نحن غير مستعدين لتفهم حوافز الجاسوس الشيوعي كيم فيلبي

> «الأيام» الإندبندت:

> لم يكن يصدق فعليًا أن بريطانيا ستتصدى للنازية بوجود هذا العدد الكبير من الأشخاص الذين يتحدثون عن عدم الاضطرار إلى خوض أي حرب عالمية جديدة.
ما الذي قد يقال بعد عن كيم فيلبي؟ طرح عليّ هذا السؤال عدة مرات منذ بدأت بتأليف كتاب عن الفترة التي قضاها الجاسوس البريطاني الأسوأ سمعة في بيروت. فهناك تمت مواجهته في عام 1963 للاشتباه بكونه عميلًا للسوفيات، وقد هرب بعد ذلك بأسابيع إلى موسكو حيث قضى ربع القرن التالي.

وبدأت المعلومات تظهر تدريجيًا بعد ذلك عن أن خيانته تسببت بمقتل العديد من البريطانيين. وكما قال الكاتب جون لو كاريه "أي شخص لم يدخل هذا المضمار بالكاد يستطيع احتساب حجم خيانة فيلبي. ففي أوروبا الشرقية وحدها، تعرض عشرات وربما المئات من العملاء البريطانيين للاعتقال والتعذيب والإعدام رميًا بالرصاص".

بالنسبة للبريطانيين من شريحة عمرية معينة، لا تثير قصة فيلبي الغضب فحسب؛ بل هو حس بالإحراج كذلك. فهي مصدر إذلال لأي شخص يشعر بأي نوع من الولاء لشبكة الرفاق القدامى في بريطانيا، وأكبر مثال يبين كيف يمكن لمنافق قاسٍ يتمتع بما يكفي من المكر والتحفيز أن يخدع معاصريه الطيبين. وقد يقال الكثير عن ترك التاريخ يطوي هذه القصة.
العميل المزدوج البريطاني السوفياتي كيم فيلبي لم يشهد انهيار الاتحاد السوفياتي
العميل المزدوج البريطاني السوفياتي كيم فيلبي لم يشهد انهيار الاتحاد السوفياتي

إنما قبل أن نفعل ذلك، هل نحن متأكدون من أننا نفهم سبب تصرفه بهذه الطريقة؟ لا أظن ذلك، وكثيرون في مجال الإعلام يفضلون إلغاءه ببساطة ومجاراة التقييم البسيط لزميله في وزارة الخارجية جون ساكور الذي نعت فيلبي بـ"الحقير التام". ولا يختلف اثنان على أنه كان ميالًا إلى الكذب.

قال روديارد كيبلينج عن الشخصية التي سُمي فيلبي تيمنًا بها إنها "كانت تحب اللعبة في حد ذاتها- التسلل خفية في الممرات المعتمة". لكن موهبة النفاق قد تحول شخصًا ما إلى بائع زيت أفاعي، أو نصاب يستخدم الاحتيال الهاتفي، أو حتى رئيس وزراء بحق السماء، ولكن ليس إلى شخص يسهل هذا العدد من الوفيات بكامل رضاه.

إنما بدل محاولة فهمه، يعمل الكتاب على تصويره بشكل أسوأ مما تظهره الوقائع حتى. وهذا أمر غريب. فما عاد رد فعل معظم الناس على أدولف هتلر حتى الغضب، بل محاولة لعقلنة الموضوع، ومع ذلك تعتبر محاولة فهم فيلبي أشبه بمحاولة تبرير أعماله.

وهذا ما يسلط الضوء على وجه من أوجه حياته أعتقد أنه أثار حفيظته بشكل خاص. فالجميع- سواءً كانوا زملاءه في وكالة الاستخبارات MI6، أو زوجاته، أو مشغليه الروس- استخف بشدة التعهد الذي قام به خلال ثلاثينيات القرن الماضي بمحاربة الفاشية وبناء عالم اعتقد بسذاجة أنه سيكون أفضل في ظل حكم الشيوعية. كان ملتزمًا من الناحية العقائدية، إنما في بريطانيا العملية والليبرالية والفردية حيث كانت العقيدة، أو في بعض الأحيان القناعة فحسب، تعتبر موضع شك، كان هذا الموقف غريبًا للغاية.

فتعليقات ستالين حول بولندا كانت تنطبق بشكل أكثر على بريطانيا- إذ إن محاولة تطبيق الشيوعية هناك أشبه بمحاولة وضع سرج على ظهر بقرة. قلة من الناس في الأوساط المؤثرة التي كان يدور فيها هذا الخريج الموهوب من جامعة كامبريدج كانت تشك في أنه خرج من إطار تطرفه الشبابي الغريب، لكن عندما كان شابًا غاضبًا، ساخطًا من عجز حزب العمال عن الدفاع عن ناخبيه في عام 1931، زار ألمانيا مع أقدم أصدقائه (الذي أصبح لاحقًا زميله فيMI6)، تيم ميلني.

ووقف في ساحات الأسواق، وسمع هتلر يتكلم ورأى نفوذ الزعيم الديماغوجي وقدرته على التأثير في الجماهير. ولم يكن يصدق فعليًا، بوجود هذا العدد الكبير من الأشخاص الذين يتحدثون عن عدم الاضطرار إلى خوض أي حرب عالمية جديدة، أن بريطانيا ستتصدى للنازية. فكان من المتوقع أن يبيع الديمقراطيون، وأنصار سياسات اليسار الوسطي، القضية بحسب استنتاجه. وبدت روسيا له حصن المقاومة الحقيقي ضد الفاشية. قال الشاعر سيسيل داي-لويس ذات مرة "لا يمكن لأي أحد لم يعش (ثلاثينيات القرن الماضي) أن يدرك بحق كم التفاؤل في الجو السائد عندئذ، ومدى الانبهار بوهم قدرة الإنسان على إصلاح العالم في ظل الشيوعية".

ومهارة فيلبي في الخداع لم تحل دون قدرته على مشاركة [الترويج] لهذا الحلم. ففي الحقيقة، كما شرح له مشغله أرنولد دويتش، يمكن توظيف هذه الموهبة لتصبح أداة ثمينة تساهم في تحقيق هذا الحلم، وقراره بالعمل سرًا هو النقطة التي يعتبرها منتقدوه البريطانيون عصية على الغفران.

ألم يكن بإمكانه أن يحذو حذو الآخرين الذين قرروا العمل لصالح الاتحاد السوفياتي، ويلعب هذه اللعبة كما فعل الآخرون. ألم يكن بإمكانه أن يتحلى بالصراحة الكافية لكي يجاهر بميوله السياسية وينضم ببساطة إلى الحزب الشيوعي علنًا؟ كلا، لأنه سيكون فعالًا أكثر بهذه الطريقة، بدل أن يكون- برأيه ربما- شخصًا شاذًا بين ملايين الساذجين الذين يلعبون لعبة الديمقراطية. ولو وضعنا الأخلاق جانبًا، من يمكنه الزعم بأنه أخطأ في اعتقاده بأن التخفي سيمكنه من تحقيق إنجازات أكبر؟ فكما قال دويتش "لا يمكن لأي شخص لديه انتماء علني للشيوعية أن يقترب من الحقيقة الفعلية، لكن الشخص الذي يتصرف كبرجوازي حقيقي في أوساط البرجوازيين قادر على ذلك".

هذا ليس تبريرًا لجرائم فيلبي. فأن نفهم ليس التأكيد صنو أن نعذر ما فعل [تسويغ ما فعل]. يقول الكاتب مايكل سميث المتخصص في شؤون الجاسوسية إنه لا يمكن احتساب عدد البريطانيين الذين توفوا بسبب فيلبي. وأي نوع من الوحوش قادر على طمأنة الديمقراطيين الأوروبيين الشرقيين الهاربين من ستالين وهو يبتسم، في حين يعيد إرسالهم إلى موتهم المحقق؟ لكن إن تعمقنا في التفكير، ما بعد الأشخاص الذين فقدوا أحباءهم ويشعرون بظلم يمكن تفهمه كليًا، يحق لنا أن نحصل على ما هو أكثر من مجرد الإدانة التي تفرضها الأحكام والشعائر.

لست أزعم أنني أفهم فيلبي، لكن الصورة التي تتوضح عنه من الفترة التي قضاها في بيروت ولاحقًا- عن طبيعته العاطفية المفرطة، وحاجته الشديدة للطمأنة من الآخرين، وعقيدته الراسخة وغروره، وصراعاته الداخلية المؤلمة- ضرورية بلا شك لأي شخص يسعى إلى فهمه. وأعتقد أنني اكتشفت بعض الحقائق عن علاقته بزوجته الثالثة إليانور، وعما أدى إلى مغادرته بيروت. وقد طورت القصة أكثر برأيي. وآمل أن يوافقني الرأي من لديهم بعض الفضول حوله.

جيمس هانينغ مؤلف كتاب 'حب ونفاق: فيلبي في بيروت'، الذي يصدر عن دار كورسير (Corsair) هذا الأسبوع

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى