خواطر حول ثورة 26 سبتمبر 2023

> ​كان يمكن أن يمر يوم عيد الثورة اليمنية في 26 سبتمبر 1962 كما الأعوام السابقة التي يبتهج فيها اليمنيون بقيام الجمهورية، إلا أنهم هذا العام رأوا أنه وسيلة آمنة لإعادة التأكيد وللتعبير عن ارتباطهم الوجداني به، وفي الوقت نفسه لإظهار حنقهم وضيقهم وغضبهم من سلطة جماعة "أنصار الله" الحوثية التي لا تعير هذه المناسبة الاحتفاء الوطني بها بقدر احتفائها بيوم 21 سبتمبر 2014، الذي فيه استولوا على العاصمة صنعاء، وبعده توالت الأحداث التي عشناها جميعاً حتى بلغت اندلاع الحرب في 26 مارس 2015.

لقد أدت تصرفات "الجماعة" مع المختلفين معها فكراً ومنهاجاً في مناطق سيطرتها إلى حال من الشقاق المجتمعي والاختناق السياسي، وهو أمر كان من الطبيعي معه أن تستيقظ ذاكرة المواطنين في مناسبة يطلقون فيها العنان لمشاعرهم الوطنية، وهو يوم يرون أنهم تخلصوا فيه من إرث عقود طويلة من الانغلاق والتخلف والظلم، كان نتاجه ثورة 26 سبتمبر 1962.

ما من شك أن اليمنيين الذين شاركوا ودافعوا وقاتلوا دفاعاً عن الثورة طيلة ثمان سنوات (1962– 1970) جاءوا من كافة المناطق ومن كل التوجهات الثقافية والأسرية، وكانت حدثاً ضرورياً في حينه للخروج من واقع كان يقين بعض الذين قادوا الثورة أنه غير قابل للإصلاح والتغيير من دون فعل ثوري كان عنيفاً ومتطرفاً أحياناً في بداياته وفي حالات نادرة، لكنها لم تستمر طويلاً.

حين أستعيد المشاهد التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي وجرى فيها إيقاف ثم اعتقال كل من رفع علم الجمهورية، فإن ذلك لابد أن يثير الغضب والقلق في آن، إذ إلى جانب أنه فعل غير قانوني فهو يؤكد رغبة "الجماعة" في التحكم في كل الحريات العامة والخاصة، والسيطرة على مشاعر الناس وتصرفاتهم التي لا تتعارض مع القوانين السارية.

كان من الواجب والمتوقع أن يمر يوم 26 سبتمبر 2023، لأنه لا يزيد على التعبير الرمزي عن تمسك الناس بجمهوريتهم، ولكن القسوة التي واجهت تلك التجمعات القليلة تشير إلى ضيق "الجماعة" بكل الشعارات التي لا تسمح بها ولا تنطلق من مفرداتها السياسية والدينية، وكانت الاعتقالات العشوائية لكثير ممن لم يحملوا إلا علم الجمهورية عنواناً صارخاً يعبر عن الأزمة التي تواجه اليمنيين وتعايشهم في الحاضر والمستقبل.

لقد كانت المشاهد التي تابعها اليمنيون في 26 سبتمبر 2023، تعبيراً فاضحاً لعمق الانفصال بين المجتمعات التي أفرزتها الحرب اليمنية، فقد نتج منها حال من التفتت الداخلي بسبب اختلاف الأهداف التي تنطلق منها القوى المسلحة التي صارت متحكمة في المشهد الحالي، ومن المحزن أن السياسة قد تراجعت كثيراً في قدرتها على التصدي والتعامل مع الظواهر السلبية التي اجتاحت كل الجغرافيا اليمنية، وتجاوزت الحواجز التي كانت تشكل خطوط دفاع عن تماسك المجتمع.

وفي مقابل القسوة التي مارستها "الجماعة" في المناطق التي تسيطر عليها لمنع مظاهر الفرح في يوم الثورة اليمنية، لابد من الاعتراف أن أغلب المحافظات التي تعد "محررة" عدا أجزاء من تعز ومأرب، مر عليها ذلك اليوم من دون أي اهتمام يتناسب مع أهميته التاريخية، وهذا مظهر آخر من حال الانفصام الذي يشهده اليمن ولا يمكن تجاوز الأمر بالحديث المكرر والشعارات المملة.

يشكل 26 سبتمبر علامة فارقة في التاريخ اليمني، ومن المفترض أنه يشكل يوماً جامعاً لكل اليمنيين شمالاً وجنوباً بغض النظر عن الخلافات التي تزداد عمقاً كل يوم، ولكن من الواضح أن اختلاف الرؤى حول مكانته وقيمته الإنسانية والوطنية، أضحت علامة لفداحة الأضرار ومدى التهشيم الذي لحق بالمجتمع، ومعهما لا يصبح للحديث عن تفاهمات سياسية أية قيمة، لأن المتصدين للمشهد السياسي عاجزون عن الارتقاء أخلاقياً ووطنياً بما يسمح بمنع مزيد من الانهيارات داخل المجتمع.

من المؤكد أن "الجماعة" تسعى إلى خلق مجتمع جديد متلائم مع توجهاتها الأيديولوجية، ولكنها لا تعي حتى الآن أنه أمر لا يمكن أن يصبح واقعاً مستداماً في ظل سرعة انتقال المعلومات وتبادلها، كما أنها لا ترغب ولا تستفيد من التجارب التي قد تسمح لها بالانتقال من أن تكون سلطة إلى أن تصبح دولة، ولولا الوهن والفساد الذي تعاني منه "الشرعية" لما تمكنت من الاستمرار في التحكم بمجتمع لا يتقبل أفكارها وأسلوب حكمها.

إن وهم "الجماعة" بأن يوم الثورة اليمنية 26 سبتمبر يمكن طيه بمجرد منع رفع العلم والاحتفاء به، هو مؤشر لعدم النضج السياسي وعدم إدراك لقيمته في نفوس اليمنيين، وما قدمته الجمهورية لهم جميعاً على رغم أهمية الاعتراف بفشل الثورة في تحقيق أهم أهدافها، وهو التحول إلى دولة مؤسسات راسخة تستطيع النهوض بالمجتمع، ومنع الاهتزازات التي تغير من التوجهات الحقيقية لصانعيها.
اندبندنت عربية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى