فجوة تعليمية نتج عنها إهمال مساقات تدريسية وإلغاء عدد منها

> د. نهى الكازمي

> من أهم الملفات، التي كانت يجب أن تأخذ حقّها من البحث والتعمق: ملف التعليم في جنوب وشمال اليمن؛ فالتعليم في اليمن مرَّ بمرحلة تغيير غير مدروسة.

هناك فجوة تعليمية شابت العملية التعليمية قبل وبعد الوحدة، فلم تُقدّم دراسة شاملة لخطة مناهج طموحة تستوعب شكل الدولة الجديدة والمعطيات التي تتطلّبها المرحلة، ونتج عنها إهمال مساقات تدريسيَّة، بل وإلغاء عدد منها.

عُنيت العملية التعليمية في مرحلة التعليم الأساسي في جنوب اليمن، بتعليم الطالب كيف يتعلم، وكيف يمتلك المهارات التي تصقل موهبته؛ لذلك كان التركيز على النشاطات اللاصفيّة مُهمًّا وأساسيًّا.

كان الطالب في مرحلة التعليم الأساسية يتعلّم الموسيقى، يدرس السُّلّم الموسيقيّ، ما زلت أتذكر كيف كُنّا نُكرر بعد المعلِّمة السلّم الموسيقيّ، نُردّده، نرسمه... أُلغيت هذه المادة، فجأة وغاب صوت الموسيقى عن مدرستنا.

لا نمتلك تصورا واضحا عن مستقبل الجيل القادم وعن ماهيَّة هُويته
لا نمتلك تصورا واضحا عن مستقبل الجيل القادم وعن ماهيَّة هُويته

بالإضافة إلى مادة الموسيقى، أُهملت أيضًا مادتا الرسم والأشغال اليدوية، وإن كان الرسم يطل باستحياء بين المساقات التي يدرسها الطالب اليوم.

يُطلب من الطلاب في وقت الفراغ، أن يرسموا نخلة، قارب، أيّ شيء، باستثناء المدارس النموذجية التي تحاول أن تُوجد موازنة بين المنهج والنشاط الإبداعي في حدوده الدُّنيا.

كان الطالب يتعلم في حصة البستنة، كيف يزرع الأزهار والنباتات، كيف يهتم بها، وأنواعها... إلخ، يُخصَّص له وقت للتطبيق العملي في ساحة المدرسة، ويُعد مساق البستنة من المساقات المهمة، التي أَوْلتها الدول الغربيَّة اهتمامًا استثنائيًّا؛ لارتباطها بعملية التنمية المستدامة، وجنوب اليمن كان سبَّاقًا في استشراف أهمية تعليم الطفل البستنة، في مرحلة عمرية مبكرة، لو استمرّ هذا المساق يُدرّس إلى يومنا وطُوّرت منهاجه ليتواكب مع المتغيرات الطارئة في مجال التنمية المستدامة، لكان الطالب اليمني، يمتلك مفاهيم دقيقة عن هذا القطاع الحيويّ، الذي لا يعرف عنه الطالب شيئًا.

من المواد التي هُمِّشت وبشكلٍ عبثي، مادتَا التعبير، والقراءة، فصار الكم لا الكيف، الغايةَ من النص، لا جمالية النص، التي كانت هي المحور في تعديل كُتب اللغة العربية.

امتلك الطالب الذي درس المنهج القديم، الملكات الإبداعية في الكتابة؛ لأنّ حصّة التعبير كانت أُسبوعيَّة، ومدرس اللغة العربيَّة كان يُركّز، في التعبير الذي يطرح عنوانه على الطلاب، على بناء قدرة الطالب على الصياغة واختيار الألفاظ، وتجنّب الأخطاء الإملائية واللغوية، وإطلاق المُخيلة في اختيار التشبيهات، وفي التكثيف، والتركيز على الفكرة المحورية، وهذا ليس مناطًا بموهبة الطالب وملكاته الإبداعية فقط، لكن الدُّربة والممارسة تُعلّم الطالب –على الأقل- نظم الأفكار المتشابهة، وتقديم الملاحظة، ونسبة الأحداث إلى وقائعها؛ لأنّ علاقته بالكتابة، أساسية وليست هامشية، فإذا لم يكتب، لن ينجح، وهذه إحدى الأساسيات التي خرج بها الطالب قبل تعديل المناهج في تلك المرحلة.

هناك قيمة أُخرى فقدها الطالب في علاقته مع الكتاب المدرسي، وهي كيف نتعامل مع قيمته المعنوية لا المادية، فقد كان لا يُسمح لنا بالكتابة عليه وداخله، فقد كان لزامًا علينا تغليفه والمحافظة عليه، وإذا تمزق أو ضاع يدفع الطالب غرامة.

هذه الميزة وإن بدت مجهدة للطلاب، كانت تعلمهم القيمة المعنوية للكتب، بالإضافة إلى أنّ الطالب في تلك المرحلة كان لزامًا عليه أن يستعين بقلمه ودفتره؛ لكتابة الملاحظات، والإجابة عن الأسئلة التي ترد في الكتاب، ما مكّنه من إجادة الكتابة وتحسين الخط.

أمّا الطالب اليوم فإنّه يتعامل مع الكتاب المدرسي، كما لو كان ملكًا شخصيًّا له، وبالتالي يحق له أن يرميه، يمزقه، لا يهتم بضياعه؛ لأنّ بإمكانه شراء بديله من أقرب "بَسطة" في الشارع.

إعادة طباعة نسخ الكتاب المدرسي لكلّ المراحل، يتسبّب بإهدار الأموال الطائلة، والتي لو رُشّدت لمكّنت الدولة من استغلال هذه الأموال في تنمية العملية التعليمية، بما يتناسب مع الخطط المدروسة، وهو ما لا يمكن تحقيقه؛ لأنّ الطالب اليومَ مطلوب منه أن يكتب في الكتاب نفسه، وبعد نهاية العام يتخلص منه.

نوب اليمن كان سبَّاقًا في استشراف أهمية تعليم الأطفال
نوب اليمن كان سبَّاقًا في استشراف أهمية تعليم الأطفال

الطالب الجامعي اليوم - الذي هو خريج مرحلة الكتابة في الكتاب - لا يستطيع أن يكتب ما يُذكر في المحاضرة، ولا يمتلك أدوات التلخيص التي تساعده على كتابة الأفكار الرئيسة؛ لأنّه لم يتعلم كيف يُركّز على الفكرة المحورية في مرحلتَي التعليم الأساسي والثانوي؛ ومردّ ذلك أنّه كان يكتب سطورًا محدّدة، وأحيانًا يُعبِّئ فراغًا في كتاب المدرسة، وكرّاسها.

هناك الكثير مما يمكن طرحه حول التغييرات التي رافقت تعديل المناهج اليمنية، بعد الوحدة، لكنّها في مجملها لم تكن مدروسة، وما زال الطالب اليوم يُعاني تبعاتها، وهي لم تأتِ على جنوب اليمن فقط، بل أيضًا شماله.

وبإطلالة سريعة على العملية التعليمة التي مررنا بها، فقد أُلقيَ على كاهل أولياء الأمور مسؤولية تعليم أطفالهم ما تعلموه هم في المدرسة (الخط، التعبير، التلقين، ...) بمعزل عن منهج المدرسة؛ لكون الأخير لا يقدّم الفكرة الإبداعية، بقدر ما يُعلِّم الطالبَ الحفظ لمعلومات جُزئيَّة أقل ما يقال عنها أنّها غير مجدية، ولن تضيف له شيئًا، ولن تمكّنه من امتلاك أدوات التعلم الذاتي.

ويمكن التحقُّق من ذلك بمراجعة كتب الصف الأول الابتدائي، فلو طالعنا كتاب القرآن الكريم الذي يدرسه أطفالنا اليوم، لاستوقفتنا الرسمة المرافقة لسورة الكوثر، ما الغاية من تقديم هذه الرسمة لطفل في الصف الأول الابتدائي؟

من المعروف أنّ الطفل يمتلك ذاكرة بصريَّة، فكيف ستنعكس هذه الصورة على مفهوم الطفل للدين؟! ومِن ثَمّ هل مطلوبٌ من الطفل أن يتعلم كيف يذبح؟! من الغريب أن تتناثر قطرات الدم على ورقة بيضاء، في كتاب موجّه لطلاب الصف الأول الابتدائي.

وإذا ما قرأنا المعلومات الدينية التي تقدَّم للطلاب في مرحلة الابتدائية، لوجدنا أنّ الطالب يتلقّى جرعة من نبذ الآخر والتعامل معه وفق علاقات لا يستطيع الطفل في هذه المرحلة قبولها إلَّا من منطلق أنا أُحادية نرجسيَّة، فنحن نعلّمه أنّ الآخر كافر، تتكرّر الكلمة كثيرًا في كتاب القرآن للصف الأول الابتدائي.

واليوم تمر البلد بمنحدر أكبر فيما يخص الجانب التعليمي، حيث تغيّر نمط الإدارة المدرسيَّة، وأصبحت خاضعة للجماعات التي تُحْكِم قبضتها على هذه المناطق، ويعاني الطفل في الصفوف الأولى معاناة أعتى من إشكاليَّة المناهج العقيمة، ففقدان الهويّة التي تتنازعها أطراف الصراع، والتي توظف كلّ الإمكانيات لصنع جيل "مؤدلج" يخضع لها ويتماشى مع رؤاها وعقيدتها ومشاريعها السياسية العصبوية.

لم يبقَ من الحلم الكبير إلَّا رتوش؛ هويَّة لا تعرف كنهها، وتفاصيل غارقة في الماضي وتلوكه، ولا نمتلك تصورًا واضحًا عن مستقبل الجيل القادم، وعن ماهيَّة هُويته.

"خيوط"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى