يمنيات مصابات بسرطان ينتظرن الموت ليخلصهن من آلامهن النفسية

> فتحية أحمد

>
  • 9 آلاف إصابة جديدة بالسرطان تُسجَّل سنويا
  • مها: تخلصت من سرطانين الأول كان سينتشر في كل جسدي والثاني في كل عمري
  • سرطان الثدي يصيب فتيات في أعمار صغيرة (14-15 سنةً)
  • حزن مضاعف وانتظار "رحمة الموت" يمنيات طُلّقن بسبب إصابتهنّ بالسرطان

> ما إن تلقّت، في أواخر العام 2019، خبر إصابتها بسرطان الثدي، حتى أعلن زوج أفراح محمد (45 سنةً)، تسخير نفسه بالكامل لخدمتها، واستعداده التام لبيع كل ما يملكه من أجل تغطية نفقات علاجها.

لكن بمرور الأيام والشهور، فَتَرَت حماسته، وتثاقلت خطواته لزيارتها، وقلّت اتصالاته للاطمئنان عليها، إلى أن قاطعها تماما كأنها قد توفيت، هي التي كانت تقيم منذ نحو ثلاث سنوات في دار الحياة، للرعاية الاجتماعية والدعم النفسي التابع للمركز الوطني لمكافحة السرطان في صنعاء. صارت مجرد شبح يحاول قدر استطاعته تجنّبه.

هكذا، تختصر أفراح لرصيف 22 شعورها بالخيبة إزاء ما تقول إنه تنكّر من زوجها لواجباته تجاهها، ووعوده التي قطعها بالوقوف إلى جانبها حتى آخر لحظة.

تقول بُحزن: "لم تشفع لي عشرون سنة من الزواج، وثلاثة أولاد أنجبتهم له. نسي ذلك وأدار ظهره لي".

لم يَعُدْ لأفراح مَن يواسيها سوى صديقاتها المريضات المتواجدات معها في المركز، فوالدها توفي منذ زمن بعيد، ووالدتها وأشقاؤها المتزوجون يصارعون فقرهم المدقع في قريتهم في محافظة تعز، وليس في مقدورهم تحمّل تكاليف النقل للاطمئنان عليها.

أما أطفالها الذين يعيشون مع والدهم في محافظة الحديدة، فتتواصل معهم بين حينٍ وآخر عبر الهاتف، وهو أكثر شيء يخفف عنها آلامها، وفقاً لما تقول.

تحلم أفراح بالخلاص من مرضها واستثمار شهادة الدبلوم في الدراسات الاسلامية التي حصلت عليها من كلية التربية في محافظة الحديدة. تمتلئ عيناها بالدموع، وهي تعبّر عن آمالها: "لم أجد في السابق وظيفةً حكوميةً، فتطوعت للعمل معلمةً لخمس سنوات، وسأعود إلى ذلك إذا شُفيت. المهم أن أقدّم خدمةً للناس".

تشير إلى مجموعة من الشابات المنهمكات في حديثٍ على مقربة منها، وتقول هامسةً: "بعضهن في عمر الورد، مع ذلك تركهنّ أزواجهن يصارعن السرطان وحيدات، ومنهن كثيرات أورامهن حميدة ومع ذلك هُجِرنَ".
  • سرطانان
تشير مديرة الكشف المبكر عن سرطان الثدي في المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان، الدكتورة أسماء أمين، إلى أن الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها اليمنيون بنحو عام، والتكاليف الكبيرة لعلاج السرطان بنحو خاص، "من أهم الأسباب التي تدفع بعض الأزواج إلى التخلي عن زوجاتهم المصابات بالسرطان، الأمر الذي يؤثر سلبا على حالتهن النفسية، وتفاعلهن مع العلاج، ويضاعف من آلامهن"، وتضيف بأسف: "كثيرات من المريضات المهجورات، استسلمن لأقدارهن، ويشعرن بأن الموت أقرب إليهن من الحياة، بعد تخلّي أزواجهن عنهن".

مها علي (19 سنة)، من محافظة المحويت، تزوجت في العام 2021، وطلّقها زوجها بمجرد اكتشافه أنها مصابة بسرطان الثدي. ولم يكتفِ بهذا فحسب، كما تقول بصوت تخنقه العبرة، بل "أقام دعوى قضائيةً على أهلي أمام المحكمة طالبهم فيها بتسليمه المهر وجميع المبالغ التي أنفقها خلال زواجنا متهما إياهم بخداعه وإخفاء أمر مرضي عنه، مع أنني اكتشفت المرض بعد زواجنا، وهو يعلم ذلك جيدا".

غادرت مها دار الحياة للرعاية الاجتماعية، بعد استكمال علاجها الذي استغرق أشهرا عدة وتماثلها للشفاء، لم تفق بعد من صدمة المرض الذي تخلصت منه وهو في مراحله الأولى، ومن الطريقة التي عاملها بها طليقها.

تأخذ نفسا عميقا، ثم تقول بشيء من الارتياح: "تخلصت من سرطانين، الأول كان سينتشر في كل جسدي، والثاني في كل عمري".

أفراح ومها، وعشرات غيرهما، استفدن من الخدمات التي تقدّمها المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان ومركز الحياة التابع لها، بإيوائه النساء والأطفال المصابين بمرض السرطان من الذين يتلقون العلاج في مستشفيات العاصمة صنعاء.

وتوفر المؤسسة لهم -فضلا عن ذلك- بعض الأدوية، وتجري لهم بعض الفحوصات الطبية، كم تساعدهم بنسبة 30% من تكاليف إجراء العمليات الجراحية، والجرعات الكيميائية.

وبحسب نائب مدير المؤسسة عبد المنعم الشميري، فإنها "خيرية وطنية غير ربحية، تتمتع بشخصية اعتبارية ولها ذمة مالية مستقلة، تمارس نشاطها وسلطاتها على أساس خيري وطني وفقا للإجراءات المنصوص عليها في نظامها الأساسي، وطبقا لمبادئ الدستور المؤسسة".

والمؤسسة تأسست في العام 2003، في العاصمة صنعاء، ولها العديد من الفروع في محافظات إب والحديدة وتعز وعدن وصعدة، كما لها فرع آخر تم افتتاحه مؤخرا في العاصمة المصرية القاهرة.

وذكر الشميري أن المؤسسة تتلقى الدعم من "فاعلي خير وتجّار"، وتطلق حملات إعلانية تؤكد فيها أن الأموال تذهب لتوفير المأوى والطعام والعلاج لمرضى السرطان.
  • أعداد متزايدة
أشارت تقارير إعلامية، نقلا عن وزارة الصحة العامة والسكان في صنعاء، إلى وصول أعداد مرضى السرطان في اليمن إلى 71،000 حالة خلال السنوات الثماني المنصرمة، وإلى أن تسعة آلاف حالة إصابة جديدة بالسرطان تُسجَّل سنويا، وتذكر أن 12 شخصا -على الأقل- توفوا جراء المرض.

وتُعدّ محافظتا الحديدة وحجة، المتجاورتان، من أكثر المحافظات اليمنية تسجيلا لحالات الإصابة بمرض السرطان.

استشارية الأشعة التشخيصية في المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان في صنعاء، الدكتورة أمل العريقي، ذكرت أن أعداد مرضى السرطان في اليمن آخذة في الازدياد مقارنةً بالفترة التي سبقت الحرب التي اندلعت في 2014.

وأكدت أن سرطان الثدي بات يصيب فتيات في أعمار صغيرة (14-15 سنةً)، في الوقت الذي لم تكن تصاب به قبل الحرب، بشكل عام، سوى النساء اللواتي كن في الأربعينيات من أعمارهن وما فوق.

وتقول العريقي: إن هناك أنواعا جديدةً من السرطانات "الخبيثة" التي انتشرت بين اليمنيين، في حين أنها كانت نادرة التسجيل قبل اندلاع الصراع في البلاد.

ومن تلك السرطانات: "أورام الغدد اللمفاوية التي تصيب الصغار والكبار، وأورام الأمعاء والقولون والحلق والعين"، وتعتقد بأن أسبابها متعلقة بالحرب ومخلّفاتها من القنابل والصواريخ، فضلا عن المجاعة والأوضاع المعيشية والنفسية الصعبة التي عاشها اليمنيون في زمن الحرب، والمبيدات الحشرية المحرّم بعضها دوليا والتي تُرشّ بها أشجار القات، حسب ما ذكرت.
  • الموت سترة
"النساء هن الشريحة الأضعف في المجتمع اليمني، ومرض السرطان يزيد طين ضعفهن بلّةً". هكذا تلخّص القضية ممرضةٌ في مركز الحياة، طلبت عدم الإشارة إلى اسمها.

تقول : "معظم نزيلات المركز تخلّى عنهن أزواجهن بسبب المرض، وينتظرن الموت ليخلصهن من آلامهن النفسية التي خلّفها الخذلان أكثر مما خلّفها المرض نفسه".

وبحسب اطلاع الممرضة، فإن الكثير من الأزواج يتركون زوجاتهم بمجرد اكتشاف إصابتهن بالسرطان، والقاسم المشترك بينهم جميعا هو ظروفهم المعيشية الصعبة، وعدم تمكّنهم من تحمل تكاليف علاج السرطان الذي يستغرق في العادة فترةً طويلةً، ويعتقدون بأن نهاية كل ذلك هو الموت.

وتلفت الممرضة إلى أن كثيرات من النساء يذهبن إلى مركز الحياة بعد تخلّي أزواجهن عنهن، وقد استفحل السرطان في أجسادهن: "الحزن يضاعف من آلامهن فلا يبقى أمامهن من خيار سوى انتظار الموت، إذ تنهار كل آمالهن وطموحاتهن للعيش أو التعافي، وحتى إذا تعافين فإنهن يرين أنه لا فائدة من ذلك، فهن يشعرن بأنه لم يعد لهن أحد في الحياة يعشن لأجله".
  • طلاق.. وإنْ كان الورم حميدا
تتواجد في مركز الحياة 120 مصابة بالسرطان، يستكملن علاجهن مع مرافقاتهن، وتكون مغادرتهن مرهونةً بحالتهن، بينما لا خيار أمام اللواتي تخلى أزواجهن عنهن سوى المكوث فيه، والمركز يستوعبهن إلى أجلٍ غير مسمّى.

سمر عوض (35 سنةً)، من محافظة ذمار وسط اليمن، واحدة من هؤلاء، استفادت من الخدمات التي يقدمها المركز في صنعاء لمدة سنة كاملة، حتى تعافت من مرض السرطان، ثم غادرته.

ولم يمضِ سوى أسبوع واحد فقط، حتى عادت مجددا إلى المركز طالبةً السكن، لأن زوجها كان قد طلّقها وتزوج بأخرى، لذا لم يبقَ لديها مكان آخر تذهب إليه، فسمحت لها إدارة المركز بالإقامة الدائمة.

وفي المركز، أمٌّ طُلّقت بسبب مرض ابنتها، هي أم سلمى (45 سنةً) التي علمت بمرض ابنتها الشابة قبل ست سنوات، واضطرت إلى السفر من منطقتها في محافظة حجة شمال غرب اليمن لمرافقتها والاستقرار معها في المؤسسة الوطنية للسرطان في صنعاء، للعلاج، الأمر الذي دفع زوجها "أبو سلمى"، إلى تطليقها والتخلي عنها وعن ابنته، والزواج بامرأة أخرى.

وهناك أيضا رحيمة حمود (23 سنةً)، من محافظة ذمار، والتي لم يشفع لها زواجٌ وحب استمرا أربع سنوات، إذ تخلّى عنها زوجها فور علمه بإصابتها بورم سرطاني في الرحم.

تؤكد رحيمة بعينين دامعتين أن عائلة زوجها الذي لم تُرزق منه بأطفال تعتقد بأن السرطان مرض معدٍ، وقد أقنعت زوجها بذلك، فقام بطردها.

رحيمة تسكن في المركز الوطني لمكافحة السرطان في صنعاء، منذ ثمانية أشهر، وتتلقى بعض العلاج في المركز والبعض الآخر في المستشفى الجمهوري الحكومي ومستشفى أزال، بمساعدة صندوق السرطان. تقول بنبرة ألم، إن أحدا لا يرافقها، والجميع تركها، "حتى والدي بقي معي أسبوعا فقط، ولم أعد أراه، ووالدتي مطلقة وتعيش مع رجل آخر".

تبلع ريقها وتصدر عنها أنّة وجع قبل أن تواصل: "لا أعرف ما هو مصيري بعد إكمال العلاج، الموت أرحم لي مما فعله بي زوجي ووالدي".

تقول مديرة دار الحياة للرعاية الاجتماعية والدعم النفسي في المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان في صنعاء، وجدان الجرموزي، إن سعة المركز 120 سريرا وهو خاص بالنساء والأطفال والمرافقين، ويتم توفير الطعام والمواصلات والإقامة إلى حين استكمال العلاج وإن هناك مَن تعافين من المرض منذ سنة وأكثر ومع ذلك بقين لأنهن لا يملكن مكانا يذهبن إليه.

وتضيف بضيق أن بعض الأزواج يتخلون عن زوجاتهم حتى وإن تبيّن أن أورامهن ليست خبيثةً -بل حميدة- وحياتهن ليست مهددةً، وذلك بذريعة عدم القدرة المالية.

ولبيان وجهة نظر الطرف الآخر، أي الأزواج الذين يهجرون زوجاتهم المصابات بالسرطان، تواصلنا مع علي حمود (اسم مستعار، 37 سنةً)، فذكر أن وضعه الاقتصادي المتردي وغرقه في الديون هما اللذان دفعاه إلى التخلّي عن زوجته قبل ثلاث سنوات، بعد زواج استمر عشرة أعوام، رُزق خلاله من زوجته بولدين يعيشان الآن مع والديه في محافظة إب وسط اليمن.

علي كان معلما لمادة اللغة العربية، لكنه عاطل عن العمل منذ وقف توزيع الرواتب في 2016، ويعتمد كليا على حقل قات يملكه، وبالكاد توفر مبيعاته ما ينفقه على الطعام.

بدا متأثرا وهو يقول "لم أطلّقها إلا بسبب ظروفي القاسية، والسرطان يحتاج إلى ميزانية كبيرة، وأنا لم أكن أملك حتى أجور نقلها إلى المستشفى".
  • طلاق عبر واتساب
عايش أستاذ علم الاجتماع وإدارة الأزمات في جامعة الحديدة الدكتور نبيل الشرجبي بعض الحالات، ويشرح لرصيف22 أن السبب الرئيسي لتخلّي قسم من الأزواج عن زوجاتهم بمجرد اكتشافهم أمر إصابتهن بمرض السرطان ماليٌّ بحت.

ويوضح: "هناك مَن يكابد مصاعب جمةً بسبب تكاليف العلاج الباهظة التي تصل في بعض الأحيان إلى الملايين، على الرغم من بعض الخدمات المجانية التي يحصل عليها مريض السرطان من بعض الجهات، فمراكز علاج السرطان لا تتحمل كامل النفقات وهو ما يعني تحمّل الزوج أعباء ماليةً، قد لا يكون قادرا عليها".

ولكن بعض القصص توضح أن ضيق الأوضاع المادية ليس السبب الوحيد، وأن أحد الأسباب الرئيسية هو رفض الزوج مساندة زوجته في الضرّاء. تروي سماح صديق (17 سنةً)، لرصيف22، وهي تقاوم نوبة بكاء، كيف أن زوجها المغترب في السعودية، أرسل إليها ما يفيد بتطليقه إياها عبر تطبيق واتساب.

تجهش بالبكاء قبل أن تتمالك نفسها وتضيف: "كنا قد عقدنا القِران قبل سنة ونصف، لكن من دون دخول، لأنني كنت صغيرةً وأيضا بحكم عمله واضطراره للسفر، لكن إصابتي بسرطان الثدي جعلته يغير رأيه ويتركني".

تحرّك رأسها يمنة ويسرة معبّرةً عن استيائها الشديد: "صدمة رسالة الواتساب كانت أقوى من خبر إصابتي بالسرطان، فلم يعد لي أي أمل في الحياة، كل آمالي وأحلامي كانت متعلقةً به وبمستقبلي معه كزوجة، وكل ذلك قد انتهى الآن".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى