجاح.

وأكد روتايسير لـ”العرب” على وجود إستراتيجية لرعاية الطفل وفق سياسات متكاملة، تستند إلى تشريعات تقر أن الأسرة ركيزة أيّ مجتمع، مع تعاون واسع بين الهيئات المعنية من بينها مفوضية الطفل، وهي وكالة متعاونة مع الأمم المتحدة للتأكد أن مؤسسات الأطفال تقدم رعاية شاملة للطفل والأسرة.

وأشار إلى دمج نحو ثلاثة آلاف طفل مع أسر بديلة، قاموا في عام 2017 بتقييم التجربة للتأكد من فعالية الخطة ولاحظوا وجود فجوات أدت إلى تخلف بعض الأطفال عن الركب خصوصا من ذوي الإعاقة. ولسد الفجوات لجأوا إلى منهجية الاعتماد على المجتمع وأنشأوا مؤسسات لتدريب الأسر البديلة، في مقدمتها الأسر التي تعتني بالأطفال ذوي الإعاقة والحالات الطارئة، وتم وضع بروتوكولات لحماية الطفل، وثمة مقاربة مجتمعية أخرى من خلال لجان طوعية لرعاية الطفل تتكون من رجل وامرأة يتم انتخابهما في كل منطقة لتوفير الوقاية من الإساءة للأطفال.

وكشف عن وجود زيارة دورية للأسر وتدريبهم للتعرف على حالات الإساءة للطفل خصوصا الجنسية، ويتعلمون كيفية الإبلاغ عن الحالة وتوفير الدعم.

وبالفعل جرى توفير الكثير من الرعاية للطفل، وتطلب الأمر قدرا عاليا من الصبر والمرونة والعمل الجماعي والالتزام الحكومي، واستطاعوا التغلب على مقاومة شديدة واجهوها من قبل البعض.

وتقوم تجربة رواندا على عاتق متطوعين وعاملين في مجال العدالة لحل النزاعات الصغيرة في المجتمع بدلا من المحاكم، حيث يعتمد الكثير من الناس على الخدمات التي يتم تقديمها إليهم، وهناك منتديات مجتمعية وأمُسيات عائلية ولقاءات لكل أعضاء المجتمع ينظمها قادة محليون، مثل مسؤول أو كبير القرية.

  • تقنين الرعاية عربيا

ثمة معوقات تواجه العمل في الخدمة الاجتماعية عموما، وفي الدول العربية على وجه الخصوص، أبرزها قلة عدد العاملين فيها كمهنة مقابل زيادة أعداد الفئات التي تحتاج إلى تلقي هذه الخدمات، حيث يعتمد العمل في الرعاية الاجتماعية على مبدأ التطوع وليس التفرغ الكامل، وهو ما تطرّق إليه مؤتمر القاهرة.

وطالب هيو سولمان رئيس التحالف العالمي لمُقدمي الخدمة الاجتماعية وأحد المشاركين الرئيسيين في المؤتمر الحكومات بضرورة تحديد الوضع الحالي للقوى العاملة واحتياجات السكان من الخدمات المجتمعية، وتوضيح معايير الخدمة الوطنية واللوائح، موضحا أن من أهم المعوقات عدم وجود نسبة مُثلى موصى بها عالميا للقوى العاملة في الخدمة المجتمعية بالنسبة إلى السكان.

وأشار سولمان في تصريح لـ”العرب” إلى ضرورة تشجيع الأبناء والشباب على الانخراط في العمل المجتمعي ليصبحوا فاعلين اجتماعيين، ودعمهم للحصول على شهادة في الرعاية الاجتماعية ووضع معايير مهنية للعاملين في هذه الفئة، لتكون هناك فرص للارتقاء وتحقيق دخل مادي مرتفع.

وشدد على أهمية تعزيز العمل المجتمعي خارج المدن الكبرى في مصر، وتوفير القوى المهنية، مثل الأطباء والمختصين النفسيين في كل قرية، والتدريب وتحديد المهام والمراقبة بصورة مناسبة لمساعدتهم على أداء مهمتهم بصورة جيدة، على أن يجد الشباب المتطوعون فرص عمل مناسبة لهم في هذا المجال كي ينخرطوا في هذا المجال ويجعلوه مهنتهم الرئيسية.

وذكر سولمان لـ”العرب” أن تجربته في التطوع للعمل المجتمعي مع الأيتام في الأردن في بداية حياته خلال فترة التسعينات من القرن الماضي كانت ثرية، خرج منها بضرورة تشجيع الشباب العربي على هذه النمط من العمل ليكونوا “شبه مهنيين” وتتم مساعدتهم إذا أرادوا تطوير مهاراتهم، وتشجيعهم على التطوع بجزء من وقتهم، ودعمهم ليصبحوا مهنيين لاحقا.

وحكى تجربته قائلا “كنت عاملا اجتماعيا وحصلت على الماجستير في عمر 25 عاما، وكان عليّ مساعدة أولئك الذين يودون الانخراط في هذا العمل ولو في سن متأخرة، وتدريب العاملين غير الرسميين وتوفير وسائل التمويل لذلك”.

وأكد على أهمية إجراء مقابلات مجتمعية لمعرفة من لديه حافز خدمة المجتمع من المتطوعين، فبدلا من عمل الشاب في سوبر ماركت، يتم تدريبه وتزويده بالمهارات اللازمة وتحديد الفرص ليعمل في مجال الرعاية المجتمعية.

وشرح سولمان أهمية تدريب وتأهيل القوى العاملة في مجال الرعاية الاجتماعية لتقديم خدمة ملائمة وجيدة للأطفال مثلا “عندما يوضع الأطفال في مؤسسات الرعاية يتعرضون أحيانا للإساءة، ومديرو هذه المؤسسات هم من يتحملون المسؤولية”.

وتعد الرعاية المجتمعية عملية مهمة، ومن بين آليات نجاحها القيام بالزيارات، حيث يصعب القيام بعمل اجتماعي خلف مكتب، بل ينبغي السماح للموظفين والمتطوعين بزيارة الأطفال، وكل الفئات التي لها حق في رعاية المجتمع لاستطلاع الأوضاع على أرض الواقع للوقاية وتحديد كفاءة المساعدة المقدمة لهم وإعادة الدمج المجتمعي.

وألقت طروحات سولمان الضوء على غياب ثقافة العمل المهني المحترف في مجال الرعاية المجتمعية في الكثير من الدول العربية، فقد يخصص البعض وقتا للعمل كمتطوعين لفترة، لكنهم على المستوى الاحترافي يحترفون مهنة أخرى.

وفسرت شيرين حسين الأستاذة في جامعة لندن للطب الاستوائي ومديرة هيئة الشرق الأوسط للشيخوخة الصحية أسباب ذلك بقولها “ثمة طبقية في التفكير، ونحن في حاجة إلى الارتقاء بصورة العمل المجتمعي، وفي الوقت ذاته هناك إيجابية أننا كمجتمع عربي نحب التطوع ومساعدة المجتمع والمحيطين بنا”.

وتابعت حسين في تصريح لـ”العرب” بالقول “لا بد من وجود آلية لتدريب وتطويع هذه المساعدة بشكل جيد وخلق خطوات للتطور في هذه المهنة، ويمكن أن يبدأ الفرد كمتطوع ثم يحصل على تدريب معين ومسؤوليات أكبر وشهادة، فيتحول إلى شخص مهني محترف في هذا المجال، لكن من الضروري التفكير في ما سيحصل عليه كمقابل لذلك، فمن ينخرطون في هذه المهنة يرتاحون لمساعدة الآخرين فقط”.

وهذا المقابل ليس الرواتب المالية، لكن يمكن أن تكون فرصا تعليمية متخصصة، ويحصل المتطوع على راتب أعلى بعدها، ومن الأهم التركيز على الصورة العامة للرعاية في المجتمع، والقيام بحملة في الإعلام حول الارتقاء بشأن العمل المهني، ويوضع على نفس مستوى مهنة التدريس، ويظهر إقبالا على العمل في هذا المجال.

وناشدت حسين الدول العربية بتهيئة الظروف من أجل التغيير، والنظر إلى السوق بصياغته وتحديد الفجوات، حيث توجد الكثير من الفرص، ولا بد من خلق شراكات وتيسير الوصول إلى سوق العمل، ويعتبر الشرق الأوسط في بداية هذا المجال لكن توجد فرصة جيدة، حيث يمتلك المجتمع العربي ثروة مجتمعية وقوة بشرية من المهم توظيفهما بشكل منظم وكفء.

  • فئات منسية

وتطرقت جلسات مؤتمر القاهرة إلى الفئات الأولى بالرعاية وخصصت قدرا كبيرا منها للأطفال، ولم تغفل كبار السن وحاجتهم للاهتمام في مرحلة الشيخوخة، لأن ثقافة رعايتهم ليست منتشرة في مصر وفي الكثير من الدول العربية.

وقالت شيرين حسين “نحن كمجتمعات عربية ندخل مرحلة الشيخوخة بشكل سريع للغاية، وبوتيرة أكبر من أوروبا وأميركا، وقد تتحول بعض دول الخليج من مجتمع شاب إلى هرم في المستقبل، مع ارتفاع نسبة كبار السن فوق 65 عاما بشكل متزايد، من 3 في المئة إلى 15 في المئة خلال 15 عاما.

وهذه الفئات جاءت من فترة زمنية كان الاتجاه فيها لإنجاب عدد كبير من الأطفال، لذا هناك أفواج تدخل مرحلة الشيخوخة في دول عربية عدة ستكون في حاجة إلى رعاية خاصة.

وأبدت حسين تخوفها من عدم وجود ثقافة التخطيط لمرحلة الشيخوخة، مع ارتفاع المعدلات العمرية التي تصل إلى 85 عاما، فعند بلوغ هذا العمر قد يتجه هؤلاء إلى العزلة، خاصة النساء، وهذه العزلة تؤدي إلى تدهور الصحة النفسية والجسمانية، فيصبح كبار السن في حاجة إلى المساعدة، مؤكدة أنهم في حاجة لدفعهم إلى الخروج والتفاعل مع أنشطة المجتمع كي يشعرون بقيمتهم.

من جهته، استعرض فابيو فيرس من معهد البحوث الاقتصادية التطبيقية في البرازيل الآثار السلبية التي تعرض لها الأطفال عقب جائحة كورونا وزيادة العنف عند الأطفال نتيجة غلق المدارس.

وأشار فيرس إلى أن تقييم الأدلة أظهر أن أنظمة الرعاية المجتمعية يمكن أن تعالج الفقر متعدد الأبعاد، وأن مفهومها لا ينفصل عن الحماية الاجتماعية، ولا يكفي تقديم الدعم المادي للأسر الكافلة للأطفال، بل تقديم سبل صحيحة للدعم.

ويظل الشق الأصعب هو خطط التمويل، ويمكن البدء بسبل التمويل وتحديد أولويات الاستحقاق، وضرورة تحديد الفئات التي تحتاج إلى الحماية وتقاسم المسؤولية، ففي دول أوروبا تقدم جُملة من الخدمات للأطفال والأسر وكبار السن.

وأكدت شيرين حسين لـ”العرب” أن العمل مسؤولية كل الوزارات في البدء تدريجيا والتركيز على ممارسات الرعاية. وعبرت عن تفاؤلها بانعقاد هذا المؤتمر، ورأته خطوة في الاتجاه السليم، وتأمل أن تتبلور الحوارات والأفكار التي ناقشها في شكل خدمات وسياسات يمكن تنفيذها الفترة المقبلة.

يذكر أن المؤتمر شهد مشاركة واسعة من الوزارات ذات الصلة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا وجامعات ومعاهد مصرية، بحضور السفيرة هيفاء أبوغزالة الأمين العام المساعد ورئيس قطاع الشؤون الاجتماعية بجامعة الدول العربية، وهكتور الحجار وزير الشؤون الاجتماعية في لبنان، وأسامة بن أحمد خلف العصفور وزير التنمية الاجتماعية بالبحرين، وعبدالله الوهيبي الوكيل الأول لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بالسعودية.

علاوة على جيريمي هوبكينز ممثل منظمة اليونيسف، وممثلي منظمات أجنبية ومؤسسات مجتمع مدني من دول مختلفة، ولفيف من الخبراء والشخصيات العامة المهتمة بمجال الرعاية المجتمعية.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى