في ذكراه الـ "19".. المحضار: قلبي من الفرقة كما الريشة

> رياض عوض باشراحيل

>
يا طير يا ضاوي إلى عشك           قل لى متى باضوي أنا عشي
مـلـيـت شـفـنـا هذه العيشة           قلبى من الفرقة كما الريشة

تسرح وتضوى وأنت فى أرضك         يا ريتنا مثلك عمدت أرضى
حـتـى ولـو جـمـال عا الهـيـشـة        قلبى من الفرقـة كـمـا الريشة

كــم قـلـت للركــاب من قبلك             با سـيـر شـلـونى إلى خـلى
حـتى لقونى طــرد في خيشه           قلبي من الفرقة كما الريشة

القلب عا الأوطان يتحرّق           والعين من جور الجفاء تبكى
والرأس عاده فيه تنغيشة           قلبي من الفرقة كما ألريشه

لأنّي محب مافى المحبة شك            لكنني إلى عند من با شكي
الله يـعـلـم حـالـتـى ايـشـهـه              قلبي من الفرقة كما الريشة

الغربة والبعد عن الوطن هي الباعث الشعري والشرارة التي تشعل الإبداع في وجدان الشعراء تعبيرا عن لوعة الفراق والشوق للأهل والحنين إلى عطر التربة والأرض، وهو إحساس فطري لدى كل الناس ولكنه عند الشاعر مرهف الإحساس، رقيق القلب، صادق الشعور كالشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار وغيره من الشعراء - كل حسب مستوى موهبته - يتحول إلى طاقة فذة تمده بالقدرة على التعبير بصدق وبعمق عن ذلك الإحساس .. لذلك فارتباط المرء بأجمل أيامه وأطيب زمانه وتعلقه بذكرياته الحسنة في وطنه لا شك أنها أبعد أثرا وأعمق مكانا وأكثر التصاقا بوجدانه مدى حياته .

في نهاية الستينات كان الشاعر المرحوم حسين المحضار في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية ثم انتقل إلى الرياض، وأثناء إقامته بها تقدم ثلة من أصدقائه وعشاق فنه ومحبيه بدعوته لتنظيم رحلة ترفيهية على شرفه في عطلة الأسبوع إلى بستان يقع في منطقة "الحاير" وهي ضاحية من ضواحي الرياض حيث الشجر نائفا، والثمر يانعا ، والزرع دانيا، والماء النقي العذب ينساب بالسواقي لري الأشجار والأزهار، والطيور تسرح وتمرح وتضوي إلى أعشاشها، والنسيم العليل يهب في رقة، والطبيعة الجميلة الخلابة في تناسق بديع ممتع.

وفي ذلك الجو المنعش كان الشاعر المحضار يرنو إلى حركة الطيور زاهية الألوان ويتأمل مشهدها وهي تنتقل بحرية مطلقة بين الأشجار، وتشدو مغردة بأعذب الألحان، ويسرح كل طائر ويضوي إلى عشه مرحا وفرحا ومستقرا في أحضان أهله وأبنائه في العش. حرّك هذا المشهد كوامن المشاعر الراسبة في أعماق نفسه، وذكريات الزمان والمكان مع أهله وصحبه، وأمنيات العودة إلى حضن الوطن. فأنشد المحضار في تلك اللحظة البيت الأول من رائعته الغنائية في الشوق للأهل والحنين إلى الوطن "كما الريشة".. ثم صاغ اللحن وأكمل النص الغنائي في الحال، وغناه حينها مطرب الرحلة الفنان عبدالله محروس الخنبشي بعد أن تلقى الكلمة واللحن مباشرة من الشاعر.

وبعد ذلك غناها الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه الذي أضاف لها من قدراته الفنية ومواهبه الصوتية وإمكاناته الموسيقية أبعادا جمالية وإبداعية ساهمت في اتساع رقعة انتشارها على المستوى العربي ليشدو بها بعد ذلك أغلب المطربين والمطربات العرب من المحيط إلى الخليج ، بيد أن حناجر المطربين والمطربات في جزيرة العرب مثلما ترنمت بها في المهرجانات الغنائية وبرامج صناعة نجوم الطرب فإنها أطربت بها جمهورها من الجنسين في مناسبات الأفراح منذ سنوات طويلة وحتى اليوم بحيث لا تخلو حفلة فرح ولا يزهو مطربها دون أن يسعد جمهوره بأغنية " كما الريشة ". ونشير هنا إلى نماذج منهم للإشارة فقط وليس للحصر، لأن الحصر يدعونا لتدوين أكثر من مائة مطرب شدى بهذه الأغنية. فمن اليمن "الفنانة أروى، وعبدالرحمن الحداد، وعبود خواجة، وعمار العزكي، وفؤاد عبدالواحد".. ومن السعودية "أبوبكر سالم، محمد عبده، د.عبدالرب إدريس، عبدالمجيد عبدالله، الفنانة مشاعل".. ومن دولة الإمارات العربية "حسين الجسمي، أحلام، علي بن محمد، بلقيس فتحي، عبدالله بلخير".. ومن الكويت "خالد الملا، فيصل الراشد، يوسف البدر، الفنانة شمس".. ومن لبنان "ديانا حداد، مريام فارس".. ومن سوريا "حامد الصنعان".. ومن البحرين "أبرار سبت، والفنانة هند".. ومن العراق "الفنانة أصيل هميم، وأماني علاء".. ومن المغرب العربي "الفنانة جميلة، ودنيا بطمة"، وغناها النجم العالمي مايكل مالك .. كما غنتها فرق جماعية عربية وعالمية .. من الفرق العالمية : أوركسترا الفرقة الفرنسية "دار الأوبرا بفرنسا" ، الفرقة الماليزية ، الفرقة الأندونوسية ، الفرقة الصينية ، الفرقة اليابانية .. ومن الفرق العربية : فرقة المسعود البحرينية ، فرقة الماسة بجدة في السعودية ، وفرقة رياح الجنوب بالسعودية ، وغيرها....  ) .. هذا العدد الكبير من الفرق الإنشادية الجماعية والمطربين الذين أطربوا الجماهير العربية وغير العربية بهذه الأغنية لدليل قاطع على القيمة الفنية العالية للنص الغنائي والنجاح الجماهيري الكاسح له في الكلمة من السهل الممتنع والمتجانسة برقة وإبداع وجمال مع اللحن المعبر عن عواطف ومشاعر الكلمة الشعرية ليشكلا معا منظومة هذا النص الغنائي الرائع .

 ولعل الطائر الذي انتقل من غصن إلى آخر ومن شجرة إلى أخرى والذي غرد مزقزقا في ظل صمت الطبيعة قد كان مصدر إلهام الشاعر وتحريك أشجانه وذكرياته في الوطن فغرد في الحال منشدا في حزن وأسى وشجى وانكسار صادحا :
يا طير يا ضاوي إلى عشك           قل لى متى باضوي أنا عشي
مـلـيـت شـفـنـا هذه العيشة           قلبى من الفرقة كما الريشة
تسرح وتضوى وأنت فى أرضك         يا ريتنا مثلك عمدت أرضى
حـتـى ولـو جـمـال عا الهـيـشـة        قلبى من الفرقـة كـمـا الريشة
فالشاعر هنا يأنسن الطير ويمنحه الصفات الإنسانية ويحاوره ويسأله ويناديه بأروع صفة يراها الشاعر فيه وهي قدرته على العودة اليومية إلى عشه بينما الشاعر مهيض الجناح كسير الساق في غربته وكربته لا يستطيع العودة إلى داره ، وهنا علينا التوقف بأناة عند لفظة "ملّـيت" والتأمل في قوله : "مليت شفنا هذه العيشة" ، كيف تمل أيها الشاعر موارد النعمة والخير الوفير والعيش الرغيد ؟! ، أجل إن الملل في الغربة إحساس حقيقي وصادق لا يشعر به إلا من جرّب الغربة وأكتوي بنارها مهما جمع من المال أو مصادر السعادة ، إنه تعبير عن التبرم والتذمر  فهو لا يرى في غربته وبعيدا عن وطنه ودياره وأهله سوى نغص العيش والملل والهم والغم ونكد الحياة .

ويواصل الشاعر حواره مع الطير مؤكدا قوله : " يا طير يا ضاوي إلى عشك" في البيت الثاني ولكن بأسلوب مختلف قائلا : " تسرح وتضوى وأنت في أرضك". إذن الذي يسرح ويضوي في أرضه كما جاء في البيت الثاني هو ذاته الذي يضوي إلى عشه كما جاء في البيت الأول وهذا التكرار التوكيدي إنما يثبت  المعنى ويرسخه ، و ينم عن تأكيد شعوره الداخلي وإحساسه الوجداني والنفسي الحزين في الغربة . ولنتأمل القيمة البلاغية البديعية والموسيقية في رد العجز على الصدر والاشتقاقات اللفظية المعبرة بدقة عن المضمون المعنوي وعن إحساس الشاعر الذي نفح به نهاية كل شطر من الأبيات الراعية بقوله : "عشك ، عشي ، العيشة" و"أرضك ، أرضي" و "شك ، أشكي"  ، كما أن الزفرة والتأوه بالهاء و"الآه" في آخر شطرين من كل بيت كقوله : ( كما الريشة ، هذه العيشة ، في خيشة ، فيه تنغيشة ، حالتي أيشهه ) ، أو قوله غناء مع اللحن : (من الفرقاااه ) تعبيرا بهذا المد من الـ"آآآه" عن التبرم من الغربة وصوت الإنسان المتوجع والشكوى من الحزن وامتداد الألم ، وهي رد فعل وجداني تعبير عن الحالة النفسية ونداء استغاثة لتغيير الحال من البقاء بالغربة إلى العودة للوطن . ونتذكر هنا آهات المتنبي في بيته ذائع الصيت : (( واحَـرَّ قَـلباهُ مِـمّن قَـلبُهُ شَـبِمُ*** وَمَـن بِـجِسمي وَحـالي عِندَهُ سَقَمُ)) فلسعة التأوه في "واه" و "باه" بقوله : "واه حر قلباه" ..

ويتكرر هذا التأوه والتوجع عند المحضار في أشعاره المعبرة عن تجارب الغربة كأن يقول في أغنيته الشهيرة ((واويح نفسي لا ذكرت أوطانها حنت *** حتى ولو هي في مطرح الخير رغبانة)) فالآه واضحة في قوله : "واويح نفسي" أي "واه ويح نفسي" والشاعر إنما يعبر عن معنى الألم والحنين والأنين من خلال موسيقى اللفظة . ومن خلال الطائر يواسي شاعرنا نفسه بالبوح عن آمالها وأشجانها وآلامها التي لا تشفيها سوى عودته إلى وطنه .
كــم قـلـت للركــاب من قبلك             با سـيـر شـلـونى إلى خـلى
حـتى لقونى طــرد في خيشه           قلبي من الفرقة كما الريشة

ويؤكد الشاعر للطائر أنه قد طلب من الركاب العائدين إلى وطنه أن يصحبهم في رحلة العودة حتى لو وضع في طرد من طرود أمتعة هؤلاء الركاب المسافرين ، والصورة هنا ليست خيالية ولكنها ممتلئة بالعلاقات النفسية والروابط الشعورية التي بنيت عليها هذه الصورة واستدعتها الظروف القاهرة في البعد وهموم الغربة عن الوطن .

ويواصل شاعرنا الكبير توصيف حب الوطن وعشق التراب الذي يحرك قلبه ويهز أحشائه ووجدانه ، ويسيل دموعه أنهارا من جور البعد والفراق والحنين إلى الوطن فيشدو في إبداع ورقة متناهية قائلا :
القلب عا الأوطان يتحرّق         والعين من جور الجفاء تبكى
والرأس عاده فيه تنغيشة           قلبي من الفرقة كما ألريشه

وصدق المحضار فهو المحب الوفي والمخلص ومحبته لوطنه جلية وصريحة تترجمها أفعاله وينطق بها شعره وعبر عنها في فنه وإبداعه أروع تعبير ..  قال :
لأنّي محب مافى المحبة شك            لكنني إلى عند من با شكي
الله يـعـلـم حـالـتـى ايـشـهـه              قلبي من الفرقة كما الريشة

 وشاعرنا إنما يبث حزنه ويشكو همه في الغربة لمولاه جل شأنه في إجابة شافية كافية لسؤاله بقوله : لكنني إلى عند من با شكي ؟ّ! . فالله وحده مجلي الأحزان ومزيل الهموم والأكدار والغيوم " الله يـعـلـم حـالـتـى ايـشـهـه " .. والشاعر في شكواه من صروف الزمان وقسوة الأيام لا يشكو سوى للرحمن ، فيذكرنا من قصيدة أخرى بقوله :
" بشكي إلى الرحمن علام السرائر *** إذا دعيته سر قلبي سر
يا اللي بعثرات العرب مسرور *** مالك عذر ماتعثر "
والمحضار بصوره الشعرية في هذه القصيدة إنما أختار الطائر لأنه معروف بحبه ووفائه لوطنه ، وشوقه إلى الرجوع إليه إذا فارقه ، إذن هناك علاقة شعورية متينة بين الشاعر والطائر في الغربة ، ولعل الشاعر كان يريد أن يعود إلى الشحر وحضرموت واليمن في سرعة كما يستطيع الطائر أن يعود إلى عشه في سرعة مذهلة .
رحم الله حسين أبوبكر المحضار .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى