الشاعر المثقَّف عبدالرحمن فخري (عدن 2016 - 1936م)

> كتب/ فهمي غانم

> "نقوش على حجر العصر" هو المدخل النفسي لمعرفة حجم الإبداع النوعي الذي خطّ به الشاعر الدكتور عبد الرحمن فخري ديوانه الشعري وابتعد به عن تلك المصفوفة النمطية من أقوال الشعراء وأسس به مدرسة في الحداثة الشعرية أتقن فيها صناعة الشعر ونسج منواله وخيوطه على غير العادة وأدرك مبكِّرًا فقه القصيدة النثرية الحديثة.

واستوعب شروطها الفنية والموضوعية بكل احترافية وبذلك يؤكد شاعرنا المجيد أن الحالة الإبداعية لا تتولَّد في الفراغ هي حالة صادرة من واقع نفسي وتجربة مُعاشة وإلهام روحي تعمل على تنشيط الغدَّة الإبداعية إن صحَّ القول كي تفعل فعلها في المكان والزمان المناسبين ،وهي التي تطلق إشارة البدء في قلب العملية الإبداعية تلتقط تلك الاستلهامات الروحية والاستدلالات الحسيَّة ومصادر التنوير العقلي لإعادة صياغة الحياة على نحو آخر ويبدو العقل هنا ضابطًا لأي مشاعر منفلتة أو أحاسيس طائرة في الفضاء فيعمل على عقلنتها يُصبح العقل هنا معيارًا حسيًا موضوعيًا مقابل توهجات النفس الذاتية الحالمة فيعيد تخليق تلك المشاعر وتدويرها على نحو يسمح لكل عناصرها أن تعمل وفقًا لمتواليات الحالة الإبداعية:

عقلي من فضّة*

وقلبي من صخر وعاج

ولساني تلك المحودبة

بنت الضاد

فأنا عربي

ينتمي إلى هذا القرن

ببالوناته

وإلى الحرب الثالثة

وإلى لغة الهندوس

عندما يغني طاغور

كيف أتقن الشاعر المثقف الدكتور عبد الرحمن فخري تلك المسافات في شعره وكيف عمل على توازن الكتلة الشعورية مع أبيات قصائده التي تؤدي إلى استقامة النص، ولهذا يبرز السؤال كيف تمكن المبدع فخري من إتقان هذه المساحات الهندسية داخل بنية القصيدة حتى لا تنزلق إلى أيِّ نوعٍ من المراهقة الطفولية وتصبح محاكاة لمراهقة شعرية غير ناضجة وعمل فني غير رشيد

أيُّها الحبّ*

أتمسَّحُ بأعتابك الخضر

وأرمي بظلك إليك

بالون الفرح

أيّها الحبّ

من أنتَ

إن لم تكنْ أنا

أريد أن أنتحر بإسمي

لأغرق فيك

أنا عائدٌ من رحلات المستحيل

إليك

يبدو أن الشاعر الفذ فخري استرشد بتلك النتائج الجزئية لتلك المتواليات الرياضية التي تحدد النتيجة النهائية في المعادلة الرياضية وهنا تكمن الإجابة على مثل ذلك التساؤل وكيف طبّق الشاعر هذه الخاصية الرياضية في أعماله الأدبية أو بمعنى آخر كيف استوعب شِعره ذلك وكيف تماثل المفهوم الرياضي والمفهوم الأدبي في قولبة الأفكار والرؤى والمشاعر على نحو من الإبداع لم تألفه الذائقة الأدبية من قبل، ونستطرد هنا كإشارة عامة أنَّ الأديب ليس بالضرورة أن يكون من أهل العلم أو متبحِّر به ولكن التوليفة الشعرية تأتي عن طريق الابتكار والأفكار والترسُّم البياني لها في مخيلة هذا الشاعر أو الأديب.

وقد كان الدكتور عبد الرحمن فخري حذرًا جدًا من أن يقع في فخ التقليد ، وبالتالي يصبح صيدًا سهلًا لشباك النقاد وهو واحد منهم بالطبع، لكنه حريص على ألاّ يكون الحلقة الأضعف لأن الناقد الحصيف هو يدرك أن النص الأدبي قد يبدو قويًا متماسكًا موضوعيًا وفنيًا ؛لكن هناك شيء من الزوائد أو الطفرة الإبداعية والشرود التعبيري فيكتشف تلك الحلقة وذاك الضعف، ولهذا قالوا إن النقد هو المعادل للنص والكاشف خفاياه ولا يصلح نص جيد بدون ناقد جيد، والشاعر الأديب والناقد الكبير الدكتور عبدالرحمن فخري واحد من كبار الشعراء والنقَّاد الذين أسسوا مدرسةً شعرية ومنهجًا نقديًا فطبعوا الحياة الأدبية لعقود مضت بهذا النوع من الشعر المسترسل ومازال تأثيره فاعلًا ومؤثرًا بل إن معظم الشعر يميل إلى هذا الطابع المتحرر من أسر وقيود القصيدة العروضية التي خرج عليها فخري وقاد ثورة شعرية ملهمة قفزت بالقصيدة النثرية إلى الأمام بعد أن وضع فخري مداميكها في المشهد العام وهو بذلك تميَّز عن أقرانه من شعراء القصيدة النثرية فهو لا يرى مكانه كفرد بالقطيع وإنما صوتًا في البرية ينشر لحنه

كيف لا يكون فخري ثوريًا وهو قد شرب من تعاليم المدارس الثورية في العالم وألهمته الثورات اليسارية وشعراؤها، وتأثر بشكل خاص بالشاعر الكبير (بابلو نيرودا)..

يسقطُ القمرُ على الجسد*

نقيًا كآهاتِ البحر

يافعًا كالنشّوة

نابهًا كأنّه الضمير

أشربُ من دمِ الورد معك

في لحظةِ الشعر

بابلو يا حبيبي

أنا لأعرفك

لا أريدُ أنْ أعرفك

فأنتَ البنفسجُ والتبغُ والزيتون

وأنتَ الشعر

وهذا هو زادي منك

وخيالي الجميل

وعلى الرغم من يساريته إلا أنه كان ديمقراطيًا ليبراليًا يطرح أفكارًا قابلة للتداول والمناقشة وحتى النقد وبمنهجية موضوعية بعيدًا عن الإسفاف والتجريح

ولعل أبرز نقاط نقد فخري هو أنه سار نحو السريالية والرمزية والغموض في الشعر وأن ذلك يعدُّ انسحابا نفسيًا نحو الذات

والحقيقة أن الغموض سلاح ذو حدين، قد يستخدمه الشاعر فيضع شعره في ثلاجة الموتى وقد يستخدمه فيجيد فيه ويكون مؤشرًا على مستوى متطور من الثقافة والإدراك لماهيته وخصائصه وتكون اللغة الشعرية شكلًا من أشكال المناورة الأدبية لكشف الأبعاد والزوايا فالغموض هنا حالة إبداعية تولدت من مخاضات القصيدة وتأثير الحياة الإنسانية وهي تشير إلى شمولية الأداء الثقافي والبُعد الإنساني الذي لا يرغب في نثر الغبار الشعري إنَّما يتحول الشاعر إلى ما يشبه المرجل الذي تشتعل من خلاله اللغة وتمسُّ حرارتها المتلقين لهذا فقد حار الشعراء بهذا الغموض الذي يتلبّس الكثير من أعماله الشعري ومنهم الدكتور عبد العزيز المقالح وخاصة في قصيدته الموسومة (بلقيس تبكي بدمعي)

بلقيسُ لها قلبي الأول*

وفتاتي لها قلبي الثاني

لكن فتاتي هي بلقيس

متجردًا كعصا موسى

أضربُ البحرَ قبلكم

كي أغسل

ألواحكم المحفوظة

أفرحُ أنْ أركبَ العمرَ

إليكم

بدلاً منكم

هو لا يطرح شعرًا كي يُفهم للتّو إنَّه يترك للمتلقي متسعًا من الوقت كي يغوص وسط الحروف والكلمات كي تتلبَّسه المعاني كما تلبَّست الشاعر هي إحدى الحيل الأدبية الذكية من الشاعر لاستدراج القارئ فهو يبحث عن قارئ ذكي لمّاح يعرف حدود الكلام وأبعاد الجملة الشعرية فكان ينظم على غير ذات النُّظُم حتى أصبح شعره قد يبدو غامضًا لكنه في الحقيقة شعرًا صادرًا عن عاطفة وجدانية ونَفَسٍ فلسفي وشمولية ثقافية ورؤية حياتية في لحظة فارقة

وأنتِ يا غرناطة*

أيتُها الفتاةُ اللعوبْ

يامنْ تزّوجتِ عند الغروبْ

بالشاعرِ الأخير

رأيتكِ تبحثين عن جيلك

بعدَ الحرب

وتصطادينَ الذُّبابَ

في معرض بيكاسو

لكنّي ألتقطُ أنفاسكِ الآن لا غنّي

إذن اختزل الدكتور عبد الرحمن فخري بأشعاره تجربة تتميّز بالخصوصية لكنه يشعُّ منها معان إنسانية على قدر من الانسجام والتوافق المشبّع بالأَلق والأناقة الشعرية التي مهّدت لمفهوم جديد وعصري للشعر أسقط فيها تلك العبودية والخضوع للصنمية الشعرية التقليدية وأصّلَ نوعًا من الشعر الثوري الحالم بالتغيير لذا اكتسب شعره نوعًا من المغايرة المنهجية واتخذ أساليب تعلو من مفهوم الشعر والأدب عامة وقد كانت هذه ثقافته وعمقه الأدبي ونظرته الفلسفية المستقاة من تأثره بالفلسفة وتوظيف عباراته وشعره بشكل ذكي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى