شحنات بنزين مغشوشة تثير الفزع.. الفساد يلوّث سماء عدن

> أشجان بجاش:

> يستهل الثلاثيني أحمد الحربي، من سكان منطقة البريقة (غربي مدينة عدن)، يومه بمأساة مشاهد الدخان المتصاعد من المحطات يغطي سماء المدينة ويثير قلق السكان من أن يكون محمَّلًا غازات ضارة تسبب أمراضًا وأضرارًا لا يمكن تصورها، إذ أصبح هذا المواطن، يشعر مؤخرًا بصعوبة في التنفس، ويتلاشى الهواء -بحسب وصفه- قبل أن يصل إلى الرئة.

يضيف الحربي: "من الصعب تصديق أنّ الدخان يصل إلى داخل المنازل، لكنه للأسف يتسرب إليها بالفعل، ويدفع أصحاب البيوت للخروج من منازلهم بحثًا عن هواء نقي، وهروبًا من هذا السم القاتل، خاصة كبار السن والأطفال، مؤكدًا أنّ سحب الدخان الأسود المتصاعدة حوّلت حياة السكان إلى جحيم. هكذا تعيش عدن على وقع تصاعد كثيف لأعمدة الدخان الأسود، تكاد تحوِّل سماء المدينة بانبعاثاتها السامة إلى سديم مظلم لا ينفذ منه ضوء ولا هواء، بسبب البنزين المغشوش كما تكشف "خيوط" في هذا التحقيق، الذي ينتشر دون رقابة أو تدابير للحد من تأثيراته الضارة على البيئة وصحة الإنسان.

وصل التلوث إلى الحدّ الذي أجبر الأُسَر المقيمة بالقرب من محطات الوقود، على مغادرة منازلهم بحثًا عن سكن آمن في مناطق أخرى، بغية حماية صحة عائلاتهم وأطفالهم من الأمراض المسرطنة والتنفسية والربو، وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن والأطفال.

يرجع سبب هذه المشكلة المتفاقمة، وسط احتجاجات متصاعدة في مدينة عدن، إلى تفريغ شاحنات البنزين المغشوش دون إجراء أي فحوصات أو رقابة، حيث يتم تداول هذا الوقود المخلوط بمواد أخرى بحرية وبلا رقيب، ما يعني تجاهل الآثار الكارثية لهذه الاحتراقات على البيئة وصحة السكان، في حين تسيطر على المشهد حالة صمت رسمية مريبة في ظل غياب التدخلات الحكومية الكفيلة بحل هذه المشكلة.

وحصلت "خيوط"، على معلومات ترجح أنّ سبب التلوث يعود للبنزين المغشوش المستورد مؤخرًا، في الوقت الذي يُجمع فيه مواطنون ومعنيون، بحسب ما رصدته "خيوط"، على تقصير الجانب الرسمي والحكومة المعترف بها دوليًّا، ويحملونهم مسؤولية هذه الكارثة في ظل انعدام جهود المواجهة التي تكاد تكون منعدمة.

ويؤكد أطباء ومختصون في المجال الصحي أنّ هناك آثارًا صحية جانبية لهذه الأدخنة، إذ تشرح الطبيبة ماركيتا في مستشفى مصافي عدن لـ"خيوط"، أنّ هذه الآثار الجانبية تستمر على فترات زمنية أطول حسب درجة الترسب في الرئة والتي تختلف من شخص لآخر، لكن هذه الإصابات، بحسب حديثها، لا تأتي بشكل مباشر، وتكون بنسب متوسطة إلى خفيفة، لكنها قليلة للغاية وتتركز في أوساط صغار السن.

سواد يكسو المدينة

سالم باعوضة، من سكان مدينة عدن، يقول لـ"خيوط": "لا تقتصر معاناتنا فقط على انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، بل تجاوزتها لتشمل تعمّد تدمير المحطات الكهربائية بواسطة إمدادها بوقود مغشوش، تسبب بتعطُّل العديد منها، بسبب الوقود الرديء غير المطابق للمواصفات، علاوة على الآثار الصحية والبيئية التي من المحتمل أن تأتي على الأرض والإنسان.

وتستمر معاناة المواطنين في عدن منذ أشهر، من مخاطر محطات وقود الكهرباء التي تنتشر في الأحياء المكتظة بالسكان، ما أثار غضب واستياء السكان المحليين، الذين قرّر عديدٌ منهم مغادرة منازلهم وتوجيه نداءات للسلطات المختصة للتدخل ووضع حدٍّ لهذه المشكلة التي قد تؤدي إلى تلوث بيئي خطير وانتشار أمراض صحية غير محمودة.

يأتي ذلك في ظلّ تساؤلات تُطرح عن غياب دور الأجهزة الرقابية المعطلة في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا، الأمر الذي ساهم في بروز كثير من الممارسات والاختلالات وحالات فساد وتكسّب غير مشروع على حساب معاناة المواطنين.

يؤكد صلاح سيف، وهو قاضي في محكمة الشيخ عثمان بمدينة عدن، على ضرورة اتخاذ عدة تدابير لتلافي حدوث كارثة بيئية وصحية كبيرة، ما يتطلب تفعيل دور هيئة مكافحة الفساد لضمان وجود جهة مستقلة وقوية تتصدى لهذه الممارسات غير القانونية.

إضافة إلى تعزيز دور نيابة المخالفات وحماية المستهلك في محاربة الغش والتلاعب بالأسعار، إذ يمكن لهذه الجهات القضائية أن تتولى التحقيق في الشكاوى المقدمة من المستهلكين وتتخذ الإجراءات القانونية اللازمة لمعاقبة المخالفين.

يشدد القاضي سيف على أهمية تعزيز القوانين النافذة بشكل فعّال، وأن تتضمن هذه التشريعات عقوبات رادعة للمخالفين، وآليات واضحة للرصد والمراقبة، على أن تنفذها الجهات المختلفة في القطاع العام أو الخاص وحتى الأفراد الذين يتعاملون مع هذه المواد.

تبعات بيئية خطيرة

وتنص المــادة (79) من قانون حماية البيئة المعمول به في اليمن على أنّ كل من تسبب بفعله أو إهماله في إحداث ضرر للبيئة أو للغير نتيجة مخالفة الأحكام الواردة بهذا القانون أو اللوائح أو القرارات الصادرة تطبيقًا له أو للقوانين، يعدّ مسؤولًا بمفرده أو بالتضامن مع غيره عن جميع التكاليف الناجمة عن معالجة أو إزالة هذه الأضرار، وكذلك بالتعويضات التي تترتب على هذه الأضرار وتشمل عناصر التعويض عن الضرر البيئي، ما يلي: ‌تكلفة إزالة الضرر البيئي وتنقية البيئة.

وكذا التعويض عن الأضرار التي تصيب البيئة ذاتها وتمنع من الاستخدام المشروع لها، سواء كان ذلك بصفة مؤقتة أو دائمة أو تضر بقيمتها الجمالية.

وتؤكد مصادر بيئية مسؤولة لـ"خيوط"، أنّ هناك أسبابًا تقنية وإدارية تقف وراء هذا الفشل الذريع في فحص واختبار جودة الوقود المستخدم في تلك المحطات، إلى جانب حالة المحركات الرديئة في تلك المحطات التي تتسبّب باحتراقات جزئية للوقود، خاصة أنه لا يتم إجراء صيانة دورية لهذه المحركات مع افتقار هذه المحطات لأجهزة مخصصة لامتصاص الغازات الضارة ومنع انتشارها في الهواء.

مدير عام الرصد والتقييم البيئي في الهيئة العامة لحماية البيئة الحكومية، وليد الشعيبي، يحذر من مخاطر الأدخنة المتصاعدة وخطرها على البيئة وصحة المجتمع بالنظر إلى احتواء هذه الأدخنة على غازات دفيئة -غازات الاحتباس الحراري- مثل: (ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، والمواد الهيدروكربونية العطرية متعددة الحلقات)، والتي تُعدّ مصدرًا مباشرًا من مصادر تلوث الهواء، وتسبّب الاحتباس الحراري وتغيرات المناخ، إذ إنّ زيادة تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي يؤدّي إلى الإضرار بطبقة الأوزون التي تحمينا من أشعة الشمس الخطيرة.

وتشير دراسة أجراها فريق من العلماء الدوليين عام 2013، إلى أنّ دخان الديزل يتكون أساسًا من الكربون الأسود الذي له تأثير قوي على المناخ، بسبب رفعه لدرجة حرارة الكرة الأرضية؛ أكثر من 3300 مرة تقريبًا من ثاني أكسيد الكربون على مدى فترة زمنية مدتها 20 عامًا، كما تحذر منظمة الصحة العالمية من خطر الانبعاثات الناتجة عن احتراق الديزل على صحة الإنسان.

ويؤكّد الشعيبي أنّ هذه الأدخنة المتصاعدة من محطات توليد الكهرباء تحتوي أيضًا على نسب كبيرة من عناصر مركبات سامة، مثل غاز أول أكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين والكبريت، والرصاص، والكادميوم، وأحيانًا الزئبق، وغيرها من العناصر التي تُعرف بسُمّيتها وخطورتها الكبيرة على صحة المجتمع والبيئة.

كما تؤثر هذه الغازات بشكل مباشر على صحة الأهالي القاطنين بجوار تلك المحطات عند استنشاقهم لهذه المواد السامة، بحسب حديث الشعيبي، وهذا بدوره سبب رئيس لانتشار الأمراض المسرطنة، والأمراض التنفسية، والربو خاصة لدى الأطفال وكبار السن، إلى جانب تأثيرها على البيئة، بسبب انبعاث الغازات والأكاسيد السامة مثل أكاسيد النيتروجين والكبريت التي تعتبر مصدرًا لتكون الأمطار الحمضية متسببة بأضرار عميقة على المياه والتربة.

ليست المحطات وحدها من يقع عليها الضرر بسبب البنزين المغشوش، أيضًا المركبات والشاحنات التي تجول المدينة كان لها نصيبها من الضرر الذي يصيب محركاتها وتصاعد أدخنة كثيفة منها، وما يترتب على ذلك من حدوث أعطال في السيارات وتوقفها المفاجئ في الشوارع العامة، مما قد يتسبّب في حوادث مرورية كثيرة.

يوضح زيد جابر، مهندس ميكانيكي، أنّ البنزين المغشوش يؤثر على محركات المركبات المختلفة والآلات الموجودة في محطات الوقود التي صمّمت أساسًا لاستقبال وقود نظيف ونقي وفق معايير وجودة عالية، مشيرًا إلى أنّ البنزين المغشوش يلتصق بفوهات التحكم، مسبّبًا رواسب تؤدي إلى انسداد وتآكل بعض منافذ إمداد المحرك والتسبب بتبعات وأضرار على المركبات وانبعاثات الأدخنة من بعضها.

أضرار صحية والحقيقة المخفية

يشرح أخصائي الأمراض الصدرية في مستشفى خور مكسر بمدينة عدن، محمد عمر بحول، كيفية انتقال مواد الديزل السامة للرئة بالقول: "أحد الآثار الضارة للديزل المغشوش هو انتقال الجسيمات إلى عمق الرئتين، فالجهاز التنفسي عادة ما يقوم بتصفية الجزيئات الكبيرة، لكنه يجد صعوبة في تنقية الجسيمات الأصغر التي توجد في الديزل المغشوش، وبالتالي تتجمع الجزيئات الأصغر في الرئتين، وبعد ذلك تمر إلى مجرى الدم، مما يؤدي إلى تفاقم الحالات المزمنة، مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية وانتفاخ الرئة وأمراض كثيرة أخرى".

ويتابع بحول حديثه بالقول: "إنّ هناك تبعات صحية سلبية تسبّبها الأدخنة المتصاعدة من الوقود المغشوش تتمثل في تأثير تلك الجزئيات الضارة على أعصاب الرئة؛ وبالتالي انتفاخها وضعف وظائفها، إلى جانب الأعراض الظاهرة كصعوبة التنفس، والتهاب الشعب الهوائية، أما في حال الوصول للمرحلة الخطيرة فقد تؤدي هذه الجزيئات السامة إلى ضعف القلب وحدوث نوبات قلبية تسبب وفاة مبكرة".

في صدد أزمة تلوث الهواء بعوادم البنزين في مدينة عدن، نظم أهالي وسكان منطقة البريقة (غربي عدن)، وقفات احتجاجية دون أن يلتفت لهم أحد، كان آخرها في السابع من يوليو، حيث تم تنظيم احتجاجٍ آخر أسفر عنه إصدار مكتب المحافظ قرارًا بتشكيل لجنة للتحقيق في أسباب انبعاث الدخان. ضمت اللجنة رئيس الإدارة الفنية في لجنة الوقود، ومدير المختبر في منشأة البريقة، ورئيس قطاع المنشآت في عمليات مصافي عدن، ومدير عام الوقود في مؤسسة الكهرباء عدن، ونائب مدير إدارة الوقود، ومختص في الشؤون الفنية في لجنة الإشراف على استيراد الوقود.

وعلى الرغم من أن الجهة المعنية لم تعترف رسميًّا بأن البنزين مغشوش، فإن محطات الكهرباء طالبت بتوفير وقود يتوافق مع المواصفات القياسية ومتطلبات التشغيل لتجنب أي أضرار للمولدات أو توقف المزيد من محطات الطاقة عن العمل.

ويؤكّد مراقبون وخبراء وكتّاب صحفيون وناشطون، أنّ قضية البنزين المغشوش تكشف الحالة المتردية للفساد في مؤسسات الدولة حاليًّا، وكانت تتطلب فتح تحقيقٍ للكشف عن المتورطين بهذه الشحنة المستوردة من الوقود، محذرين من بروز ممارسات خطيرة، كما يحدث في هذه القضية؛ أهمها تعطيل أنشطة محطات الكهرباء وعدم قدرتها على العمل بطاقتها الإنتاجية المعتادة، بالإضافة إلى ذلك تدهور حالة محطات الوقود في جميع أنحاء محافظة عدن، إلى جانب ما سبّبته من مشكلات بيئية وصحية جسيمة.

استخلاص النتائج

تكشف وثائق حصلت عليها "خيوط"، عن ممارسات بالغش قامت بها مؤسسة محطات الوقود، إذ تضمنت الوثائق الأولى نتائج سليمة للوقود الذي تم فحصه في مصافي عدن، في حين كشفت الوثائق الأخرى التي تم أخذها من محطات الوقود أنه غير سليم من حيث تفاوت الكثافة النوعية لمادة الديزل لبعض العينات مقارنة بالكثافة النوعية التي تم ضخها من قبل شركة مصافي عدن إلى شركة النفط اليمنية.

في السياق، أعلنت شركة مصافي عدن في الثالث من أغسطس 2023، عن حقائق كانت تثير الشكوك حولها بسبب الدخان المتصاعد من محطات كهرباء عدن، والذي بدأ تصاعده في 25 يونيو 2023، متسبّبًا بأضرار وجدل واسع، دفع مكتب المحافظ لتشكيل لجنة خاصة للتحقيق في القضية، لم تعلن نتائجه للآن باستثناء نتائج سربتها شركة مصافي عدن، تقول إنه لا علاقة لها بما حدث.

مصدر مسؤول في مختبر مصافي عدن -فضّل عدم ذكر اسمه وهويته- ينفي علاقة الشركة بما حدث، إذ تقوم شركة مصافي عدن بتفريغ الشحنة وفحصها ومن ثَمّ تقييم نتائجها، فإذا كانت غير مطابقة يتم رفضها.

لكن بخصوص هذه الشحنة، يؤكد هذا المسؤول في مختبر مصافي عدن أنها ذات جودة عالية ومطابقة، وإن وجد اختلاف فهو بسيط، وغير مؤثر، لكن الحاصل أنه بعد تلك النتائج، كان هناك شحنتان؛ شحنة ذهبت للمولات والمراكز التجارية والسوق المحلية وأغلب المحطات والمستشفيات، والشحنة الأخرى ذهبت لمحطات الكهرباء، مؤكدًا عدم وجود شكوى من الشحنة التي تم إفراغها وتوزيعها في السوق المحلي والمولات وغيرها؛ لأنها كانت مطابقة للمواصفات وذات جودة عالية، لكن الشكوك جاءت من الشحنة المخصصة لمحطات الكهرباء التي من المحتمل أنه تم تبديلها بوقود غير مطابق.

كانت شركة مصافي عدن سابقًا قبل الحرب في اليمن، قبل نحو تسع سنوات، هي المخولة الوحيدة بالاستيراد، لكن بعد الحرب أصبحت مؤسسة الكهرباء هي المسؤولة وهي من تختار تجار الوقود لتزويدها به .

في الآونة الأخيرة، انتشرت في عدن بشكل لافت، محطات تقطير بدائية للغاية، عبارة عن أراضٍ مسورة يتم فيها التكرير، يخرج منها بنزين وديزل لا يتم فحصه، ولا رقابة عليه، بل هناك حراسة لهؤلاء العابثين.

وتوصلت "خيوط"، من خلال دراسة وتقييم الوثائق وفحوصات المختبرات إلى أنّ اختلال في مستويات الكثافة، بين أعلى أو أدنى مما تم ضخّه إليهم، إضافة إلى أنّ هناك أيضًا تفاوتًا في درجة الوميض لبعض العينات كانت أعلى بكثير من درجة الوميض لمادة الديزل التي تم ضخها من قبل مصافي عدن، إلى جانب ارتفاع كبير في درجة الحموضة تعدت مواصفات الديزل القياسية.

إضافة إلى احتواء جميع العينات على مواد صلبة عالقة تختلف عن عينات الديزل التي تم ضخها من قبل شركة مصافي عدن، وأخيرًا وجود أنواع مختلفة من الديزل، تم خلطها مع تلك التي ضُخّت من شركة مصافي عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى