تركة صالح واستحضار الأخطاء القاتلة

> صالح البيضاني:

> عند مقتله في الرابع من ديسمبر 2017 ترك الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح وراءه الكثير من الأعداء والأنصار وحزبا كان يشق طريقه بصعوبة في بحر متلاطم من الجماعات الأيديولوجية التي اختلفت حول كل شيء إلا ضرورة مغادرته الحياة وطي صفحته.

استطاع صالح خلال ثلاثة عقود من حكمه أن يؤسس لطريقه فريدة في إدارة الصراعات ونسج التحالفات وفضها، كما تمكن من التأسيس لتيار جديد، اسمه "المؤتمر الشعبي العام"، كانت نقطة قوته وضعفه في ذات الوقت أنه تنظيم غير أيديولوجي، يستمد شرعيته وأسباب بقائه من الدولة وكاريزما صالح ونهجه السياسي فقط.

غادر صالح الحياة السياسية بشكل صاخب ودموي مخلفا وصية سياسية أخيرة، كان جوهرها تحريض أنصاره على مقاومة المشروع الحوثي، وبدت الوصية تكفيرا عن تحالف اضطراري دخل فيه صالح مع الحوثيين للانتقام من خصومه (الإخوان) الذين حاولوا قتله في تفجير مسجد دار الرئاسة، قبل أن يقتل لاحقا على أيدي حلفائه الجدد.

تركة كبيرة خلّفها علي عبدالله صالح بعد رحيله، وسعى الحوثيون والإخوان لتمزيقها وتنازعها، وذهب جزء يسير من هذه التركة السياسية إلى عائلته التي لم يكن بينها شبيه لصالح في تجربته الطويلة وحضوره السياسي والشعبي وقدرته على إدارة الصراعات والتحالفات.

تبدد الكثير من تركة الرئيس الراحل التي كان يمكن الاحتفاظ بها نتيجة إصرار ابنه الأكبر على الاحتجاب، تحت ذريعة العقوبات الدولية التي وجد فيها مبررا كافيا للهروب من صخب السياسة التي لطالما فضل الابتعاد عنها، حتى في أوج قوة والده، وإن ظهر على استحياء في بعض المحطات بضغط من والده الذي اتهمه خصومه السياسيون خلال العقد الأخير من حكمه بأنه يمهد الأرضية السياسية لتوريث ابنه.

أخذ ابن شقيق صالح وقائد حمايته، العميد طارق صالح زمام المبادرة نيابة عن الأسرة، وبقدر كاف من الشجاعة التي لا ينكرها حتى خصومه، ولكن بقدر أقل من الحنكة والخبرة السياسية، قاد طارق قوات المقاومة الوطنية التي أنشأها في الساحل الغربي في العام 2017 وشاركت إلى جوار قوات العمالقة الجنوبية في تحرير مساحات واسعة من الحديدة وتعز، قبل أن يتخذ من مدينة “المخا” عاصمة لتياره العسكري والسياسي الذي أراده وريثا شرعيا لتركه عمه، ونقطة جذب لبقايا الدولة السابقة التي تناثرت إلى شظايا وعمل العديد من الأطراف على تفتيتها منذ العام 2011 وصولا إلى الانقلاب الحوثي في سبتمبر 2014، ثم الحرب التي اندلعت في مارس 2015.

لم يبد أيّ من أبناء الرئيس صالح، الذين تم الإفراج عنهم بوساطة عمانية في أكتوبر 2018 غادروا إثرها إلى مسقط، أيّ مؤشرات لرغبتهم خوض معترك الحياة السياسية أو العسكرية، فيما انضم إلى جوار طارق صالح، شقيقه عمار، الوكيل السابق لجهاز الأمن القومي (المخابرات)، وهو شخصية تتسم بالذكاء والحس الأمني المفرط، وهي السمات التي ساهمت في ملء بعض الفجوات في شخصية شقيقه طارق العسكرية، ووفرت له الحماية الشخصية ومنحته ذراعا أمنية طائلة، ساهمت في إنقاذ حياته من عدد غير معروف من محاولات الاغتيال التي اجتمعت عليها مصالح الحوثيين والإخوان، كما ساهمت حنكة وخبرة عمار الاستخبارية في تفكيك الكثير من شبكات الاختراق الحوثية والإخوانية في صفوف قوات الساحل الغربي.

لا يشكك اليوم في رغبة طارق صالح الحقيقية لمواصلة المعركة ضد الحوثيين والوصول إلى صنعاء، إلا الإخوان الذين يرون في مكوثه بل وتمدّده في ساحل محافظة تعز التي يعتبرونها إحدى معاقلهم، تهديدا لمكتسباتهم السياسية والعسكرية التي خرجوا بها من غبار الحرب، غير أن التحولات المتسارعة في المشهد اليمني التي أوصلت طارق صالح إلى مجلس القيادة الرئاسي، والضغوط الدولية المتزايدة لمنع تجدد الحرب خصوصا في الساحل الغربي، عوامل متضافرة حولت شغف التحرير كما يبدو، إلى رغبة لا يمكن إخفاؤها في تأسيس نموذج مصغر يستحضر دولة صالح الغابرة، ولم يكن ينقص هذا النموذج إلا الميناء والمطار الدولي وهو ما تم فعلا وبقليل من الضجيج والكثير من التطلعات.

لم ترث عائلة صالح أياّ من سماته الشخصية الفريدة التي صقلها بمفرده عبر تجارب ذاتية قاسية وطويلة في الحياة، ولكن عائلة صالح كذلك لم تستفد كما كان يفترض من آخر القناعات التي وصل إليها الرئيس الراحل في أيامه الأخيرة، لذلك عندما حاول طارق استحضار روح عمه الراحل، استحضر معها كذلك بعض أخطاء عمه الفادحة أو ربما القاتلة التي أدركها قبيل رحيله أو بعد أن تناوشته في سنواته الأخيرة، “ثعابين” السياسية والأيديولوجيا السامة التي ظل يرقص على رؤوسها لثلاثة عقود.

كانت بعض تلك الأخطاء ماثلة في طريقة إدارة متطلبات الإعلام والسياسة، فقد كان صالح – رحمه الله – مولعا وشغوفا باستقطاب الصحافيين والسياسيين من أقصى اليمين وأقصى اليسار للانضمام إلى حزبه، وتبوأ هؤلاء قيادة المنابر الإعلامية الرسمية وحتى الهيئات الحزبية في عهده، في حين لم يحظ الكثير من الصحافيين والسياسيين المنتمين للحزب من غير المؤدلجين أو العابرين للأحزاب، بذات التقدير والاهتمام والرعاية، بل كانوا يقبعون في قعر المؤسسات الإعلامية والتنظيمية داخل المؤتمر وفي الدولة.

في 2011 انشق الكثير من السياسيين والإعلاميين “المستقطبين” الذين جالوا وصالوا في مؤسسات الدولة والحزب خلال سنوات الرخاء، ليتخندقوا مع تياراتهم الأصلية في مواجهة صالح وحزبه، ولم يجد صالح حوله في ذلك الوقت العصيب، إلا ثلة من المؤمنين بصالح ذاته وأفكاره وتوجّهاته السياسية، وفي مرحلة “التجلّي” كما يمكن وصفها والتي مر بها صالح وأجرى خلالها بعض المراجعات الحاسمة في وقت متأخر بعض الشيء، بزغ نجم سياسي مخلص لا يجيد التلون، كما كشفت التطورات اللاحقة، هو عارف عوض الزوكا الذي بدأ يأخذ موقعه التنظيمي ويظهر إلى جوار صالح بشكل لصيق، حتى تولّى الأمانة العامة لحزب المؤتمر، وشارك صالح في أيامه الأخيرة وتقاسم معه الطلقات الأخيرة كذلك.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى