قراءة في شعر فيلسوف لحج وشاعرها صالح فقيه (1-2)

> محمود المداوي:

> قيل فيه الكثير، كما قيل في شعره أكثر..فهو شاعر مفعم بالشاعرية الرائعة، ذاع صيته في الأوساط الشعبية في المجتمع اللحجي..الكلام هنا عن شاعر فذ هو الشاعر "صالح فقيه" رحمه الله، والذي حظي في مشواره الإبداعي والإنساني بألقاب عدة استحقها عن جدارة..فهو الشاعر الفيلسوف كما أنه الفقيه العلامة، وهو أيضا الأديب الحكيم..وهنا لي إشارة لابد منها وهي أن ألقابه تلك لم تأت من فراغ ولم يتحصل عليها محاباة ومجاملة، وإنما هي ألقاب انبجست معه ورافقته في مسيرته الإبداعية المتميزة، إذ نجدها في جل نتاجه الأدبي ونستخرجها جلية من دلالات المعاني القريبة والبعيدة، التي نستشفها كما أسلفنا في شاعريته المتفردة وذلك متى ماتعمقنا في قراءة وفهم قصائده الزاخرة بصورها الفنية، والتي تفصح لنا دون شك عن المكانة الرفيعة التي تبوأها هذا العلم الكبير صالح فقيه.

لايخفى على أحد أن للشاعر "صالح فقيه" عددا كبيرا من القصائد التي تمكنت نخبة من مثقفي لحج من جمعها وإخراجها في ديوان حمل اسم الشاعر ووسم بـ"ديوان صالح فقيه" وهذا الديوان يعد من الإصدارات المتميزة لـ"جامعة عدن" في طبعة أولى في العام 2013م ، ولي هنا إشارة ثانية لابد منها وهي أنه وبحسب معلومات زودني بها مصدر موثوق به طلب مني وأنا أكتب هذه السطور عدم ذكر اسمه، إذ وجدته يهمس لي قائلا:( إن الشاعر صالح فقيه الذي تربطه بعائلته- أي عائلة المصدر- وتحديدا بوالده علاقة صداقة حميمة وأن والده أخبره أنه وفي لحظة استلاب نفسي شديدة، بسبب عدة ضغوط تعرض لها الشاعر "صالح فقيه في الفترة التي سبقت الاستقلال الوطني في عام 1967م راح يجمع مسودات مخطوطاته بما احتوت من قصائد مدونة في ديوانه سابق الذكر" وأيضا قصائده غير المدونة وقام بإحراقها أمام أفراد أسرته وجيرانه حتى جاءت عليها النار جميعا وهم في حالة ذهول مهول.

أعود إلى بيت قصيد هذه القراءة وألفت انتباه قارئ كتاب"ديوان صالح فقيه" إلى أنه وعلى امتداد صفحات هذا الديوان الـ 114صفحة المطبوعة فيها قصائده التي تعد من أروع مادونه يراع هذا العلم وقريحته المتجددة، يتأكد لهذا القارئ يقينا أنه في حضرة رمز أدبي كبير لايستهان به في مضمار الشعر الشعبي الذي أخلص لرسالته بمثابرة واجتهاد يحسد (بضم الياء)شاعرنا "صالح فقيه" عليهما، وأنه رحمه الله كان ابنا بارا ووفيا للمدرسة القمندانية الناهضة بكل ألوان التراث الشعبي وأدابه، كثقافة شعبية ضاربة جذورها في وجدان الأجيال المتعاقبة، داخل لحج وخارجها وهذه المدرسة كان قد أسس لها الأمير أحمد فضل بن علي محسن العبدلي.

وللأمانة الأدبية -وقبل أن أخوض في هذه القراءة- حري بي أن أشير أيضا إلى خصوصية وجمالية ذلك التقديم البلاغي البديع، وأعني بذلك مقدمة الديوان التي كتبتها مبدعة لها وزنها ومكانتها الثقافية الرفيعة ليس على مستوى لحج فحسب وإنما على مستوى كل الوطن، ولا أجافي الحقيقة البتة إذا قلت على مستوى العالم العربي، وذلك من خلال موقعها الثقافي الرفيع الذي تتبوأه في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، وهي الدكتورة الفاضلة حفيظة صالح ناصر الشيخ الأمين العام المساعد للجنة الوطنية، ومما جاء في مقدمتها تلك والتي لخصت فيها وبدقة متناهية شاعرية شاعرنا "صالح فقيه" آذ قالت: ( وتتجلى شاعرية صالح فقيه في إستخدامه لبعض الأدوات الفنية من أجل توصيل معانيه وأفكاره ورؤاه السياسية والإجتماعية للمتلقي ومثال ذلك إستخدامه الصورة الشعرية الرامزة التي حلت محل الصورة الشعرية التخييلية ، هذا يعني أن التصوير الواقعي غلبت عليه لغة التصوير المعتمدة على المخيلة الشعرية ، ذلك أن الشاعر أراد تقريب صورة الواقع وتقديمه إلى القارئ دون تزيين أوتنميق).(1)

لقد كانت تلك إضاءة مكثفة في جزئية من مقدمة كتاب "ديوان صالح فقيه" وهي جزئية أرى فيها دعوة ملحة لتا في أن نشرع في قراءتنا لشعر "صالح فقيه" وفورا ، فوجدتني أبدأ بقصيدة حملت عنوان:

"ياضارب الرمل" كنموذج أول حيث قال بحصافة وحكمة ليس مستنكرا أن تتلبس شاعريته الرفيعة التي صاغها بلهجة أهل لحج الآسرة للألباب والأفئدة ، ولنا أن نتوقف ونمعن بعمق في مطلعها الماكن جدا كي تفهم جل أبيات القصيدة .. ونقرأ :

ياضارب الرمل قالوا الرمل تحته عيون الكنز مدفون والتنجيم حقك جنون

إن ذا صدق جاك المال فوق البنون افرح وغني وذيع العلم بالمكرفون

إن الشاعر هنا، وفي مدخل قصيدته هذه، نراه يحذر أهله وناسه ومواطنيه من حدث كبير قادم ألا وهو قيام الاتحاد في الجنوب والانعتاق عن واقع سياسي مبتذل إلى واقع سياسي آخر يحسب له ألف حساب ، وهذا ما ستستبينه وتفصح عنه الأبيات التالية لذلك المدخل حيث جعلها تتسق متصلة بكل سلاسة بهذا الابتهال النبيل والمفعم بكل مصداقية حيث نقرأ :

يامالك الملك لك في بعض خلقك شئون

تعطي وتمنع وأمرك بين كاف ونون

والمجتمع بعضهم خايف وبعضه أمون

وحد جدادي ولا يسأل ولا يحزنون

يتفاوضوا في شئونك وانت خالي الشئون

والشور شورك بغيرك كل شي ما يكون

وانته لك الحق تمنع كل من بايخون

توقفه يوم خابت فيه كل الظنون

وهكذا يمضي شاعرنا "صالح فقيه" في قصيدته بذات اللهجة التحذيرية مستعرضا بجدارة ملحوظة. مقدرته الإبداعية الشعرية وبيان فصاحته الشعبية والتي لاغبار عليها حتى اخر بيت في قصيدته هذه المعروفة وذائعة الصيت على نطاق واسع داخل لحج وخارجها كقصيدة مغناة وضع لحنها الموسيقي الجميل الشاعر والملحن الأمير عبد الحميد "عبده" عبد الكريم. عبدالله والتي شدا بها لأول مرة عندليب الجنوب الفنان عبدالكريم توفيق ، وهذه الأغنية ما تزال باقية إلى يومنا هذا كواحدة من ايقونات موروثنا الشعبي الخالد المحفور في ذاكرتنا الجمعية تأكيدا على هويتنا ودليل ذلك أنها مابرحت يشدو بها كثر من الفنانين من داخل لحج وخارجها ، لنقرأ :

انظر ترى كم مشرد غير ذي في السجون

وبعضهم نال مانالت مدينة نيون

وبايجي الدور دورك يوم هز الدقون

يا بيعة الرخص من بعد الغلا والزبون

وانته على كيف ساكت واجليل القرون

والمدعي جا يطالب بك وساهن سهون

احزم أمورك على أرضك وحافظ وصون

من قبل تدفع على النعجة وبنت اللبون

أصبحت خايف ولاتعرف بأرضك سكون

وإن جيت تهرج يقولوا الجدر فاعل أذون

قم كسر الجدر واعمر حيث ساسه حصون

وصحح الوضع زيل الشرط ذي فيه هون

ولك أيها القاريء أن تتخيل كم هي صادقة جلية الأبيات التي أوردها شاعرنا "صالح فقيه" ، ولك ان تتخيل ايضا كم استطاع أن يترجم واقع حال الجنوب في الحقبة الاستعمارية فهو لا يكشف لنا عن شاعر علامة وحكيم فيلسوف وحسب وإنما أظهر لنا وطنيته كأديب، وفي الوقت عينه أبانها كثائر من طراز شعراء لحج الشعبيين الذين كان لهم دور منافحة الظلم و الاستبداد، وهو الدور الذي أبطل كثيرا من أراجيف وأقاويل عدة مست وطنية شاعرنا "صالح فقيه" وقللت من فاعليته في هذا المضمار عقب نيل الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر من العام 1967م، وذلك بسبب المناخ السياسي الذي طغت عليه المماحكات والمكايدات وركوب موجة الثورة من قبل عناصر غطت دوافعها الأنانية والانتهازية بالإساءة إلى هذا العلم، والتقليل من شأنه في تلك الفترة الحرجة من تأريخ بلادنا.

وقبل أن أعرج إلى النموذج الثاني للشاعر صالح فقيه، لابد من الإشارة إلى معلومة لابد منها تفيد أنه ورد في "ديوان صالح فقيه" وتحديدا على هامش قصيدة "ياضارب الرمل" في الصفحة 21، أن الأستاذ الفنان المخضرم سعودي أحمد صالح أطلعهم أن النص الغنائي لهذه القصيدة لم يتضمن البيتين الأخيرين كما هو مدون بحسب الدراسة المقدمة إلى مؤتمر التراث الشعبي الأول المنعقد في لحج عام 1973م من القرن الماضي والتي ختم بها الشاعر صالح فقيه قصيدته وكأنه يرد على كل ما جاء في مدخلها وبالتالي من أبياتها، لنقرأ:

هذا ملخص لأهل الشرح وأهل النون

لقادة الفكر رواد الصفا والمنون

لكل ذي يلبس المعوز والبنطلون

وأينما يركنون وين عاد الركون

ونمضي في قراءتنا في شاعرية شاعرنا صالح فقيه إلى رائعة أخرى من روائعه ، وهي قصيدة بعنوان " كل يوم لها شمس وريح" إذ نجد أن مطلعها قد تعانقت فيه الحكمة بتلقائية لتعبر بمصداقية الكلمة ووهج قريحة شاعرية الشاعر بعناية رشيدة فاهمة ومدركة لما ترمي له من مدلول الكلام.. فنقرأ :

كل يوم لها شمس وريح

كل ساعة يقع فيها عجب

وانته ياذي تبا باتستريح

شل قسمك معانا في التعب

لاتصدق نصيحه من سطيح

كم نصح كم تبور كم كذب

بعد ماكان يدعوه المليح

شوف طبعه تغير وانقلب

لاريب أن القارئ هنا سيجد مخيلته في مواجهة إقرار صريح من شاعرنا صالح فقيه بحقيقة العلاقات الإنسانية في مجتمعه وتقلباتها بين أفراد هذا المجتمع التي كثيرا ما تأتي نتائجها سلبية مما يؤدي إلى تدمير هذه العلاقات للأسف الشديد ، وكما يبدو أن الشاعر "صالح فقيه" قد استحضر في ذلك المطلع واحدة من روائع تراثنا العربي ألا وهي رائعة الشاعر العباسي "أبو العلاء المعري" الموسومة: (تعب كلها الحياة!) ، و يتضح ذلك الاستلهام الجميل، كلما مضينا قدما في قراءة باقي أبيات قصيدة شاعرنا "صالح فقيه" نموذجنا الثاني وهي قصيدته المشار إليها سلفا، فنقرأ :

بكره الرأس ذي ينطح نطيح

دايمه مايحب إلا الذنب

كلما جيت بازمل وصيح

سكتوني وقالوا لي شت اب(2)

لاتطول لسانك يافصيح

ذي جرأة وذي قلة ادب

ليتكم تعلموا العلم الصحيح

ليتكم تعرفوا ايش السبب؟

بهكذا استفهام فلسفي من شاعرنا "صالح فقيه"نجده يضع القاريء لما تقدم من أبيات ، وما سيتبعها أمام الوضعية التي يكون عليها الإنسان عندما تتجاذبه التقلبات في هكذا علاقات إنسانية كانت أو اجتماعية ، وذلك في درس بليغ من الوعظ والإرشاد وفقا للقول المأثور ( وفي الأخير لايصح إلا الصحيح) وهو ما يتفق وتسليم الناس وقناعاتهم دون لف أو دوران، وللتدليل على ذلك نمضي في قراءتنا لنجد إجابة الشاعر معززة بتفسيره عن الأسباب حيث يقول:

بعد مايسقط الكبش الذبيح

بايحطوا على الظهر القتب(3)

بايسوقوا المبذر والشحيح

بايصبوا لهم في العين شب(4)

مايفيد البكا عند الضريح

تصبحوا كلكم مثل الطلب

تلك هي أسباب وحقائق نبه إليها شاعرنا وأديبنا العلامة و الحكيم الفيلسوف مبكرا أهل لحج وكل الجنوب العربي إلى أخطر مايحاك ضدهم من مؤمرات نراها مستمرة وإلى يومنا هذا، وهذا هو أيضا ماتعيشه كثيرا من شعوب العالم في الوقت الراهن حيث صارت رهينة لمخططات استعمارية ولهدف واحد هو إذلال الشعوب وبقائها تحت هيمنة المنظمات المانحة كما هو حال الجنوب اليوم.

وتذهب بنا أبيات القصيدة إياها في أجواء تحذيرية لابد من التمعن فيها، وقراءتها بعين ذلك الأيام وما تلاها من أيام والتي تتسيد فيها سياسة القطب الواحد المبيتة و المتنثلة بمشاريع المجمع الصناعي الرأسمالي بوجهه العسكري المتوحش ولنقرأ:

قل لشراحنا صح الصحيح

فين أوصافكم حل الحنب (5)

وحدوا القول والشور المليح

واطردوا الثور من فوق القصب(6)

ثور معيوب من حبه يطيح

يبتلي بالطبيعة والجرب

واسمعوا القول من صادق نصيح

ما خان في قوله أو كذب

وهنا..بدا لي وكأني أقرأ لشاعر لايزال يعيش بين ظهرانينا ويعاني مانعانيه في حاضرنا من وقائع لم تختلف عن كل معاناة شعبنا قبل العام 1967م ، وتجدني أختم هذه القراءة بمسك ماختم به شاعرنا "صالح فقيه" قصيدته بالأبيات التالية التي ربما تزيل عن كل ذي عقل غشاوة الفهم والتحليل الصائب لرسالة الأديب الشعرية، التي ستبقي على مكانته بين شعراء لحج والجنوب العربي، مهما قيل فيه من كلام شائن من قبل اللا أدباء الذين أساءوا إليه يوما ما بأسلوب "القيل والقال" و الطعن غدرا من الخلف، وهذا ليس من شيم الأدباء، ومثل هؤلاء اللا أدباء عليهم أن يعتذروا ليس لتأريخ ومكانة شاعرنا الرفيعة بل للأدب والشعر الشعبي في لحج وجنوبنا الحبيب.

يقول شاعرنا وبلهجة تهكمية ساخرة:

من سمع بات ميزانه رجيح

أو تجالف يبا يسمع عجب

من يكاتب وذي يطرح صحيح

ينتظر مننا كل يوم سب

والذي باسمه لا يصيح

لا غرق في الفضيحة لا الركب

لا تشرف له وبالاسم الصريح

في الغنا في الإذاعة والخطب

كلمة السر ذي هي ماتبيح

من عرفها قلب وجه الغضب

والذي ماعرف يسأل قميح كيف يستعمل البر الحبب (7)

والمقابح وذي يرجع صليح (8)

ذي تحجى وذي قالوا هرب

ويلهم بايقع كاوي وريح

قل لهم كل شي حله قرب (9)
  • الهامش:
(1) ديوان صالح فقيه" من صفحة7-9.

(2) مفردة باللغة الإنجليزية وتعني اسكت.

(3) ويقصد به مايوضع من أحمال على ظهر الدواب.

(4) نوع من أنواع العلاج الشعبي لأمراض العين.

(5) عند السقوط والتورط في المشكلة.

(6) ويقصد بها أعواد الذرة.

(7) اسم لصاحب اشهر محل لعمل الرغيف في حوطة لحج.

(8) المقابح وتعني الذي يقطع صلاته بالآخر.

(9) الكاوي : درجة حرارة مرتفعة جدا لاتطاق،وحله بمعنى موعده.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى