ماذا تستفيد أمريكا من تغيير طرق التجارة العالمية في الشرق الأوسط؟

> إبراهيم نوار:

>
​ظل البحر الأحمر مجرد بحيرة مغلقة تقريبا تستخدم في نقل التجارة الإقليمية بين مصر وجيرانها حتى افتتاح قناة السويس عام 1869. قبل ذلك كانت التجارة البحرية بين الشرق والغرب تمر حول طريق رأس الرجاء الصالح الذي تم اكتشافه عام 1498 وازدهرت من خلاله حركة التجارة السلعية حول العالم.

ومع اضطراب حركة الملاحة البحرية عبر البحر الأحمر في الأشهر الأخيرة، بعد أن أعلنت حكومة أنصار الله (الحوثيون) التي تسيطر على العاصمة اليمنية صنعاء حظر مرور السفن والبضائع الإسرائيلية من خليج عدن وجنوب البحر الأحمر شمالا أو جنوبا، عاد جزء كبير من حركة النقل البحري إلى استخدام طريق رأس الرجاء الصالح.

القرار اليمني كان يمكن احتواءه دون تهديد للملاحة العالمية من خلال المفاوضات، لكن الولايات المتحدة إرضاء لإسرائيل قررت اعتبار قرار الحوثيين عدوانا على حرية الملاحة العالمية يستوجب العقاب. وينسجم هذا الموقف مع النزعة الأمريكية لعسكرة الخلافات الدولية، ومحاولة التربح من الأزمات التي تنتج عن ذلك. وفي هذا السياق دعت الولايات المتحدة دول العالم إلى تشكيل قوة عسكرية بحرية مشتركة بدعوى تأمين حرية الملاحة.

ولبت الدعوة حوالي 10 دول أعلنت الانضمام للتحالف بأدوات مختلفة، ليس من بينها دولة واحدة من دول حوض البحر الأحمر، وليس من بينها دولة عربية غير مملكة البحرين.

وتمارس تلك القوة حاليا نشاطا عسكريا حصريا لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا، في حين تشارك الدول الأخرى اسميا بتبادل المعلومات أو إصدار بيانات التأييد لتوجيه ضربات إلى البنية العسكرية الأساسية لليمن.

الموقف الأمريكي يعني عمليا تغيير الحقائق الجيوسياسية مؤقتا في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهو ما أدى إلى تداعيات اقتصادية سلبية سريعة، أهمها تحول جزء من حركة الملاحة إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وارتفاع تكلفة النقل والتأمين، والتأثير سلبا على مصدر رئيسي من محركات الدخل القومي لدول المنطقة.

ومع أن التدخل العسكري الأمريكي بتوجيه ضربات صاروخية وجوية محدودة إلى قواعد ومنشآت يمنية تابعة للحوثيين في 10 من الشهر الحالي، فإن وتيرة الاعتداءات قد زادت، كما زادت أيضا درجة كثافتها النارية.

ومع تصنيف الحوثي جماعة إرهابية، فإن مدى الحرب يمكن يزيد، خصوصا مع عدم وضوح معالم أي استراتيجية للخروج منها، وإعلان الحوثيين إنهم مستمرون في تهديد السفن الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية. ومع زيادة مدى الحرب زمنيا واتساع نطاقها جغرافيا، وزيادة كثافة قوتها النارية، فإن البحر الأحمر قد يتحول إلى بحيرة تجارية مهجورة إلا من عمليات نقل إقليمية محدودة في الشمال، داخل منطقة تشمل السواحل المصرية والسعودية والأردنية، بافتراض أن هجمات الحوثيين بالصواريخ والطائرات المسيرة على ميناء إيلات وجنوب إسرائيل ستتوقف، وهو افتراض هش.

وتعتبر بيانات مرور السفن من قناة السويس مؤشرا أساسيا من أجل تقييم أوضاع الملاحة البحرية عبر البحر الأحمر.

ومن المعروف أن القناة يمر من خلالها ما يقرب من ثلث تجارة العالم السلعية بالحاويات، وأكثر من 12 في المئة من تجارة النفط المنقولة بحرا، وحوالي 8 في المئة من تجارة الغاز المسال العالمية، وأكثر من 10 في المئة من تجارة القمح. وطبقا لبيانات هيئة قناة السويس فإن نزيف الدخل بسبب الوجود العسكري الأمريكي والحرب على اليمن قد بلغ 40 في المئة تقريبا.

وبعد تحول شركات الملاحة البحرية الرئيسية عن استخدام البحر الأحمر والتوجه إلى طريق رأس الرجاء الصالح، فإن الطلب على السفن زاد بنسبة 10 في المئة لتعويض الزيادة في زمن الرحلة بين آسيا وأوروبا، وزادت تكلفة استئجار الحاويات بنسبة 61 في المئة خلال الأسبوعين الماضيين، وارتفعت تكلفة التأمين على السفن العابرة للبحر الأحمر بنسبة 300 في المئة حسبما قال وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس في مجلس العموم منذ أيام.

ومع أن هذه الزيادات تمس فقط حوالي 4 فقط من قيمة البضائع المنقولة بحرا، فإن أثرها النهائي على أسعار السلع في المتاجر قد يكون أكبر من ذلك بكثير، وهو ما يقلق صانعي السياسات النقدية والمالية في العالم من خطر ارتفاع معدل التضخم، وإفشال جهود البنوك المركزية حول العالم لتخفيضه.

وعلى العكس من الخسائر الناتجة عن ارتفاع التكلفة، فإن هناك أطرافا كثيرة تتربح من الأزمة الحالية في البحر الأحمر، منها شركات التأمين التي رفعت الرسوم على السفن والشحنات، وشركات النقل البحري التي أصبحت تستخدم طاقات إنتاجية عاطلة من سفن ومخازن وتسهيلات لوجستية كانت في حكم رأس المال الراكد بلا استخدام، فارتفع الطلب عليها مع زيادة الطلب على استئجار السفن لتعويض الفرق الزمني في طول الرحلة التجارية بين آسيا وأوروبا بسبب التحول عن البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح. ومن المتوقع أن يؤدي هذا إلى ارتفاع أرباح شركات النقل البحري وشركات التأمين في نهاية العام الحالي.
  • مكاسب أمريكا من الحرب
بينما دول حوض البحر الأحمر وعلى رأسها مصر هي أكبر المتضررين من تحول طريق التجارة البحري جزئيا عن قناة السويس إلى رأس الرجاء الصالح، فإن الولايات المتحدة تعتبر أكبر الدول المستفيدة من خلق وإدارة أزمة الملاحة في البحر الأحمر لمصلحتها تماما. الصين متضررة، لأن البحر الأحمر هو الطريق الرئيسي لتجارتها مع أوروبا.

كما أن روسيا متضررة لأن البحر الأحمر هو الطريق الرئيسي لمرور شحنات النفط والغاز المسال من حقول الأورال وغرب روسيا إلى الهند والصين.

كذلك فإن أوروبا متضررة لأن البحر الأحمر هو شريان تجارتها البحرية مع آسيا. أما الولايات المتحدة فإنها تستفيد من خلق وتعميق أزمة الملاحة في البحر الأحمر وزيادة أمدها الزمني لتحقيق عدد من المزايا الاقتصادية الرئيسية منها:

أولا: الاستحواذ على أكبر نسبة ممكنة من سوق النفط ومشتقاته والغاز المسال في أوروبا، وإبعاد المنافسين عن تلك السوق، بما في ذلك دول الشرق الأوسط المنتجة للغاز المسال، الذي يتطلب وصوله إلى أوروبا عبور البحر الأحمر من مدخله الجنوبي مثل قطر.

الاتحاد الأوروبي هو أكبر مستورد للغاز المسال في العالم.

ومن أجل تنويع مصادر الإمدادات بعيدا عن روسيا فإنه يتبنى خطة لإنشاء عدد كبير من محطات استقبال الغاز المسال ومعالجته للدخول في شبكة أنابيب الغاز الأوروبية. وقد تم إضافة 6 محطات جديدة منذ عام 2022 لاستقبال الغاز المسال من مصادر أخرى حول العالم.

ويهدف الاتحاد الأوروبي إلى مواصلة إقامة محطات جديدة لاستيعاب ما يصل إلى 400 مليار متر مكعب من الغاز المسال سنويا بحلول العام 2030 أي بزيادة 25 في المئة أكثر عن كمية الواردات قبل حرب أوكرانيا. قبل العقوبات الأوروبية كانت روسيا تستحوذ على 27 في المئة من واردات النفط الأوروبية و45 في المئة من واردات الغاز الطبيعي.

ولكن بعد فرض العقوبات تحولت تجارة النفط والغاز الروسية إلى آسيا. وبعد أن كانت صادرات النفط الخام إلى الصين والهند تستحوذ على 20 في المئة من قبل حرب أوكرانيا، فإن النسبة ارتفعت إلى 70 في المئة اعتبارا من أواخر عام 2022. وعلى العكس من ذلك فإن صادرات الغاز المسال والنفط ومشتقاته من الولايات المتحدة إلى أوروبا زادت بنسبة ضخمة. وتقدر هيئة معلومات الطاقة الأمريكية ان إنتاج النفط الخام سيحقق رقما قياسيا على مدار العامين القادمين، وأنه سيصل إلى 13.2 مليون برميل يوميا في العام الحالي طبقا للتوقعات القصيرة الأجل.

وفي المقابل فإن إنتاج أوبك وشركائها بقيادة السعودية وروسيا سينخفض بحوالي 620 ألف برميل يوميا إلى 36.44 مليون برميل يوميا في العام المقبل مقابل 40.2 مليون برميل قبل جائحة كورونا.

ثانيا: تغيير التوازن لصالح إسرائيل عن طريق خلق وتقوية الحاجة إلى إقامة مشروع الممر الاقتصادي من الهند إلى البحر المتوسط عبر إسرائيل. وقد بدأت إسرائيل فعلا في ترويج مشروع الممر لصالح نفسها خلال زيارة وزير الخارجية يسرائيل كاتس الأخيرة إلى بروكسل، والاجتماعات التي عقدها من قيادات اللجنة الأوروبية والبرلمان الأوروبي.

هذا المشروع في حقيقة الأمر يمثل أيضا عنصرا من عناصر السياسة الاقتصادية المعادية للصين، ويخلق للهند ميزة كبيرة في أن تصبح الممر البري السهل للتجارة بين آسيا وأوروبا في المستقبل، حيث تنتقل السلع في الاتجاهين إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق إسرائيل. كما أن إقامة ممر الشمال يكشف أيضا أن هناك خطة إسرائيلية-أمريكية لإضعاف دور قناة السويس كممر إستراتيجي للتجارة بين الشرق والغرب. لكن هذا المشروع سوف يصطدم لا محالة مع مصالح دول أخرى مثل باكستان وأفغانستان وإيران لا تربطها علاقات ودية مع الهند.

ثالثا: حصار الصين جيوقتصاديا، حيث أن إغلاق المدخل الجنوبي للبحر الأحمر أو جعل المرور فيه غير آمن، وسيطرة الولايات المتحدة عسكريا على المنطقة الممتدة من شمال المحيط الهندي إلى جنوب البحر الأحمر، يهدد سلامة مرور السفن التجارية للصين، أو السفن التي تحمل البضائع من وإلى الصين.

وحيث أن الصين أكبر قوة تجارية في العالم وأن نسبة كبيرة من تجارتها تتم مع أوروبا، فإن زيادة تكلفة نقل البضائع بين الصين وأوروبا نتيجة للتحول إلى طريق رأس الرجاء الصالح من شأنه أن يقلل القدرة التنافسية للبضائع الصينية، سواء كانت منتجات جاهزة أو كانت سلعا وسيطة، بما في ذلك السلع الصناعية تامة الصنع، والآلات وقطع الغيار التي تعتمد أساسا على النقل بالبحر. وتتضمن الاستراتيجية الأمريكية للحرب التجارية والاقتصادية على الصين فرض قيود على الشركات الأمريكية أو التي يشارك فيها رأسمال أمريكي في التجارة مع الصين، سواء كانت تلك التجارة عبر المحيط الهادي أو عبر قناة السويس والبحر الأحمر.
  • تخفيض التجارة بين أوروبا والصين
ومن ثم فإننا نستنتج أن للولايات المتحدة مصلحة جيوستراتيجية في تأجيج حرب اليمن وإطالة أمدها، وإبقاء الملاحة في البحر الأحمر تحت التهديد لفترة طويلة من الوقت، لأن ذلك يحقق أهدافها في زيادة قوة قبضتها الاقتصادية على أوروبا من خلال تجارة النفط والغاز، بدلا من اعتماد أوروبا على روسيا، وتشجيع التجارة بشكل عام على جانبي المحيط الأطلنطي، الذي يتطلب تخفيض التجارة بين أوروبا والصين، وخلق طريق جديد للتجارة عبر آسيا وأوروبا عبر الهند وإسرائيل مرورا بالخليج، وحصار الصين تجاريا من خلال التضييق على مرور البضائع الصينية المتبادلة مع أوروبا عبر البحر الأحمر. حرب الولايات المتحدة على اليمن قد تستمر لسنوات طويلة حتى لو انتهت حرب غزة غدا.
عن القدس العربي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى