​ثقافة العيب..."أعلى سلطة موجودة في اليمن" تحرم النساء من العمل

> منى الكمالي

> وجدت إكرام (33 عاماً) نفسها حبيسة جدران المنزل، بالرغم من إكمالها خمس سنوات في دراسة طب الأسنان، وحصولها على شهادة البكالوريوس من جامعة العلوم والتكنولوجيا الأهلية في صنعاء، سنة 2012.
تقول: إن حلمها الكبير كان أن تصبح طبيبة أسنان، لكن العادات والتقاليد المتوارثة في عائلتها والمجتمع المحيط بها حالت دون تحقيقه، لتعلّق شهادتها في نهاية الأمر على جدار غرفتها، بدلاً من عيادتها الخاصة.

هي كما غيرها من اليمنيات اللواتي غيّرت بوصلة الأعراف الاجتماعية وجهاتهن الحياتية، ترى أن خروج المرأة لتحقيق طموحاتها يُعامَل على أنه "جريمة أخلاقية"، وفقاً لتعبيرها.
تأخذ نفَساً عميقاً، وتشير إلى صورة والدها المعلقة بجوار شهادتها: "كثيراً ما أشعرني بأنه تفضّل عليّ حين سمح لي بالالتحاق بالجامعة، ولطالما ذكّرني خلال سنوات دراستي فيها بأن مكان المرأة هو المنزل".

ثم تضيف بحزن قبل أن تغرق في نوبة بكاء: "إنها ثقافة العيب التي تتحكم بنا جميعاً، إنها أعلى سلطة موجودة في البلاد".
"العيب" كان أيضاً مسماراً دُقّ في نعش طموح خولة (23 عاماً)، من صنعاء، كان هدفها هي الأخرى أن تكون طبيبةً ذات يوم، لكن ظروف أسرتها المادية المتعثرة قلّصته ليستقر على دبلوم مساعدة طبيب حصلت على شهادته من المعهد العالي للعلوم الطبية في صنعاء، وكان هذا إنجازاً شخصياً لافتاً، فلا واحدة من بين قريباتها أكملت الدراسة بعد المرحلة الثانوية، كما تقول.

بمجرد حصولها على الشهادة، وكان ذلك في العام 2021، فتشت خولة بحماسة عن وظيفة تتوافق معها، تعيل بما ستتقاضاه منها نفسها، وتسهم به في مساعدة أسرتها التي فاقمت الحرب من فقرها، غير أن كل ذلك اصطدم بجدار شكّله رفض شقيقها الأكبر، بشعار صارم ردده على أسماعها: "لا توجد لدينا بنات يعملن، هذا عيب، ماذا سيقول عنّا الناس؟".

تقول بنبرة فيها وجع: "طبيعة مجتمعنا الذكوري القائم على تقاليد وعادات بالية، منحت الرجل الحق في امتلاك المرأة والتحكم بمصيرها، سواءً كانت زوجةً أو أختاً أو ابنةً، وتمت تنشئتها والتعامل معها على أنها مخلوق ضعيف لا يمتلك الإرادة وعليها تقبّل أي شيء يُفرض عليها من دون معارضة".

الأعراف تُعطّل القوانين

تؤكد المادة الخامسة من قانون العمل اليمني لسنة 1995 على أن "العمل حق طبيعي لكل مواطن وواجب على كل قادر عليه بشروط وفرص وضمانات وحقوق متكافئة دون تمييز بسبب الجنس أو السن أو العرق أو اللون أو العقيدة أو اللغة وتنظّم الدولة بقدر الإمكان حق الحصول على العمل من خلال التخطيط المتنامي للاقتصاد الوطني".

وبهذا يتضح أن القانون يمنح المرأة اليمنية حق العمل، لكن الأعراف السائدة تعطل هذا الحق وفقاً للمحامية والناشطة الحقوقية عتاب العمودي التي تقول لرصيف22: "لو كانت هنالك عقوبات، وتم تفعيلها لحماية حق المرأة اليمنية في العمل، لما بقيت هنالك سلطة ذكورية تمنع المرأة أو الفتاة من العمل والدراسة".
وتشير العمودي إلى أن قضية منع المرأة من العمل تتعلق بثقافة المجتمع، ولا دخل للقوانين النافذة بذلكن، لكن مع ذلك، تضيف مستدركةً: "كان من المفروض أن تصاغ قوانين توقف هذا الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، وتردع أولياء الأمور الذين يحرمون بناتهم من حقوقهن".

"عدم توفر الحماية القانونية يترك المرأة عرضةً للعنف الأسري، خاصةً أن المجتمع اليمني محكوم بثقافة عائلية تراتبية تضع الذكور في أعلى الهرم، بينما تضع الإناث في آخره"، هذا ما يقوله أستاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء، الدكتور عبد الباقي شمسان.
ويستغرب من وجود قوانين نافذة تدعو إلى المساواة بين المرأة والرجل في العمل، في حين لا توجد قوانين تعاقب على عدم السماح لها بالدراسة أو العمل، ويرى أن جملةً من الأمور المعمول بها في اليمن عززت من النظرة القاصرة تجاه المرأة، ومنها "عدم وجود مدارس مشتركة بين الإناث والذكور، ومنع الاختلاط في المقاهي وغير ذلك".

ودعا كخطوة أولى وحاسمة إلى قيام الدولة بتشييد مدارس يُسمح فيها بالتواجد المشترك بين الذكور والإناث، من أجل تقليل التعامل مع "الأنثى بوصفها عاراً أو كائناً ينحصر تواجده في أماكن معيّنة فقط دون غيرها".
وهذا لن يحدث حسب ما يرى، إلا بضرورة مراجعة المناهج المدرسية والخطاب الإعلامي لدراسة ما هي صورة المرأة التي تُزرَع في الذاكرة الجمعية، ويوضح: "بمعنى هل هي متواجدة في الكتاب المدرسي كونها امراةً عاملةً أو كونها كائناً يقوم بأعمال منزلية فقط؟ لا بدّ من تحويل صورة المرأة في الكتاب المدرسي والأعمال الدرامية والخطاب الإعلامي بحيث تترسخ فكرة أن المرأة شريكة للرجل".

شمسان مؤمن بأن الحضور القوي للمرأة في المجتمع سيؤثر بنحو كبير في تطويره، "ليس فقط من حيث إسهامها في الجانب المادي ورفع دخل الأسرة، بل أيضاً في تعليم الأبناء، ومساعدتهم في خياراتهم المستقبلية، المرأة المتعلمة والعاملة تساهم على المستوى المادي والمستوى النوعي من حيث توعية الأسرة، وهذا يسهم قطعاً في تطوير المجتمعات".

وفي هذا الصدد، كانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد أشارت في تقرير لها نُشر سنة 2013، إلى أن المرأة اليمنية تواجه تمييزاً شديداً في جميع مجالات الحياة، ودعت إلى حماية حقوقها في الدستور.
كان هذا قبل اندلاع الحرب بنحو سنتين، وبعد اندلاعها، زادت الأمور سوءاً،  وذكرت نائبة رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي "ماريون لاليس" خلال إطلاق خطة العمل الوطنية للمرأة والسلام والأمن في مارس 2022، أن اليمن أصعب بلد في العالم بالنسبة إلى النساء.

وعام 2021، احتل اليمن المرتبة 155 من 156 في المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

انعكاس عمل المرأة على الأسرة

وعن حق المرأة في العمل، وانعكاسات ذلك عليها وعلى الأسرة، تقول الباحثة السياسية هديل الموفق إن المرأة المستقلة مادياً تتمتع بالكثير من القوة داخل أسرتها، وفي المجتمع لها صوت يُسمع، وعندها مساحة أكبر للسيطرة على مسار حياتها.
وتتابع: "المرأة المستقلة مادياً، غالباً لا تقبل بالزواج بأول شخص يتقدم لها من أجل أن يعيلها، بل توافق فقط على الزواج بمَن ستفتح معه بيتاً يملأه الود والاحترام، موفرةً بذلك بيئةً صحيةً لتربية الأطفال، بعيداً عن المشكلات الزوجية التي يخلقها الزواج دون تراضٍ".

والمرأة المستقلة مادياً، وفقاً للموفق، تتمكن من توفير مصدر ثانٍ للدخل ومن المساهمة في توفير حياة كريمة للأسرة، وهذا أمر محوري خاصةً في ظل ظروف الحرب وتداعياتها على البلاد.
وخلافاً لذلك، أي إذا حُجرت المرأة ومورس العنف النفسي ضدها، تفيد دراسة عن الصحة النفسية أعدّتها منظمة الصحة العالمية، وصدرت سنة 2000، بأن لذلك تبعات خطيرة، منها التقليل من شعورها بقيمتها الذاتية، وتالياً تقليل ثقتها بنفسها، مما يؤثر سلباً على صحتها العقلية، وذلك من خلال تشتيت قدرتها على التفكير السليم.

تقول اجتهاد (18 عاماً)، من محافظة عمران، إن البكاء هو وسيلتها الوحيدة للاحتجاج على ما تصفه بـ "تعنّت" والدها الذي أصرّ على قرار خطبتها دون أخذ رأيها، وعلى إقامة زفافها خلال الأشهر القليلة القادمة.
اجتهاد، تخرجت في العام 2022، بمعدل 94 % في الدراسة الثانوية- قسم علمي- من مدرسة 7 يوليو، في العاصمة صنعاء، وكانت تعقد العزم على دخول واحدة من كليات المجموعة الطبية، غير أن والدها وقف حائلاً دون ذلك.

وأخذ يدعوها للاقتداء بأخريات في العائلة، استشهد بهنّ على أنهن ناجحات، لأنهن تزوجن وأنجبن أطفالاً ويعشن ربّات بيوت، ثم فرض عليها الذهاب إلى السوق لشراء ثياب حفلة خطوبتها التي كانت آخر مَن علم بها.

الرضوخ أو التبرؤ

يقول الناشط الحقوقي والإعلامي لؤي العزعزي  "إن ما تمارسه بعض الأسر في حق المرأة لا يعكس سوى "الجهل والتخلف والرجعية المعشعشة في عقول الكثيرين، لأن مجتمعنا وللأسف ما زال يعيش في عصور ظلامية".
ويلفت إلى أن المرأة التي تطالب بحقوقها، أو تتجرأ على رفض بعض المفاهيم، يتم "التبرؤ منها أو حتى قتلها، وهناك أسر مستعدة لوأد بناتها لتتجنب أحاديث الناس".

ويؤكد العزعزي أن شكاوى كثيرة ترده من فتيات تعرّضن لعنفٍ أسري بمختلف أشكاله، وأنه أحالها إلى اتحاد نساء اليمن، أو منظمات حقوقية من التي تهتم بحقوق المرأة، لكنه لم يتلقَّ أي تفاعل إيجابي، أو أي نوع من المساعدة، حتى في أحرج الحالات.
الطابع الديني الذي يتحول إلى تشدد في كثير من الأحيان، فضلاً عن الطبيعة القبلية للمجتمع، شكّلا طبقةً سميكةً تفصل المرأة عن التعبير عن نفسها وعن قدرتها على العطاء والإنتاج، وسنجد الأمر عينه مع أحلام (اسم مستعار لفتاة في الـ25 من عمرها)، هي ككثيرات غيرها، حلمت بالعمل في المجال الطبي أو في مجال قريب منه، بحيث تكون على صلة بالنساء والأطفال، ما دام المجتمع حازماً جداً في ما يخص الاختلاط.

حصلت أحلام على شهادة في العام 2020، من جامعة تعز، تتيح لها العمل كمخبرية في المستشفى، بل حلّت أولى على دفعتها وكانت على وشك بدء سنة التطبيق، قبل صدور أمر عائلي بمنعها عن ذلك، لكونها ستضطر إلى الاختلاط بالذكور في المستشفى، وهو أمر محـرّمٌ شرعاً بالنسبة إلى والدها وأشقائها، وعبثاً حاولت إقناعهم بأنها ستطلب من الإدارة منحها واجبات تجنّبها الاختلاط بالذكور.

ظروف الحرب والصراع الدائر في اليمن جعلا اليمن بلداً غير صالح للعيش الطبيعي، لكلا الجنسين، وليس للمرأة فقط، لكن كفة المعاناة تميل إلى جهة المرأة بنحو أكبر، بحسب الناشطين والمهتمين بتحسين أحوالها.
لكنهم في المقابل، يشيرون إلى أن الحرب ذاتها، تتسبب في دفع الكثيرات منهن إلى الدخول بالفعل في سوق العمل، ليس لتغيّر طرأ على المزاج العام في المجتمع، ومنح بموجبه فسحة حرية للمرأة، بل لظروف قاهرة، كفقدان المعيل (الرجل)، وعدم وجود مَن يحل محله من الذكور.

"رصيف22 "

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى