سجن القلعة من معتقل سياسي إلى بطل في أعمال فنانين

> "الأيام" العرب:

> ​وجد السجن ليقيد الأجساد، ونجح في ذلك على مر قرون من التاريخ البشري، لكنه لم ينجح ولو مرة واحدة في تقييد الأرواح، خاصة تلك الأرواح الثائرة على الظلم والاستبداد والقهر، الأرواح الرافضة للخنوع والخضوع، بل كان دوما شرارة توقد داخل هذه الأرواح نيران الإبداع، وتستفزها لتكتب وتغني وتسرد للآخر القابع حرا خارج الأسوار صنوف العذاب الذي تمارسه الأنظمة السياسية في حق معارضيها، وتنثر بينهم شحنة من الأمل والقوة والاعتزاز بالقيم والمبادئ.

ولا تخلو السجون العربية من تاريخ أسود، فلطالما كانت معتقلا لنخبة من المفكرين والكتاب والصحافيين والأدباء والشعراء والمبدعين، الذين سجن أغلبهم لأسباب سياسية في الغالب، وفكرية وثقافية ودينية أحيانا، أغلبها مفتعلة، تنحصر في عدم تأييد مواقف الأنظمة الحاكمة من قضايا داخلية أو خارجية. 

من هذه السجون سجن القلعة، الذي يتردد صداه في أغاني الفنان المصري الراحل الشيخ إمام، وسمع عنه كل ثوري، يساري، وحتى يميني، وقف يوما ما في وجه الأنظمة، واختار الدفاع عن وطنه، ليجد رفاقه يرددون أغاني إمام الثورة.

  • سجن من نوع خاص

يوجد سجن القلعة في قلعة صلاح الدين الأيوبي الواقعة في منطقة القاهرة القديمة، وقد تحول إلى مزار سياحي، وهو يعود تاريخيا إلى عصر دولة المماليك، أو ما يعرف بالدولة المملوكية (1250 – 1390).

في عام 1874 عندما قرر الخديوي إسماعيل نقل مقر الحكم من القلعة إلى قصر عابدين أمر بإنشاء “سجن القلعة” ليكون سجنا للأجانب، وكانت زنزاناته قليلة وشديدة الحراسة. ولما تولى الخديوي توفيق الحكم بعد وفاة أبيه قام بتوسيع السجن، فأضاف زنازين جديدة وأربع غرف تعذيب، ولم يعد مقتصرا على الأجانب فقط بل ضم أيضا الكثير من المعارضين المصريين، حتى تحول تدريجيا إلى أحد أشهر السجون المصرية التي خصصت للقضايا السياسية والتعذيب، ما قبل ثورة يوليو 1952 وما بعدها.

يحتوي السجن على 42 زنزانة مقسمة على قطاعين أحدهما شرقي والآخر غربي، إضافة إلى ثماني غرف تعذيب أشهرها غرفة الفرن بالناحية الشرقية منه، وتسميتها بهذا الاسم ترجع إلى تجهيزها في أوائل الستينات بنظام غازي يجعل جدرانها ساخنة، وفي ذلك الوقت كان يتم إدخال المعتقلين (5 أفراد) وإشعال المواسير، وبمرور الوقت تؤثر حرارة الجدران على أجسادهم لإجبارهم على الاعتراف، أو الإدلاء بأوصاف وأسماء زملائهم.

ظل سجن القلعة، على مدى مئة عام، أحد أشهر المعتقلات السياسية؛ فقد دخله المئات وربما الآلاف من المفكرين والمثقفين، وأزهقت أرواح العشرات بين جدرانه الحجرية، إلى أن جاء النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، حين قرر أحمد رشدي، وزير الداخلية المصري في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، تحويل سجن القلعة العتيق إلى متحف للشرطة، ليصبح مزاراً سياحياً، يدلف إليه المتجولون في قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة القديمة.

وأشهر سياسي دخل سجن القلعة هو الرئيس محمد أنور السادات (1918 – 1981).

وتقول رقية السادات، ابنته، “كنت في سن السادسة عندما اعتقل والدي في معتقل أرميدان بسجن القلعة في قضية مقتل أمين عثمان، وقتها قال لي أحد أقاربي إن والدك مسجون، فأخذت أبكى بكاء شديدا حتى زرته في سجنه، وعندما وجدت التعذيب يطول كافة المساجين أصابني الرعب، فطمأنني الضابط صلاح ذو الفقار وقتها، وقال لي إن والدي لا يعذب مثل باقي المساجين”.

وفى سجن القلعة أيضا تم اعتقال فتحي الشقاقي مؤسس وأمين عام حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، بسبب تأليفه كتاب “الخميني الحل الإسلامي والبديل” وكان وقتئذ يدرس الطب في مصر. ثم أعيد اعتقاله في 1979 بسجن القلعة لمدة أربعة أشهر وبعد الإفراج عنه غادر مصر إلى فلسطين في 1981. 

قد يدخل المفكر السياسي إلى السجن فيخرج منه أكثر ثورة وتمردا واستعدادا لتغيير الأنظمة الحاكمة، لكن الكاتب والفنان الذي يدخل السجن لا يكتفي بذلك، وإنما يرفع صوته عاليا قبل الحرية وبعدها ليندد بسلوكيات الأنظمة، ويطلع العالم على تجربة السجن وما خلفته في روحه وتجربته الإنسانية والفنية. ولا يكتفي بالتغيير في بلاده وإنما يضع تجربته نموذجا تقتدي به الشعوب.

وسجن القلعة كان حاضرا في كتابات الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني (1928 – 2010)، الذي حكى الكثير من ذكرياته في السجون.

  • أثر فني لا يزول

قد أطنب السعدني، المعروف في الوسط الصحفي المصري بـ”الولد الشقي”، ضمن كتابه “الطريق إلى زَمِش” في وصف سجن القلعة وتجربة الاعتقال، لكن السجن الذي كان سببا في شهرة فنانين آخرين نجح في أن يضفي مسحة من الكآبة والحزن على كتابات الأديب الساخر، ويعود ذلك إلى الخاصيات المعمارية للسجن الكئيب، ففي الكتاب ذاته يؤكد أن “الفرحة عمّت جميع المعتقلين في سجن القلعة عندما سرَت شائعة بأننا سنُنقل جميعا إلى معتقل الفيوم، وسرّ الفرحة أن سجن القلعة سجن كئيب، وهو من مخلفات العصور الوسطى، وليس فيه حوش للفسحة، ولكن مجرد ممرّ للانتقال بين الزنازين، لا تشاهد فيه إلا حيطانا وزفتا، وأبوابا خشبية مُطعمة بالحديد”.

ومن اليسار المصري كان أشهر سجناء القلعة الشاعر عبدالرحمن الأبنودي الذي سجن في عام 1967 وكان نزيلا بالزنزانة رقم 21، وكان في تلك الفترة معتقلا إلى جانب الشاعر سيد حجاب وأيضا الكاتب الصحافي صلاح عيسى.

ويتذكر عيسى أيامهم في السجن، فيقول “أخذونا إلى سجن القلعة، حيث تعرضنا لعمليات من التعذيب والتنكيل لانتزاع الاعترافات منا، وقضينا نحو 45 يومًا في زنازين انفرادية لا يعرف أي منا ما يجري لبقية المعتقلين، وبعد انتهاء التحقيقات نقلونا إلى معتقل طرة السياسي، وقضينا فيه نحو ستة شهور رغم أن التحقيقات أثبتت براءتنا مما وجه إلينا من اتهامات، وجرى حفظها جميعا، وبعد الشهور الستة أفرجوا عنا وكنا على مشارف نكسة 1967”.

ويوضح “كان من بين الاتهامات التي وجهوها لنا انتقاد نظام الحكم ومحاولة التسلل إلى منظمة الشباب الاشتراكي التابعة للاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد والشرعي آنذاك”.

وحسب شهادة للصحافي الراحل فإن مقالاته كانت سببا في اعتقاله في حين تسببت علاقة الصداقة التي جمعته بالأبنودي وحجاب في اعتقالهما معه.

ولم ينس الأديب جمال الغيطاني الزنزانة رقم 37، أين ذاق ويلات التعذيب، حيث يحكي عن سجن القلعة قائلا “كان وضعه مختلفا وأصبح بالكامل يتبع المباحث العامة ولا يوجد به أحد يرتدي زيا مدنيا، وعندما دخلنا لم تسجل أسماؤنا في دفاتر حتى إذا مات أحد تحت التعذيب لا تقع مسؤولية على أحد، ويكتب الإنسان مثل العهدة حتى إذا مات يكتب أنه هرب في الطريق”. 

كان ذلك في عام 1966 الذي قضى خلاله الغيطاني سبعة أشهر وأياما ظلت مؤثرة بقوة في شخصيته، حيث يقول إنه استفاد من الحبس الانفرادي و”جلس يستبطن ذاته ويستدعي كتابا يقرأه، وقرر بعد التجربة المريرة ألا يكون عضوا في أي حزب، لكنه فقط يتعاطف مع الضعفاء ويؤمن بالاشتراكية”.

ويقول الغيطاني عن تلك الفترة -في ندوة بعنوان “أدب السجون” نظمها مركز الدراسات العربية والأفريقية بالقاهرة عام 1970- “عانينا من الرقابة في الستينات وأسلوب التعامل البوليسي، وأتصور أن هذا كان أحد أسباب علاقتي القوية بالتاريخ، كنت مهموما بالبحث في تاريخ مصر، وبقراءة هذا التاريخ خاصة الفترة المملوكية، التي وجدت تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين الزمن الراهن الذي نعيش فيه”.

وكتب الأديب الشهير قصصا قصيرة من المعتقل منها “رسالة فتاة من الشمال” و”القلعة” و”أحراش المدينة” و”أمي”، حيث كانت فكرة السجن تشغل باله باستمرار. وكان الغيطاني يكره فكرة السجن حتى أنه يعلق على ذلك قائلا “أنا لا أغفر لأي نظام ارتكب هذه الجريمة مهما كان”.

الشاعر الشهير سيد حجاب (1940 – 2017) كان هو الآخر من بين أشهر من اعتقلوا في سجن القلعة وأثرت تجربة الاعتقال والتعذيب في مسيرتهم الفكرية والشعرية، ولعل أشهر ما يوضح مدى تأثير السجن فيه كلماته التي كتبها لتكون شارة البداية لمسلسل “ليالي الحلمية” الذي يعد إحدى كلاسيكيات الدراما العربية وعرض في ستة أجزاء بين العامين 1987 و1995. ويقول فيها:

       “ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء

       وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع

       أقسى همومنا يفجر السخرية

       وأصفى ضحكة تتوه في بحر الدموع…”.

ويصف سيد حجاب، أو “عمنا” كما يلقبه محبوه، فترة السجن بقوله “زمان كانوا يقولون: جزى الله الشدائد كل خير… عرفت بها عدوي من صديقي، لذلك فإن الاعتقال والسجن وحالة القهر التي يتعرض لها صاحب الفكر أو صاحب موقف تُظهر حقيقته، لأن هناك من ينتمي إلى العمل العام من باب ‘المرض النفسي’ والرغبة في الوجاهة والزعامة والقيادة والشهرة، وهناك من ينتمون إلى العمل السياسي من باب المجاراة لشلة وهناك من لديهم قضية حقيقية. لذلك فإن المحنة تُظهر نوازعك الحقيقية وأين تتجه”.

  • ثنائي ثوري

أشهر شخصين ذاع صيتهما في الوطن العربي وسجنا في سجن القلعة هما الثنائي أحمد فؤاد نجم (الملقب بالفاجومي) والشيخ إمام عيسى اللذان سجنا في عام 1967. 

كانت أغانيهما التهكمية الساخرة سببا في غضب الدولة عليهما، وتم اعتقالهما بسبب تلك الأغاني ليكون إمام أول سجين بسبب الغناء في تاريخ الثقافة العربية. وكان الرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر يكرر أنهما لن يغادرا السجن ما دام حيا، وأوفى النظام بوعده وظل إمام ونجم سجينين حتى مات عبدالناصر وتغير النظام الحاكم.

في السجن ظلا يمطران النظام بأغان أشد وقعا عليه من القذائف؛ فكلما ضيق عليهما النظام اتسعت آفاق المبدعين.

في هذا السجن الشهير بلغ إمام ونجم مراحل جديدة من الإبداع الفني، كانت نتاج الاحتكاك اليومي بالمثقفين المعزولين في زنزانات السجن الشهير، يشاركونهم الألم الوجودي والإنساني وعمق التفكير فكبرت أغاني الشيخ إمام واتسعت لتشمل الهم الفلسطيني أولا ثم هموم العالم من فيتنام شرقا حتى أميركا اللاتينية غربا وصدحت الزنزانات في سجن القلعة بتمجيد هوشي منه وتشي غيفارا. 

وعن ذلك يقول أحمد فؤاد نجم في أحد تصريحاته “عملنا كثير أوي في المعتقل وله قيمة زي مصر يا أما يا بهية عملنا وشي منا، عملنا فلسطينية”. وكتب نجم بعد هزيمة 1967 “الحمد لله ولا حول مصر الدولة غرقانة فى الكدب علولا والشعب احتار وكفاية أسيادنا البعدة عايشين سعدا بفضل ناس تملى المعدة وتقول أشعار أشعار تمجد وتماين حتى الخاين وإن شاء الله يخربها مداين عبدالجبار”.

وقال نجم “هذه ليست شماتة طب أنت تدينى فرصة ليه عشان أشمت فيك وأنت ماسك كل حاجة في مصر من سنة 1952 إلى.. 15 سنة محدش بيتنفس إلا بإذنك”.

دخل الفاجومي سجن القلعة عدة مرات، أولاها كانت عام 1966 بتهمة الاشتراك مع زميل له في تزوير استمارات حكومية، ثم في خريف عام 1971، بسبب شعره الذي دافع به عن حق الطلبة في التعبير عن رأيهم، وعن حق الفلسطينيين في استرداد وطنهم، وكان ذلك ما أعلنه في قصيدته الثالثة (أنا رُحت القلعة / سجن القلعة / وشُفت ياسين/حواليه العسكر والزنازين/والشوم/ والبوم/ وكلاب الروم/يا خسارة يا أزهار البساتين/عيّطي يا بهية على القوانين)”، وفقاً لما أورده الصحافي صلاح عيسى في كتابه “شاعر تكدير الأمن العام”.

صوت الشيخ إمام المتمرد على الدكتاتورية السياسية أوصل حكاية سجن القلعة إلى العرب خارج مصر، ولو أن أغانيه لم تصف السجن ذاته لكنها وصفت جزءا من تجمعه مع مجايليه من المفكرين والسياسيين الذين ذاقوا ويلات التعذيب داخل المعتقل الشهير.

في هذا السجن ولدت وكبرت علاقة المغني والملحن الشيخ إمام بالشاعر أحمد فؤاد نجم، وارتبط اسميهما كثنائي غنائي ثوري، لكن علاقتهما كادت تغيب أسماء شعراء آخرين كتبوا للشيخ إمام أهم أغنياته، حيث ينسب العقل الجمعي للمستمعين كل أغاني إمام الشهيرة مباشرة إلى نجم دون التثبت في هوية كاتبها، فنجاح إمام يرتبط لديهم بالضرورة بنجاح الفاجومي.

أحد هؤلاء الشعراء الذين كاد يلحق بهم ظلم كبير هو الشاعر المصري زين العابدين فؤاد (1942)، صاحب أغنية “اتجمعوا العشاق في سجن القلعة”، التي تعد واحدة من أشهر أغنيات الشيخ إمام.

يقول زين العابدين في تصريحات صحفية “كتبت القصيدة عام 1972 وكنت حينها في سجن القلعة، أنا والشاعر أحمد فؤاد نجم، وكان الشيخ إمام خارج السجن، وكانت من أول القصائد التي كتبتها، بهدف أن تُغنى ولم أستطع تهريبها من سجن القلعة، فانتظرت حتى دخلنا سجن الاستئناف بباب الخلق، وتم تهريبها وسربت إلى الشيخ إمام ليغنيها”.

ويشير زين العابدين إلى أن “من الأسباب التي ساهمت في انتشار الأغنية باسم نجم هو أن أغاني الشيخ إمام هُرِّبت ونشرها ناشر لبناني، وفُرِّغت وكُتِبَ على الغلاف أنها غناء الشيخ إمام وكلمات نجم، بالرغم من أن الديوان كان به العديد من الشعراء الآخرين”!

غنى الشيخ إمام “اتجمعوا العشاق في سجن القلعة… اتجمعوا العشاق في باب الخلق والشمس غنوة من الزنازن طالعة.. ومصر غنوة مفرعة في الحلق تجمعوا العشاق بالزنزانة…. مهما يطول السجن مهما القهر مهما يزيد الفجر بالسجانة.. مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر”.   

ولم تكن هذه القصيدة الأخيرة في التعاون بين فؤاد وإمام، بل غنى له قصيدة “الفلاحين”، وقصيدة “أغنية للشمس”، ومما حدث بين أسوار سجن القلعة أن زين العابدين فؤاد كتب “الحلم في السجن”، الذي نشر لأول مرة في بيروت عام 1978، ومنع من دخول مصر لعقود طويلة، إلى أن أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب طباعته ونشره في عام 2012 تحت عنوان آخر هو “مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر”، وهو مقطع مأخوذ من قصيدة “اتجمعوا العشاق”.

كل ركن من سجن القلعة شاهد على أنفاس المئات وربما الآلاف من المفكرين من كل الأطياف، سواء كانوا يمينيين أو يساريين، نزفت دماؤهم الزكية على حجارته التاريخية واهتزت جدران زنازينه الضيقة من أنين المعذبين، لكنه لم يستطع إسكات كل الأصوات، فمن عاش منهم رفع صوته عاليا وصار من كبار المثقفين والسياسيين، واسترجع أيام السجن ولياليه، ورفاق العذاب. كل ذلك بقي تاريخا يرويه المكان وتؤرخه الكتب والأشعار ويردده صوت الشباب المحب للشيخ إمام.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى