الرسوم الصخرية شواهد على موسيقى الحضارة اليمنية القديمة وفنونها

> محمد الحمامصي:

> ​عُرفت الآلات الموسيقية وفن الموسيقى في ثقافات اليمن القديم وحضارات الشرق الأدنى التي تمثل أدلة واضحة على ازدهار هذا الفن الذي عبر فيه الإنسان القديم عن مشاعره وأحاسيسه وعواطفه وأفكاره ذات الطابع الديني والدنيوي الخاص الذي يتناغم فيه بالتراتيل والأناشيد الدينية والدنيوية. شعر الإنسان بالموسيقى التي توالت منذ حياته البدائية وبألحان الطبيعة المحيطة به، وتأثر بموسيقى الكون والطبيعة، فابتدع معزوفته الموسيقية الأولى.

انطلاقا من هذه الرؤية تأتي الدراسة المتميزة “الآلات الموسيقية في اليمن القديم، دراسة أثرية مقارنة” للباحثة اليمنية وداد أحمد قاسم القدسي، لتسلط الضوء على جانب مهم من فنون الحضارة اليمنية القديمة وهو الآلات الموسيقية، من خلال اللوحات الآثارية ومقارنتها بمثيلاتها في حضارات الشرق الأدنى، والتي بدأت بوادرها الأولى منذ عصور ما قبل التاريخ، حيث تجسدت في الرسوم الصخرية بمناطق صعدة وتهامة وصنعاء بين جدرين وحاز والجوف ومأرب ونجران، وتجسدت في الرقص والعزف والغناء على أعمدة المعابد، وشواهد القبور، إلى جانب اللقى الأثرية المتمثلة في العملات والتماثيل وآلات موسيقية منفردة، وأخرى جاءت مصاحبة لبعض النقوش واللوحات التصويرية.

تتساءل القدسي في دراستها عن ماهية الآلات الموسيقية في اليمن القديم في ظل شواهدها الأثرية والألفاظ المتعلقة بها؟ وما مدى التشابه والتباين بينها وبين مثيلاتها في حضارات الشرق الأدنى القديم؟ وهل لها أنواع مختلفة؟ وهل أثرت على حياة الإنسان القديم؟

وتقول إن الموسيقى في الحضارة اليمنية القديمة كشفت عنها المسوحات الأثرية، منها ما كشفت عنه البعثة الفرنسية في صعدة والمتمثل في إحدى الرسومات الصخرية التي نُقش عليها رسم لآلة الكِنَارة التي تؤرخ لعصور ما قبل التاريخ، كما عثر في منطقة الجوف في معبد “أرن يدع” على أعمدة تحمل مشاهد لآلات موسيقية ترافقها مجموعة من الراقصات، وهي تمثل آلات للنفخ مثل البوق والخُشْخيشة. وتؤرخ اللوحة للقرنين التاسع والثامن قبل الميلاد.

إلى جانب ذلك وجدت في أحد أعمدة معبد معين مشاهد لمواكب موسيقية تحوي آلات وترية، وآلات النفخ، تحملها مجموعة من الكهنة. كما وجدت الكثير من الشواهد التي تبين تنوع أصوات الآلات الموسيقية.

ويؤكد هنري جورج فارمر في مقدمة كتابه عن نشأة الموسيقى دور الممالك العربية الجنوبية في نشأة الموسيقى التي تؤرخ لبداية الألف الأول قبل الميلاد وتطورها، كما أنه استشهد بأحد نقوش بانيبال

الآشوري (7. ق م) الذي يبين فيه إعجاب الآشوريين بموسيقى العرب داعمًا ذلك بأن الأسرى العرب كانوا يقضون وقتهم في الغناء والعزف خدمة للملوك الآشوريين.

أما الألماني هولفريتز فقد قام خلال رحلته إلى اليمن بتسجيل أكثر من مئة نوع من أنواع الموسيقى التقليدية، وأوضح أن أسباب هذا التباين تعود إلى خصوصية بيئة وثقافة قبائل البدو، وتنوع الطبيعة الجغرافية، وقد وجد أن هذين العاملين أثرا على التنوع الموسيقي في اليمن وميزاها عن الموسيقى المألوفة لدى مُدن الشرق الأدنى، لكنه وجد تشابهًا كبيرًا بين الألحان الموسيقية اليمنية وبين الموسيقى البربرية لدى قبائل أفريقيا الشمالية وتحديدا المغرب، والتي انتقلت إليها منذ العصور الحجرية عن طريق العرب الجنوبيين (اليمن) والبربر.

وترى القدسي أن الهجرات اليمنية إلى مناطق الشرق الأدنى، منذ بدايات الألف الأول ق.م، أدت دورًا كبيرًا في نشر ثقافة الموسيقى في المناطق الأخرى كالمغرب، حيث وجد لها تأثير واضح من خلال حركة الموسيقى البربرية بواسطة رحلات القوافل التجارية. أما ما تذكره المصادر التاريخية فقد كان أقدمه أسطورة “جراتي عاد”: قينتان ألهتا بغنائهما وفدا عاد من الصلاة والاستغاثة بآلهة مكة، معتبرة تلك الواقعة الأسطورية بداية تاريخ غناء القيان.

ويؤكد ذلك أبومحمد الحسن الهمداني في كتاب “الإكليل”، حيث يذكر مغارة متقادمة فيها قبر منسك بن لقيم خازن عاد في الطابق الأسفل، وفيها تمثالان عظيمان قد مسخهما الله حجرين وهما في صورة قينتين، ففي حِجر أحدهما عرطبة قد مُسخت وفي اليد الشمال مزمار ممسوخ، بينما أُرجع استعمال آلة الطنبور إلى السبئيين.

وتوضح الباحثة القدسي أن الرقص يعد وسيلة من وسائل التعبير الفني في العصور القديمة تعبر عن انفعالات الإنسان الداخلية، وترك لنا الفنان القديم مشاهد مناظر متعددة تمثل أنواع الرقص التي أظهر فيها براعته وإبداعاته، ومثل الرقص وسائل معبرة عن قيام الإنسان بالتضرع للآلهة ونيل رضاها، وكذلك تعبيرًا عن الفرحة. وفي اليمن تعود أقدم المشاهد في فن الرسوم الصخرية إلى العصور الحجرية التي أظهرت مشاهد الصيد في منطقة صعدة، ولا تخلو تلك الرسوم في أغلبها من اعتقاد ديني.

وتؤكد القدسي أن تسجيل الرسوم الصخرية أدّى دورا بارزا في توفير المشاهد ذات الدلالة المشيرة إلى الفنون الموسيقية في حضارة سكان اليمن القديم، وذلك لتوفر الصخور ومساحتها التي أتاحت لهم تسجيلًا تصويريًّا لحياتهم ونشاطاتهم. ويرجح أن تلك الرسوم الصخرية تُعد مغزى سِحريًا

متعلقًا بالمعتقدات الدينية، وهناك لوحة من منطقة بين جدرين تؤرخ للعصر البرونزي الذي يمثل هيئة أشخاص راقصة إلى جانب الحيوانات، ومن خلال تلك الرسومات وُثّقت مختلف الأنشطة التي تؤرخ للحقب القديمة.

لقد شعر الإنسان القديم بروعة الطبيعة واندماجه معها، ومع مرور الوقت ظهرت الخطوات والحركات

والصيحات لتصبح بعد ذلك رقصات معينة لها طقوسها المحددة التي دونت على تلك الرسوم الصخرية، وتمَّ تناقلها بين مختلف الجماعات البشرية لأغراض إنجاز متطلباته، كرقصات استدرار الغيث أو رقصة النصر.

ومن المؤكد أن آلات العزف البدائية مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالرقص والغناء، فحيثما وجد الرقص وجدت معه الآلات الموسيقية، وإن كانت بعض الآلات لم تظهر بشكل مباشر كالآلات الوترية، حيث استعان الإنسان القديم بالآلات المتاحة لديه، فبدأ من أول وهلة باستعمال حركات جسده كاستخدام اليدين في التصفيق والأنغام الصوتية قبل اختراعه آلات المصفقات، كذلك الضرب على القدمين قبل صنع الطبول.

وتبين الباحثة أن جميع المواقع الأثرية اليمنية القديمة لا تخلو من نشاطات الإنسان الحضارية التي دونت فيها الرسوم المعبرة، التي تحكي عن نشاطه اليومي الذي بدأ بالرسم قبل الكتابة، كما في رسم صخري لمجموعة بشرية يؤرخ للعصر البرونزي في كهف المستور في منطقة تهامة وفيه مجموعة تؤدي رقصًا طقسيًّا كان غالبًا يُقام قبل مراسم الصيد، كما يظهر على الرسوم

الصخرية في منطقة حِمىَ الواقعة في نجران لمجموعة من الأشكال الآدمية التي تظهر في حالة الرقص التعبدي رافعة الأيدي، وتبرز أحد الأنماط الثقافية والدينية والاجتماعية لدى سكان المنطقة آنذاك، وتشكل اللوحة الصخرية الرسم البدائي للأشكال الآدمية المنفذة بأسلوب الرسم العودي وهو أحد أشكال العلامات الفنية المرتبطة بالدين والتي نفذت على الصخور.

وتلفت القدسي إلى أن هذه العلامات التجريدية مرتبطة بالدين وبالعقيدة الروحية المتمثلة في الرقص الجماعي في حالة رفع الأيدي، ويرى المؤرخ محمد العيدروس أن دلالة رفع الأيدي للأشكال الآدمية في الرسوم الصخرية متعلقة بطقوس الصيد وبمباركة الآلهة. وفي منطقة الباحة الواقعة في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية عثر على رسم ملون لمجموعة أشخاص في حالة الرقص الجماعي يشكلون صفًّا واحدًا ويرفعون أيديهم ويضربون بها على ما يشبه الطبول، وما تحمله أيديهم من مقارع.

وتكشف أن الآلات الموسيقية تمثلت في حياة الإنسان اليمني القديم على محورين: في محور الحياة الدينية لإحدى طرق العبادة التي يتم من خلالها التقرب إلى الآلهة في المعابد، حيث تدل على مدى أهمية الموسيقى وآلاتها، بصفتها وظيفة مقدسة، أبرزت العلاقة الجوهرية بين الإنسان والآلهة، ما يُستنتَج منه أنها ليست وليدة تفكير عابر وإنما هي وليدة شعور ملح عزز الإنتاج الموسيقى تجاه الآلهة، إلى جانب أن الأدب الديني احتوى على الأناشيد والابتهالات التي من المرجح أن الآلات الموسيقية كانت مصاحبة لها كما هو لدى حضارات الشرق الأدنى القديم، أما في محور الحياة الدنيوية فقد مُثلت لاستمرار إنجاز النشاط اليومي. كما أن المشاهد الموسيقية المنحوتة على الشواهد الأثرية لم تأخذ الطابع الأسطوري كما هي في حضارات الشرق الأدنى القديم، وحتى الآن لم يعثر على شواهد أثرية نقشية تؤكد وجود آلهة خاصة بالموسيقى.

وتخلص القدسي إلى أن سبب تطور وتنوع الآلات الموسيقية اليمنية القديمة هو تطور حياة الإنسان وارتباطه بمعتقداته التي ظهرت في ظل مناسباته الدينية والدنيوية. وأن الفنان اليمنى القديم استطاع إنتاج فن موسيقي خاص، وجسد المشاهد الموسيقية على الشواهد الأثرية وأعطاها البعد الثلاثي، ولم يظهر على الشواهد الأثرية اليمنية القدمية أي تأثير حضاري يدل على انتقال الآلات من حضارات الشرق الأدنى القديم إلى الحضارة اليمنية واستخدامها. كما أن المرأة جُسدت في الشواهد الأثرية وهي تعزف على الآلات الوترية المختلفة لاسيما أن الآلات الوترية بطبيعة الحال قريبة إلى الإحساس عند المرأة أكثر من الرجل، وربما هي الأقرب إلى تلك الأحاسيس الوترية فكانت أغلب الشواهد تصورها وهي في حالة العزف.

وتوضح أن الآلات الموسيقية لها أربعة أنواع وهي: نفخية، وإيقاعية، وآلات ذاتية التصويت، وآلات وترية. وكل نوع له عدة أشكال وأحجام مختلفة. وهذا التعدد يعطي دلالة شكلية لحدة الصوت، فالبوق كما تظهر اللوحات الجدارية يوجد بأكثر من حجم في الفوهة، وهذا دليل على أن هناك اختلافات في استخدامات حدة الأصوات وأنواعها، وهو ما استمر في استخدام بعض الآلات الموسيقية في التراث الشعبي، مثل الدف والسمسمية والطاسة والعود والمزمار والطُبيلة.
عن "العرب اللندنية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى