"زي البهرة" أكبر دليل على التنوع الثقافي في عدن

> بديع سلطان

> كشامة مزهرة وسط سواد تموج به أسواق مدينة عدن العتيقة، تشق (فاطمة) -اسم مستعار- طريقها برفقة والدتها، مرتديةً الزي المميز لطائفة البهرة، المنسدل بألقٍ على شوارع المدينة منذ قرون.

اللباس الملون والمزخرف بزهور وتطريزات جمالية خلابة، لا يمكن أن تخطئه عين المتنقل في مربعات المدينة، خاصةً وأنه يبدو مختلفًا للغاية ومميزًا عن لون السواد الطاغي على أسواق عدن، جراء لبس العباءات التي باتت تقليدّا ترتديه نساء المدينة كلما خرجنّ إلى الأسواق.

تتمسك فاطمة كغيرها من نساء طائفة البهرة بزيها، ليس من منطلق ديني أو طائفي، بقدر ما هو اعتزاز بالتنوع الثقافي الذي تعتز به وتضمنه مدينة عدن بطبيعتها، تقول فاطمة وتضيف: هذا الاعتزاز لا ينبع من دعاوى عنصرية أو تمييزية، ولكنه صادر عن مدينة عدن ذاتها، التي احتضنت التنوع الثقافي، ورعتْ التعدد وقيم التعايش بين كافة الأديان والطوائف والأجناس والأعراق.

وتشير إلى أن طائفتها عاشت في عدن قرونًا، مستفيدةً من المبادئ التي جعلتها مدينة عالمية، منفتحةً على الآخر، فكل ذي انتماء يتمسك ويفخر بهويته وثقافته المنصهرة داخل الإطار العام الذي يوحد الجميع في بوتقة هذه المدينة.


فاطمة اعتبرت تمسك طائفة البهرة ونسائها على وجه الخصوص بلباسهنّ المميز حتى الآن دليل على هذا الاعتزاز والفخر، الذي تتمسك به الطائفة، وهو فخر واعتزاز أيضًا بمدينة عدن التي حافظت على هذا التنوع، رغم الكثير من التحديات والمنغصات.

حديث فاطمة كان مقتضبًا وسريعًا، كونه لم يكن مرتبًا له، وتم وسط أسواق عدن، ولم يمسح بالكثير من التفاصيل، رغم ترددها بالحديث في البداية، غير أن اقتناعها بالغايات التي دفعتنا لمقابلتها شجعتها على ذلك.

تاريخ البهرة

تذكر موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام أن طائفة “البهرة” تنتمي إلى ما يُعرف بـ”الدعوة الإسماعيلية الطيبية"، وهي إحدى طوائف الشيعة، بدأت بالظهور في الهند، وسُموا بـ”البهرة " نسبةً إلى نشاطهم في التجارة، والتي استخدموها لنشر عقيدتهم.

وتضيف الموسوعة أن “دعوة الطائفة انتشرت في العديد من الأقطار، وبات لهم أتباع في اليمن، تحديدًا في عدن جنوبًا، وجبال حراز شمالًا”، وأعدادهم الضئيلة صنفتهم كأقليةً في اليمن.

كما يشتهر عن البهرة “تمسكهم بمذهبهم وعقيدتهم وتقاليدهم التي ورثوها من قادتهم وزعمائهم، ويحافظون عليها محافظة تامة ولا يقبلون تبديلًا لتلك التقاليد أو تطويرها”.

ومن مظاهر ذلك "الزي الخاص بهم، رجالًا ونساء، حتى أن الناظر المتمعن فيهم يعرف البهري من غيره، كما لهم أماكن خاصة للعبادة لا يدخلها غيرهم”، وفق ما ذكرته موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام.

تعزيز النسيج المتنوع


"التمسك الشديد بالعادات والتقاليد، بما فيها الأزياء المميزة، يؤكد قيم التعايش والتنوع الثقافي الذي تتفرد به مدينة عدن”.. يقول مدير مؤسسة “عدن أجين” الثقافية، مازن شريف.

ويضيف شريف -الذي تهتم مؤسسته بالهوية الثقافية لمدينة عدن-: عمومًا نحن في عدن تربينا وترعرعنا على مشاهدة البهرة بيننا ومنذ كنا صغارًا، ننبهر بزيهم الساتر المميز، والألوان الجميلة التي تميز أزياء نساء البهرة، والتطريز المميز بنقوش نباتية وزهور، كان ولا يزال يضيف لشوارع عدن رونقًا خاصًا.

ويواصل: “مشاهدة زي البهرة في شوارع هذه المدينة المعروف عنها تعايشها ونسيجها المتنوع يعني أن عدن ما زالت تحتفظ بخصائصها التي تميزت بها”.

أما عن تمسك نساء البهرة بعاداتهنّ وتقاليدهنّ فهو غير مستغرب، بحسب مازن شريف؛ مبررًا ذلك بكون طائفة البهرة معروفة بانطوائها وهو ربما ما ساعدها بالحفاظ على نسيجها وعاداتها وطقوسها بما في ذلك اللباس.

تعزيز الهوية

ارتبطت نساء عدن بزيٍ تراثي شهير، كان يطلق عليه “الشيدر"، وهو ما ألمح إليه رئيس مؤسسة إبذار الثقافية لتنمية الموروث الشعبي بعدن، فارس هرهرة، حين تحدث عن الزي النسائي في عدن، واعتبره أحد رموز الهوية الثقافية والانتماء إلى هذه المدينة.

وأضاف: نساء البهرة جزء من نساء هذه المدينة اللائي حافظنّ على هويتهنّ ومورثهنّ الثقافي عبر لباسهنّ المتفرد.

هرهرة لفت إلى أن الفخر والاعتزاز بالهوية الثقافية عند نساء هذه المدينة، يجسد قيم السلام والتعايش الذي تمثله وتدعو إليه عدن، لدى مختلف طوائفها وخلال عصورها المتعاقبة.

التنوع دليل للسلام

العلاقة بين التنوع والسلام، تؤكده المدير التنفيذي لمؤسسة PASS لمجتمعات سلام مستدامة، بعدن، بهية السقاف، والتي ربطت انتعاش دور الأقليات وممارسة طقوسها ومظاهرها بالاستقرار السياسي في البلاد.


فمظاهر التنوع الذي جسدته فاطمة وغيرها من نساء البهرة في عدن، عبر تمسكهنّ بزيهنّ التقليدي الدال على الهوية بدأ بالتقهقر رويدًا رويدًا، بحسب بهية السقاف المختصة في مجال المجتمعات المحلية والسلام.

وقالت إن عدن مدينة ساحلية اختلطت فيها الثقافات والجنسيات بحكم ميناءها الذي يستقبل أجناسًا وهويات متعددة كملتقى للتجارة العالمية، ما جعلها مدينة متنوعة حتى قبل الاحتلال البريطاني.

السقاف تحسرت على فقد عدن لبريقها وألقها الحضاري، وأرجعت أسبابه إلى ظروف سياسية لم تحافظ على هذا التنوع والاختلاف، وأضافت: “لم يتعلق الأمر بفترة ما بعد عام 1990، أو حرب عام 1994، ولكن المشكلة أبعد من ذلك، وتفاقمت بعد حرب عام 2015”.

مشيرةً إلى أن الفترات السياسية المضطربة تجلت فيها حجم الكارثة، من خلال العبث بالديموغرافية السكانية والنسيج المحلي، واليوم بتنا نرى نتاج هذا العبث من خلال انحسار التنوع في عدن، وما تعرضت له 90 % من معابد وشواهد الطوائف الدينية والطائفية من الاضمحلال والتلاشي، ولم يتبقى منها سوى مظاهر تبرز هنا أو هناك على استحياء.

وتختم السقاف حديثها محاولةً حبس دموعها التي كادت تتحدر أسىً على وضع عدن: "بتنا فصيل واحد وشكل واحد ولون واحد وطائفة واحدة، صرنا لا نحب التنوع ونُـكفّـر من يختلف معنا، صرنا نبكي على الاطلال وكل ما نملكه مجرد ذكريات، بل حتى الذكريات سيحاربوننا عليها ".

"أنتجت هذه المادة ضمن مشروع “تقاطعات” الذي تنفذه مؤسسة نسيج للإعلام الاجتماعي بدعم من مركز الحوار العالمي (كايسيد)".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى