القمر صديق العشاق وبطل الحكايات الدموية

> «الأيام» :حميدة أبو هميلة

> الأساطير المنسوجة حوله حاضرة في الأذهان على رغم الاكتشافات العلمية والصراع بين أقطاب العالم للسيطرة عليه مستمر منذ عقود

> اختارت الأمم المتحدة اليوم العالمي للقمر ليوافق الـ20 من يوليو من كل عام

"لماذا يتبعنا القمر دائماً"؟ سؤال الطفولة الذي لطالما لم نقتنع بإجابته التي كانت تشير إلى أن هذا الجسم الفلكي الأقرب إلى الأرض لا يمشي وراء أحد، وإنما البشر يتحركون على الأرض وهو على مدى البصر يظهر وكأنه يراقب ويتلمس الخطى، هذا الرد غير المفهوم بالنسبة إلى الصغار، لطالما دعاهم إلى محاولة خداعه بالسير قليلاً والنظر إليه ثم التوقف بشكل مفاجئ وكأنهم سيربكونه أو يضبطونه متلبساً فلربما يتعثر في خطواته ليثبت وجهة نظرهم.

شيئاً فشيئاً سيتكفل كتاب العلوم بتبسيط الفكرة وشرحها، وتختفي حيرة الطفولة حيال علم الفلك، ليكون القمر في ما بعد مرادفاً لمعان مختلفة تشغل البال، مثل السهر، وربما التوتر والقلق والأرق، بل إن مبدعي روايات الخيال العلمي يضعونه في قفص الاتهام دوماً في ما يتعلق بتأثيره الهائل في سلوكيات بعض الأشخاص، فهذه الكتلة المضيئة التي تقوم بعملها كل ليلة وتنير السماء، شكلت دوماً مجالاً للتفسيرات المتناقضة، من صديق ورفيق للمغرمين، وبطلاً لأغنيات العشاق، ولفظاً حاضراً في عناوين الروايات والأعمال الدرامية، إلى سبب في الصراع بين أقطاب العالم، ومرجعاً أساسياً لمن يتبنون نظريات ترى في تحولاته مرادفات لكثير من الكوارث التي تبدأ بمشكلات في النوم والجنون والاضطراب الذهني ولا تنتهي بالاستذئاب والتسبب بالزلازل المدمرة.

هذا القمر الذي يشكل هوساً للمستكشفين ورواد الفضاء، اختارت الأمم المتحدة يومه العالمي ليوافق الـ20 من يوليو (تموز) من كل عام، وذلك في ذكرى هبوط الوحدة القمرية التابعة لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا" على سطح القمر بقيادة نيل أرمسترونغ الذي أصبح أول بشري تطأ قدماه سطحه في عام 1969، إذ إن آثار قدميه لا تزال هناك شاهدة على الإنجاز المقترن برحلة "أبوللو 11"، في الساعة الـ10 و56 دقيقة ليلاً، لكن قبل ذلك بنحو ثمانية أعوام أجرى الروس أول رحلة استشكافية في الفضاء بشكل عام، وكان السوفياتي يوري غاغارين أول بشري يدور حول الأرض. وكانت روسيا أيضاً هي صاحبة أول قمر اصطناعي يرسل إلى الفضاء في عام 1957، فالصراع بين روسيا والولايات المتحدة على اكتشافات الفضاء سواء في ما يتعلق بالأسبقية أو محاولات فرض السيطرة واليد العليا، هو الأمر الذي فجر موجة هائلة من التشكيك في رحلة "أبوللو" نفسها، فحتى الآن نجد أن هناك من يتبنى نظرية أن صور تلك الرحلة مفبركة والتقطت في استوديوهات مجهزة لمحاولة خداع العالم بأن الولايات المتحدة هي صاحبة أول بصمة على سطح القمر، بل إن قناة "فوكس نيوز" بثت مقاطع وبرامج عدة تروج لتلك النظرية، وذلك على رغم ظهور أدلة تفند تلك الادعاءات بينها أن بعض الأعلام التي زرعت منذ رحلة "أبوللو" لا تزال موجودة، وبعضها تتعلق بالصور عالية الجودة التي تم الكشف عنها، فيما قررت "ناسا" أخيراً استئناف مهماتها القمرية مرة أخرى، إذ ستطلق رحلة بشرية إلى القمر قريباً، في بعثة تستمر أسابيع وليس مجرد أيام، وهي الرحلة التي لم تغفل أيضاً قيم "الصوابية السياسية" التي باتت مسيطرة على قرارات أغلب المؤسسات العالمية بمختلف مجالاتها، فبحسب تصريحات لبيل نيلسون مدير وكالة الفضاء الأميركية، تتضمن الرحلة هبوطاً لأول شخص ملون وامرأة على سطح القمر وذلك ضمن برنامج "أرتميس".

إذاً عاد الصراع مجدداً وبقوة، فالصين أعلنت أيضاً خططاً مشابهة وكذلك روسيا ووكالة الفضاء الأوروبية والهند، وكان لافتاً أن مدير "ناسا" علق على استئناف الرحلات المأهولة للقمر بالقول "لا نريد أن يعتبر الصينيون القمر أرضهم"، وهو تعليق يؤكد تلك المنافسة الشرسة التي تحركها الرغبة في السيطرة أولاً وربما يأتي البحث العلمي لاحقاً، ويذكر ذلك بالمسلسل الكوميدي الأميركي الذي عرض قبل عامين من بطولة ستيف كارل بعنوان "قوة الفضاء" (Space Force) بموسميه، إذ تناول بشكل ساخر الصراع الأميركي - الصيني بهذا الصدد.

بعيداً من واقعية وصف القمر المليئ بالرمال والصخور ومعدوم الغلاف الجوي والرياح، فإن الجانب الشاعري والروحي له هو الأكثر حضوراً في أذهان العامة، لهذا كانت الأعمال الأدبية والفنية تتغزل بالقمر، باعتبار نوره الخافت يصلح لليالي الرومانسية، ويؤنس وحدة الساهرين، ويمنح من في الشوارع بعض السكينة. وبالطبع نظراً إلى تكوينه وبهائه كان الأحباء دوماً يشبهون شركاءهم به للدلالة على جمالهم وتفردهم، وللأغنيات العاطفية دوماً النصيب الأكبر، وبينها "مال القمر ماله، ومداح القمر، ونحنا والقمر جيران، وتيجي نقسم القمر، وأحلى قمر، وحلف القمر، وقمرين"، أما أغنية "يا ما القمر ع الباب" التي حققت شهرة كبيرة بصوت فايزة أحمد حينما غنتها في فيلم "تمر حنة" في عام 1957، وكتب كلماتها مرسي جميل عزيك ولحنها محمد الموجي، فكانت سبباً في أزمات عدة بدءاً باتهام مؤلفها بأنها اقتبس كلماتها من أغنية قديمة تعود لعشرينيات القرن الماضي، ثم نشوب خلاف بين ملحنها وزوجته المغنية أحلام حينها بسبب منحها لمنافستها فايزة أحمد آنذاك وتحقيقها نجاحاً كبيراً من خلالها، ولكن المشكلة الأكبر كانت بسبب منع إذاعتها لأنها "خادشة للحياء ومثيرة"، فالفتاة تفكر في أن تدعو حبيبها إلى أن يدخل إلى بيتها ليلاً وبالتالي لم يكن مقبولاً الترويج لهذا المعنى. ووصل الأمر إلى استجواب برلماني في مصر، كما صدر قرار في الأردن وقتها بإيقاف بثها بناء على توصيات الجهات الدينية باعتبار أن كلماتها مخلة بالآداب.

وكان لطور القمر، الهلال، مغزى كبير ومهم عند السيدة أم كلثوم، التي كانت تفضل دوماً أن تضع دبوساً على شكل هلال كإكسسوار على ملابسها بخاصة في حفلها الشهري المعتاد وكانت ترى أن الهلال بالنسبة إليها كتكوين يبعث على التفاؤل ويرمز للميلاد بعكس القمر المكتمل "القمر الـ14" كما يسمى. وجهة نظر "كوكب الشرق" تبنتها دراسات عدة وقدمت حولها أطروحات علمية على مدى عقود، إذ يعتقد كثيرون أن أطوار القمر تؤثر في السلوك البشري بشكل واضح، بل يذهب بعضهم إلى أن المجال المغناطيسي للأرض تحدث به تغيرات خفيفة وفقاً لشكل القمر سواء كان بدراً أم محاقاً أم هلالاً، وتلك التغييرات على ما يبدو تؤثر في مجموعة من الناس من دون غيرهم، فمنهم من يصاب بالهوس أو التوتر والقلق النفسي وقلة النوم والاكتئاب، وبعضهم الآخر على العكس يصبحون أكثر هدوءاً، وحرص الباحث في مجال النوم بجامعة "أكسفورد" فلاديسلاف فيازوفسكي على تسجيل ملاحظاته حول تلك المعطيات في دراسة أجراها على مرضاه المصابين بالاضطراب ثنائي القطب، لافتاً إلى أن حالهم المزاجية تتبدل بالفعل مع كل دورة قمرية.

إلا أن صناع السينما لم ينتظروا تأكيد تلك النظريات من الأساس بل اعتمدوا على ما تواتر على مدار التاريخ من ربط أطوار القمر بالتقلبات النفسية والاضطراب السلوكي، فمثلاً كان الفيلسوف أرسطو يعتقد بأن التعرض لجاذبية القمر المكتمل يسبب الصرع والجنون، وبالتالي كانت هناك أعمال متعددة تربط بين اكتمال القمر وكثير من الشرور وأبرزها ظاهرة المستذئبين، إذ تم استغلال الأساطير التي تروج عن القمر وصنع قصص خيالية تشير إلى تحول بعض البشر إلى ذئاب عند منتصف الدورة القمرية الشهرية ليكون هذا التحول حافزاً على ارتكاب أبشع الجرائم، وبينها "أنوزر وولف كوب" (Another WolfCop)، و"جينجر سنابس 2: انليشد" ((Ginger Snaps 2: Unleashed، و"ذو وولف اوف سنو هولو" (The Wolf of Snow Hollow).

وبحسب الموقع الرسمي للأمم المتحدة فـ"منذ آلاف السنين، تفكرت الحضارات البشرية في السماء وتأملت في أصل القمر وألغازه، وفتحت الملاحظات الأرضية التي أتاحها اختراع المناظير المكبرة الأولى فصلاً جديداً في معارفنا لرفيقنا السماوي"، فالقمر فلكياً لا هو نجم ولا هو كوكب، وجيولوجياً هو عبارة عن سطح مليء بالتضاريس ويدو حول محوره وحول الأرض التي يبعد عنها ما يقرب من 4 آلاف كيلومتر ليصبح الجسم الفلكي الأقرب إلى الكرة الأرضية، كما أنه ليس القمر الوحيد في المجموعة الشمسية ولكن هناك حوالى 170 قمراً تدور حول كواكب أخرى، لكن الحقائق العلمية الثابتة مهما حملت من منطق لا تصمد كثيرا أمام الأساطير التي تبدو مسلية بصورة أكبر، بخاصة تلك التي تربط حركة القمر بالسلوك البشري العنيف والأمر يبلغ ذروته في الإقناع حينما يحدث خسوف كلي له أو ما يسمى بالقمر الدموي حينما ينثر الغلاف الجوي ضوء الشمس فوق القمر فيتحول إلى اللون الأحمر، وهي الظاهرة الفلكية التي ربطت بين الحكايات الخرافية والسلوكيات الشرسة لمصاصي الدماء والمستذئبين وعبدة الشيطان، إذ تشير الحكايات إلى أن تزامن سلوكياتهم غير المفهومة مع أطوار معينة للقمر يؤكد سيطرته الهائلة على بني البشر، لكن دينياً ارتبطت الظواهر الفلكية من هذا النوع بالصلوات والدعاء، إذ إن القمر بشكل عام مرتبط في الدين الإسلامي بالتقويم الهجري فمع كل قمر يولد يبدأ شهر جديد، ولهذا فإن تحري هلال المناسبات الدينية مثل شهر رمضان وشهر محرم "بداية السنة" يكون حدثاً يستدعي دوماً الابتهاج.

ومن الظواهر الأساسية أيضاً المرتبطة بالقمر، المد والجزر في البحار والمحيطات، إذ يحدث المد حينما تواجه الأرض القمر أثناء دورتها، وبعد 12 ساعة يحدث الجزر حينما تبتعد عنه، فيما تذهب بعض الآراء إلى أن تلك الظاهرة ترتبط كذلك بالزلازل والبراكين، كما أن بعض العلماء يعتقدون أن أطوار القمر نفسها قد تؤثر في قوة الزلازل وشدتها ومواعيد حدوثها.
ويشير رئيس قسم الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية بمصر الدكتور شريف الهادي إلى أن "عدداً من العلماء يتبنى تلك الفكرة بالفعل ويؤمن بأن هناك رابطاً بين حدوث الزلازل الكبرى واكتمال القمر، وبينها زلزال 1992 في مصر، إذ تزامن حدوثه مع قرب القمر البدري، وكذلك زلزال تركيا في فبراير (شباط) 2023". ويلفت الهادي إلا أن "التفسير المتفق عليه هنا هو أن هناك بعض الدلائل التي تشير إلى وجود علاقة بين الزلازل وأطوار القمر، ولكنها مجرد علاقة إحصائية، بل يمكن وصفها بالمصادفة لأن القمر يكتمل كل شهر ولا تحدث الزلزال"، مضيفاً أن "المتحكم بالزلازل هو الأرض فهي المؤثر الحقيقي، ولكن قد تعجل قوى الجذب المتعلقة بالقمر وأطواره من وقوع الهزة الأرضية فقط"، ويتابع "حينما تجتمع عوامل وقوع الهزات الأرضية فهي تحدث بالطبع، ولكن قد تسهم بعض المؤثرات الأخرى في تقديم الموعد بشكل بسيط، ومن بين تلك العوامل أيضاً الأمطار وحتى حركة البحيرات الصناعية".

لكن قبل خمسة أعوام كشفت الباحثة سوزان هاف التي تعمل في مركز الاستطلاعات الجيولوجية الأميركي من خلال دراسة ركزت فيها على ما يزيد على 200 هزة أرضية تصنف من ضمن الزلازل الكبرى التي تصل إلى ثمانية أو أكثر على مقياس ريختر، عن أن الفرضية القائلة بوجود علاقة بين الزلازل وحركة القمر هي مجرد فرضية عشوائية، وهي النتيجة التي تصب في الرأي الذي يتبناه الدكتور شريف الهادي بأن الأمر كله عبارة عن مصادفة على الأغلب لأن 99 في المئة من إمكان حدوث الزلازل يتعلق بالأرض وبالإجهادات التي تحدث للصخور، والمؤثرات الأخرى تكون ضئيلة للغاية ولا تتعدى واحداً في المئة، وفي كل الأحوال الهزات الأرضية حتماً ستحدث حتى لو لم تتوافر بقية العوامل.

اندبندنت عربية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى