المسلمون في أوروبا ضحايا تطرف مزدوج وتنكّر الغرب لقيمه

> "الأيام" العرب

> ​يشكل وجود نحو 25 مليون مسلم حاليًا في دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة دافعًا للكراهية والخوف من قبل البعض، حيث وصل الإنكار والإساءة الاجتماعية للعائلات المسلمة إلى مستويات غير مسبوقة.

وأوصل الشك المتزايد حيال المسلمين بعض الأوروبيين إلى رفضهم والاعتراض على حقهم في التعبير عن آرائهم وممارسة حقوقهم الأساسية في مجتمعات تتشدق كثيرا بأنها علّمت العالم حقوق الإنسان واحترام الاختلاف والتعددية الدينية.

وفي دولة أوروبية مهمة مثل إيطاليا يصعب النظر إلى أعداد المسلمين القليلة هناك بأنها تشكل تهديدًا للهوية الوطنية أو النسيج الاجتماعي الرئيسي أو تعد دليلا على تحول ديمغرافي باتجاه ما يعرف بـ"الأسلمة"، حيث تضم ما بين 300 و500 ألف مسلم يحملون الجنسية الإيطالية، مع ذلك تجري معاملتهم كتهديد محدق.

ووفقًا لتقارير حديثة فإن العائلات الكاثوليكية وحتى العائلات غير المتدينة في إيطاليا تعمد إلى نبذ أبنائها الذين اعتنقوا الإسلام حديثًا، على خلفية التمسّك بتعريف المجتمع السائد بحسبانه ذلك الجزء من السكان الذي يؤمن بالمسيحية ومنظومة قيمها.

ولا يجيد من اعتنقوا الإسلام حديثًا في إيطاليا كيف يشرحون دينهم لعائلاتهم، وتتعرض مسلمات لمضايقات من أسرهن ويتم فصلهن من وظائفهن بسبب الحجاب.

ونظرة جزء من الإيطاليين إلى مواطنيهم من المسلمين التي غذتها الدعاية السلبية في بعض وسائل الإعلام تتركز على أنهم أشخاص “سيئون” وأن الإقصاء أفضل لبلاد بنيت على أن الإسلام دين خارجي وما دام هذا الدين ليس إيطاليًا أو فرنسيًا أو ألمانيًا فمعتنقوه ليسوا كذلك ولن يكونوا أبدًا.

  • تصورات خاطئة

تتجاوز النظرة والممارسة السلبية حيال المسلمين وحقوقهم إيطاليا، إذ تنتشر في العديد من الدول، ففي ألمانيا رفض بعض السكان السماح لأكبر مسجد في كولونيا برفع الآذان عبر مكبرات الصوت ويواجه المسلمون ازدواجية في المعايير الاجتماعية.

وهذا التوجه المُقوِض للاندماج عبر تصنيف المسلمين الأوروبيين على أنهم أجانب أو مشاريع تطرف وإرهاب محتملة لا تقوم عليه سلطة أو حزب يميني متطرف بشكل مباشر بهدف تصفية الحساب مع “إسلام انفصالي”، كما جرى في فرنسا مثلا.

وتدور سياقات الكراهية والإنكار والإقصاء في نطاق عائلي ومجتمعي، وهي مشغولة بأفراد عرفوا أنفسهم على أنهم مسلمون يرغبون في ممارسة أبسط حقوقهم، ولم يتبنوا نسخة الإسلام الإخواني أو الوهابي أو السلفي الذي يكفّر الغرب ويحض على العنف ولم يزعموا أن إسلامهم جزء من مخطط أسلمة أوروبا.

ورغم ذلك يصّور تيار اليمين المتطرف، الذي لعب دورا مهما في تغذية هذا التحريض عبر وسائل الإعلام، المسلمين على أنهم “غدّارون وأغبياء وسيسقطون في أحضان التطرف والإرهاب في المستقبل”، في حين تؤدي تلك الممارسات إلى فصل نسبة من المسلمين عن مجتمعهم بما يعرضهم فعليًا لخطر التدثر بالراديكالية والتطرف.

وفي الأحوال العادية فإن أعدادًا كبيرة من المسلمين في ألمانيا لا يهتمون كثيرًا بسماع صوت المؤذن، ويكتفون بسماعه عبر تطبيقات الآذان على هواتفهم المحمولة، ونسبة كبيرة من المسلمين في إيطاليا متساهلون في تدينهم وقد لا يصلّون أو يصومون على الإطلاق.

وجعل التهويل من خطر المسلمين في أوروبا انطلاقًا من استحواذ نظرية المؤامرة على خيال اليمين المتطرف، واستغلال المنظمات الإسلامية لهذا النشاط لإسكات منتقدي التطرف مستخدمة سلاح الإسلاموفوبيا، بعض المسلمين العاديين والمتحولين حديثًا إلى الإسلام في الغرب يقعون ضحية تطرف وأطماع اليمين والإسلاميين.

وتروج منظمات إسلامية لفرضية قابلية المتحولين حديثًا للإسلام للتطرف والانخراط في حركات إرهابية أكثر من غيرهم، وهو ما تؤكده دعايات اليمين المتطرف، في حين أثبتت بعض الأبحاث أنهم يميلون ليكونوا أقل تدينًا من أقرانهم غير المتحولين.

  • تداعيات الجغرافيا

توجد في إيطاليا أعداد تمثل جيلا ثانيا من أبوين مسلمين أكثر تدينًا وأسرع استجابة لبرامج التجنيد داخل التنظيمات الإرهابية، لكنها تظل نسبة محدودة في دولة لم تشهد هجمات إرهابية كتلك التي وقعت في بريطانيا وبلجيكا وفرنسا.

وتكمن مشكلة إيطاليا في موقعها الجغرافي الذي استغلته بعض الجماعات الإرهابية كنقطة عبور للإرهابيين ضمن حشود المهاجرين غير الشرعيين لبعض دول أوروبا بهدف تنفيذ عملياتهم عبر ما يُطلق عليه الطريق الآمن ليبيا – صقلية، وتونس – صقلية. أما إيطاليا كدولة وكمجتمع فهي محصنة نسبيًا من التطرف والإرهاب، على عكس ما تروّجه دعايات اليمين التي صنعت فجوة بين المواطنين المسلمين وعائلاتهم.

ووقع نحو 70 في المئة من المسلمين في إيطاليا في فبراير 2017 ميثاقًا تعهدوا فيه برفض أيّ شكل من أشكال العنف والإرهاب، ووصف وزير الداخلية الإيطالي حينذاك ماركو مينيتي الخطوة بأنها “تؤمّن حاضر البلاد ومستقبلها عبر الحوار بين الأديان انطلاقًا من مسلمة بديهية أننا يمكن أن ننتمي إلى ديانات مختلفة لكننا جميعًا إيطاليون”.

وانعكس الصعود الهائل لتيار اليمين المتطرف في بعض الدول الغربية على الأوضاع في إيطاليا، ما ساعد في تسرب خطاب الكراهية والإقصاء الذي يخلط بين الإرهاب والإسلام إلى الخطاب العام وبعض العائلات ليستخدمه الآباء ضد أبنائهم، والعكس.

ويرجع الهوس بنظرية المؤامرة في حق المسلمين في أوروبا إلى جهود جهاز دعائي ضخم تديره أحزاب سياسية أطلقتها مجموعات يمينية متطرفة يتأسس على سردية مفادها وجود بديل غير مسيحي وملون للحضارة الأوروبية البيضاء.

كما أسهمت ردود الفعل على موجات الهجرة للمسلمين لدول أوروبا نتيجة الحروب والصراعات في الشرق الأوسط وبعض دول آسيا في تنامي مشاعر العداء ليس فقط حيال اللاجئين وطالبي اللجوء من المسلمين، بل أيضًا تجاه المسلمين الأوروبيين.

ولم تلق مواجهة خطر اليمين المتطرف نفس الاهتمام الخاص بملف مكافحة الإرهاب والتطرف، وثمة اختلال واضح في توزيع الموارد والجهود على النشاطين، ما أدى إلى تراجع الإرهاب الإسلامي، في حين تضاعف نفوذ اليمين المتطرف.

والتركيز على التطرف الإسلامي وتجاهل التطرف اليميني رغم الانفجار النشط ووقوع هجمات وحشية كما جرى في النرويج، جعل التطرف اليميني ينمو بلا حساب.

وعلاوة على التأثير الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي، أسهم تبني سياسيين أوروبيين وأميركيين لخطابات شعبوية ضد الأجانب والمسلمين مثل طروحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وخطابات زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبين، في اتخاذ سياسات التمييز والإقصاء لأشكال أكثر جرأة وصراحة.

  • الإسلام الإخواني

يدل هذا الخلل على قصر نظر بشأن إستراتيجية الحرب على الإرهاب، حيث منحت شرعية للمتطرفين مثل الإخوان وخطابهم في ظل تصاعد اليمين المتطرف وعدم التمييز بين الإسلام وتيار الإسلام السياسي، وبين الإسلام والتطرف الإسلامي.

وتستطيع بعض الدول الأوروبية عبر أجهزتها وقواها الناعمة ومفكريها وقدراتها الثقافية غير المحدودة أن تدخل على خط الإصلاح الديني الإسلامي بدلًا من أن تطلق العنان لتيار يغذي الصيغة السلفية بأطيافها داخل أوساط المسلمين في أوروبا. ويبدو هذا الإصلاح بعيد المنال وقد يأخذ وقتًا ليتحقق في الدول الإسلامية بالنظر إلى عوامل عديدة، في مقدمتها غياب الحرية وافتقار المفكرين التقدميين والمجددين للدعم والأمن.

وكان على أوروبا التي خاضت تجربة الإصلاح الديني ودخلت مرحلة تنويرية قادت إلى النهضة أن ترفع راية الحرية واحترام التعددية الفكرية والدينية لتثبت أنها وفية لتاريخها وشعاراتها، وأن تكرس لمشروع إسلام حضاري وإنساني على طريقة ديكارت وسبينوزا وفولتير وملبرانش، لا أن تسهم في رواج نسخة الإسلام الإخواني.

ويُعد إطلاق وحش التطرف الإسلامي من خلال تكريس نقيضه التطرف اليميني بمثابة هروب أوروبي من ساحة المواجهة والفعل الحضاري، لأن أوروبا حاضرة في قلب المأزق وتكتوي بنيرانه وتمتلك مجتمعًا مسلمًا كبيرًا وأزمة هويات عميقة وضحايا للإرهاب، فضلا عن إرادة التخلص من الذنب حيال الذاكرة الاستعمارية.

وليست معاداة المسلمين الأوروبيين وإقصائهم وإنكار حقوقهم والتحريض ضدهم هي الحل، إنما العمل على تحديث الإسلام من خلال التخلص من الخرافات ونبذ التفكير التآمري والانعزالي وإعادة التفكير في الإسلام كنظام أخلاقي متوافق مع الحياة العلمانية والعلم.

ويصب تواصل صناعة رهاب الإسلام لخلق هيستريا مجتمعية بشأن تهديد مرعب يلوح في الأفق في مصلحة تيار الإسلام السياسي النفعي على الطريقة الإخوانية، والذي يوظف ظاهرة الإسلاموفوبيا للاختباء خلفها ونشر مفاهيمه التي تجافي فكرة الدولة، وهدفه النهائي فرض الشريعة في دول غربية يعتبرها دار حرب معادية للإسلام.

في المقابل، يحتاج المسلمون الغربيون إلى الاندماج والانتماء والمواطنة ورعاية الدول لحقوقهم الاجتماعية والسياسية بالتساوي، بينما يحتاج التشدد الإسلامي إلى اليمين المتطرف. وتتيح الإسلاموفوبيا التي يغذيها اليمين للتطرف الإسلامي للتهرب من المحاسبة والحصول على الدعم المالي من الحكومات، بما يفيده في ترهيب السياسيين والمفكرين الذين يعملون على كشف ارتباطاتهم بالجماعات الإرهابية وتقديم الدعم المالي لها.

ويجري اختبار القيم والشعارات الغربية حيال مواطني الدول الأوروبية المسلمين فيما يتعلق بحماية حقوقهم وحرياتهم من عدمه، كما أن أوروبا أمام تحديات حضارية هائلة لخلق صيغة إسلام يضمن احترام حضارات دول العالم وروح قوانينها وتقدر مكانة المرأة وتؤمن بالحق في الحرية والاختلاف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى