الحرب والسلام عند أحمد السلامي.. تأملات نقدية في نصوص "قديس خارج اللوحة"

> أحمد الفلاحي

>
الشعر له قدرته المميزة على الإفصاح عن الشعور والتركيز على متغيرات القضايا الإنسانية. ثم إن الشعر يتطرق إلى موضوعات متغيرة، مثل الحرب والسلام الذي يحظى بالأهمية. وهنا سنتناول في هذه التأملات عدة نصوص من مجموعة قديس خارج اللوحة للشاعر أحمد السلامي بطريقة فنية وفلسفية.
سلام
من بين غبار المعارك
وبعد كل حرب
يطل السلام حزينًا ووحيدًا
لا تلتفت إليه
إلا عيون القتلى
في النص السابق يتناول السلامي صورة السلام لرسم صورة الحرب الكئيبة، فيعبر عن تناقضات الحياة الحالية بنفس تناقض السلام والحرب. إنه يرى الوحدة والحزن وهما يحيطان بالسلام، وعدم اكتراث الناس بهذا السلام الذي يفترض أن يغمرهم بالطمأنينة. السلامي يركز على استخدام الدلالات والصور المجازية لتعميق الهوة بين السلام والحرب، لتصل رسالته الفلسفية إلى المتلقي محملة بكل الدلالة.

وبإسقاط نظرية النقد الاجتماعي على النص السابق، نلمح السلامي يستخدم تلك الصورة لانتقاد الجمع الذي يجمِّل الحرب ويتجاهل حالة السلام المجتمعي والسلام بمعناه الكلي. فالشعر هنا يعكس طبيعة الحرب المأساوية ويرفض أي تبرير لها أو تجميل صورتها كما يراها أصحاب المصالح.

تحليل أدبي ولغوي وفلسفي:

النص السابق يمتاز بأسلوب شعري عميق مع بساطة اللغة والتركيب، وهو أسلوب يعمد إليه السلامي في كتابته دائمًا متمثلًا نظرية الجمال التي تعتمد البساطة والشمولية والتجريد. يتبنى في نصه صورًا شعرية ومجازات وأبعادًا دلالية لتمرير تجربة الحرب والسلام التي عايشها، فنجده يرسم حزن ذلك السلام ووحدته وأنسنته، ثم إن السلام لا يراه القتلة إنما عيون القتلى التي تراه وهي راحلة وسط الدمار. النص يوحي بتضارب الأحاسيس، تناقضات اليومي بين الحرب من جهة وبين السلام والذي يبقى حزينًا ووحيدًا في ظل الدمار الذي أحدثته الحرب والنزاعات.

لغويًّا، ينوّع السلامي في استخدام اللغة والمفردات والأفعال المضارعة والحال، فيبني صورًا ورموزًا ومجازات تلبي تعبيره الشعري. يستخدم الشاعر مفردات بسيطة، لكنها قوية الدلالة تثير الانتباه فينقل أحاسيسه ومشاعره إزاء الحرب والسلام. فصورة "غبار المعارك" التي تدل على حجم الدمار والفوضى، و"عيون القتلى" تبلور كمية الحزن الناجم عن الحرب. ثم إنه يستخدم اللغة بسلاسة لإيصال التأثيرات النفسية لصراعات الحرب ونتيجتها على الناس والأرض.

فلسفيًّا، يعكس الشاعر في نصه السابق دلالة الحرب بالسلام كمفهوم فلسفي، إنه يتناول استمرار تبعيات الحرب وعجز السلام على التغيير. لذا نجده يشير إلى ظهور السلام حزينًا ووحيدًا، وهذا يعكس طبيعة السلام المؤقتة تاريخيًّا؛ إذ إنّ الصراعات هي الأعم، والسلام هو الاستثناء. يقدم الشاعر في النص فكرة عدم الاستقرار وعجز البشر عن تحقيق السلام المستمر.

ولو طبقنا نظريات نقد الشعر على نص سلام، سنجد:

"من بين غبار المعارك"

في هذه الجملة يمكننا استخدام نظرية العنصر الرمزي لتفسيرها، فـ "غبار المعارك" يشير إلى العتمة والتشويه والدمار الناجم عن الحروب، غبار المعارك كان مقتصرًا في السابق على معارك الخيول والصدام المباشر. أما الآن فالانزياح أخذ دلالات أخرى، مثل الغبار النووي والغبار الناتج الدمار الذي تنتجه الأسلحة الحديثة، وكأن الشاعر يشير إلى أن الحرب من طرف واحد هو المعتدي، والطرف الآخر هم القتلى المغلوب على أمرهم.

"وبعد كل حرب"

بإسقاط نظرية الوقت والمكان في الشعر على هذه الجملة، نجدها تحيل إلى مفهوم البعد الزماني لطول الحرب "وبعد كل حرب" التي تشير إلى تعدد الحروب وتأثيرها على الواقع والأفراد.

"يطل السلام حزينًا ووحيدًا"

بالاعتماد على نظرية الصوت والرنين في الشعر، نجد أن السلام المفهوم الشامل للاستقرار تمت أنسنته هنا، فبدا حزينًا ووحيدًا لا يلتفت إليه أحد، وذلك إذا ما ربطناه بنظرية الصورة البصرية، حيث يظهر السلام ككيان حزين ووحيد.

"لا تلتفت إليه"

جعل الشاعر هذه الجملة بسطر منفصل، وكأنما هي دعوة لعدم الاهتمام بالسلام، وهي إزاحة تعنى بتجار الحروب الذين لا يرغبون بالسلام إلا لالتقاط أنفاسهم. هذا التحليل يعتمد على نظرية الاستبداد اللغوي في الشعر ثم يأتي الاستثناء.

"إلا عيون القتلى"

حسب نظرية الرمزية البصرية في الشعر، فإنّ "عيون القتلى" ترمز إلى الآثار الوحشية للحرب، وإن القتلى وحدهم الذين شعروا بأهمية السلام بعدما فارقوا الحياة؛ إنهم الطرف المستضعف الذين يدفعون حياتهم ثمنًا للاشيء.
ختامًا، نستطيع القول إنّ النص يمكن اعتباره مجموعة احتجاجات على الحرب والدمار الذي تحدثه، والسلام الكاذب، إذ يرى الشاعر أن لا سلام سيحل طالما عيون القتلى ما زالت ترى القاتل يبتسم والوطن يبكي.
قديس خارج اللوحة
ما أعرفه تمامًا
أنك تنتمي لفصيلة البشر
تنجب أطفالًا
وتقف مثل الآخرين أمام الصراف الآلي
تحزن وتفرح
كأي إنسان
تيقن من الأمر بنفسك
انتزع ملامحك بهدوء
من داخل تلك اللوحة
التي تظن أنك بداخلها
وحين تستعيد ظلك
تأمل اللوحة من خارجها
يمكنك الاقتراب أكثر
سترى أنّ الأنبياء والقديسين في اللوحة
لا يفتقدون صورتك
لأنك لست واحدًا منهم.

في نص (قديس خارج اللوحة)، وهو -بالمناسبة- عنوان مجموعة الشاعر أحمد السلامي، يكشف فيه عن الجوانب الإنسانية المشتركة بين الجميع، فتراه يشدد على القدرة الإنسانية على التعاطف والتجربة المشتركة. يخاطب الشاعر ذاته ويراها من خلال مرآة الذات المغايرة من خلال الأنا والآخر، مخاطبًا إياها بأنها شخص يعيش حياة عادية، يحزن ويفرح، ويقف أمام الصراف الآلي كأي إنسان آخر.

ولو استخدمنا نظرية التأويل وتحليل الرموز، ندرك أنّ الشاعر يرمز إلى الإنسان كوحدة أساسية في المجتمع، وأنّ الانتماء البشري يتجاوز الحدود والتمييز. يفترض الشاعر الإنسان العادي بصفته قديسًا، لكنه خارج من اللوحة، إذ تشير اللوحة إلى الجمود بصفتها حيزًا مكانيًّا تقولبت فيها الشخوص في حقبة زمنية، وخارج اللوحة يؤكد الشاعر على تمتع الإنسان بالقدرة على العيش والتجربة في العالم الحقيقي بمشاعره وتجاربه الشخصية.

تحليل أدبي ولغوي وفلسفي:

في هذا النص، يعيد الشاعر تشكيل صورة الإنسان العادي بما يراه من متغيرات يومية بفعل التغيير الزمني والتطور إذا جاز لنا التعبير، فالشاعر يفصح للذات المخاطبة بأنها تنتمي إلى البشرية بصفة عامة، فيظهر الشاعر الروح الإنسانية العميقة والقدرة على الشعور والتجربة الإنسانية المشتركة. ثم يتناول العلاقة بين الإنسان بوصفه فردًا، والأعمال الروتينية مثل الوقوف أمام الصراف الآلي بوصفها حراكًا مستمرًّا يتزامن مع اليومي من جهة، ومع ما يأمله الشاعر للذات المتأطرة في اللوحة والانتماء إليها من منظوره، وعدم الاكتراث لشخوص اللوحة من القديسين والأنبياء له أو حتى افتقاده من جهة أخرى. تلك هي الغربة والوحشة حتى لو كانت بجوار أولئك الأنبياء، فهو يدعو ذاته للخروج ليعيش الحياة التي تسمح له بالشعور بذاته ولو كانت مليئة بالأخطاء.

يستخدم الشاعر صورة الحياة اليومية للقديس ومشاعره البشرية كالحزن والفرح، فتصل إلى القارئ، ويعتبر الشاعر المتمكن قادرًا على إيصال العواطف والمشاعر المختلفة من خلال استخدام التعابير اللغوية والصور الشعرية والأساليب الأدبية، وهذا ما يسمى بنظرية العواطف والانتماء في نقد الشعر لفهم تأثير هذه الصورة على المشاعر وتواصل القارئ مع النص.

لغويًّا، ينحاز السلامي كعادته إلى اللغة البسيطة، فيعبر عن الأفكار والتجارب الإنسانية العادية بطريقة مباشرة ومفهومة. يستخدم ألفاظًا يومية، مثل "صراف آلي" و"تحزن وتفرح"، لتوضيح الروتين الحياتي للمخاطب كذات أو آخر. يتقن اللغة السهلة لإبراز التناقض بين الحالة العادية للذات، والعالم الفني والروحي الذي يشعر به بداخله.

فلسفيًّا، في النص، يرتبط الجانب الفلسفي بفكرة الإنسانية والوجود البشري، فنجد الشاعر يستعرض الشخص العادي، وكيف أنه يشعر ويجرب مختلف المشاعر والأحاسيس ويعيش حياة طبيعية. ثم إنّ النص يعزز فكرة التأمل والتواصل مع الفن والجمال، مما يعكس القدرة الفلسفية للفرد على استيعاب العالم وتحقيق الانسجام بين الذات والمحيط. نص "قديس خارج اللوحة" يعبر عن فكرة هوية الإنسان والتحرر من الصور المثالية المفروضة عليه.

سنقوم الآن بتحليل نقدي للنص مع تطبيق نظريات نقد الشعر.

العنوان كعتبة

"قديس خارج اللوحة" هذه العتبة تشير إلى تخلي الخارج من اللوحة عن قداسته التي اكتسبها بفعل المجالسة أو بفعل التحنيط داخل الإطار؛ مما يعني أنّ هذا الخروج هو دعوة إلى التحرر من القيود الجسدية والمكانية. يمكننا تطبيق نظرية التحرر والفكاهة في نقد الشعر لفهم هذه الفكرة، حيث يقدم الشاعر القديس بطريقة غير تقليدية ويدعو القارئ إلى إعادة تقييم الصور المثالية والتقاليد المقدسة.

ثم يستخدم الشاعر صورة الحياة اليومية للقديس ومشاعره البشرية كالحزن والفرح، فتصل إلى القارئ ويعتبر الشاعر المتمكن قادرًا على إيصال العواطف والمشاعر المختلفة من خلال استخدام التعابير اللغوية والصور الشعرية والأساليب الأدبية، وهذا ما يسمى بنظرية العواطف والانتماء في نقد الشعر، لفهم تأثير هذه الصورة على المشاعر وتواصل القارئ مع النص.

يتم استخدام الصورة البصرية لإظهار التحول الداخلي للشخصية، مثل الوقوف أمام الصراف الآلي، وهي صورة عصرية تنم عن المادية والحاجة للمال، وربما نجد إشارة إلى ذلك في النص القرآني "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق"، إشارة إلى النبي والذي يمارس حياته الاعتيادية. ونجد أنه يمكننا استخدام نظرية الصورة والرؤية في نقد الشعر لفهم الأثر البصري وتأثير الرؤية على تجربة القارئ. ثم يقدم الشاعر فكرة الاكتشاف الذاتي واستعادة الهوية المفقودة، ويعزز السطر الشعري هذه الفكرة من خلال استخدام مفردة "انتزع"، التي تشير إلى استعادة الصورة الحقيقية للقديس وتحريره من القيود الخارجية، كما يتم التأكيد على عدم الانتماء للقديسين والأنبياء داخل اللوحة، يبدأ ذلك بقوله: "التي تظن أنك بداخلها"، هذا الظن إشارة إلى عدم التأكد، وفيه إشارة واضحة للذات المخاطبة بعدم التوهم بالقدسية. يمكن استخدام النظرية النقدية والتأمل في نقد الشعر لفهم دور القارئ في بناء المعنى وفهم الرسالة المنقولة. ويستخدم الشاعر صورة المشاهدة من الخارج لتأكيد عدم الانتماء للقديسين والأنبياء. يشير إلى أنّ القديس خارج اللوحة، لأنه ليس جزءًا من الأشخاص المقدسين التقليديين.

"سترى أنّ الأنبياء والقديسين في اللوحة لا يفتقدون صورتك": يعرض هذا السطر فكرة التواصل بين القديس والأنبياء والقديسين في اللوحة حيث يمكن تفسيره على أن القديس يحمل صورته الحقيقية، والأنبياء والقديسون يتعرفون عليه لكن لا يفتقدونه بينهم.

من خلال هذا التحليل النقدي وتطبيق نظريات نقد الشعر، يتم إبراز فكرة التحرر الفكري والثقافي، وتحدي الصور المثالية والتقاليد المفروضة على الإنسان. كما يشجع الشاعر القارئَ على التأمل وتسليط الضوء على مفهوم الهُوية البشرية والتحرر من القيود المجتمعية والثقافية المفروضة على الفرد. يظهر الشاعر رؤية مبتكرة للقديس، ويدعو القارئ إلى التأمل في المفهوم التقليدي للقديسين، وتحويله إلى صورة أكثر إنسانية.
"خيوط".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى