ثورة 14 أكتوبر 1963م بين الكفاح المسلح والتسوية السياسية

> قادري أحمد حيدر:

> إن من أوصل قضية الجنوب إلى المحافل الدولية، كما يقول عادل رضا، هو الجبهة القومية، أو الكفاح المسلح هو من نقل قضية الجنوب سريعًا إلى قمة المحافل الدولية دون تجاهل أو إنكار دور الأخرين على صعيد الشغل السياسي، هي أدوار تتكامل مع بعضها البعض، ولكن يبقى لصوت الفعل الثوري المسلح صوته الأقوى، في مثل مواجهة الاستعمار، "فبعد أن كانت قضية الجنوب محصورة على النطاق الدولي المحدود، استطاعت الجبهة القومية في فترة وجيزة من الكفاح المسلح، أن تجعل المواطن العربي والأجنبي يعيش هذه القضية يوميًا ويتابعها إعلاميًا وسياسيًا باستمرار، وذلك عن طريق تصعيد العمل العسكري في المدينة عدن، وفي المدن الأخرى المختلفة، مع التحرك السياسي جنبًا إلى جنب، بعد أن كان واضحًا أن الاستعمار البريطاني بدأ يتحرك منذ العام 64-1965م إلى إيجاد دولة عميلة بالجنوب، ويسارع بكل محاولاته السياسية لضرب الثورة المسلحة، وبدأت حكومة المحافظين في بريطانيا تدعو عام 1965م إلى مؤتمر لندن هادفة من ذلك -كما سبقت الإشارة- إلى احتواء قرارات الأمم المتحدة".

نؤكد على ذلك، ونؤكد أكثر أن هذا الشكل النضالي ترافق مع ممارسة كل أشكال النضال السياسي والمدني والنقابي:

الإضرابات، والتظاهرات، والاحتجاجات، والاعتصامات حتى الأشكال التشريعية، كما حدث في قضية التصويت على دمج عدن في دولة الاتحاد ضمن رؤية استعمارية بريطانية في 24 سبتمبر 1962م، حيث صوت أربعة من أعضاء المجلس التشريعي ضد الدمج، من أصل أثني عشر عضوا، وتحركت التظاهرات، احتجاجا على هذا الإجراء، وعمت جميع مناطق عدن، جرت على إثرها اعتقالات لرموز سياسية وناشطين، وقيادات عمالية. إذ إن جميع الأشكال النضالية كانت تتظافر، وعلى رأسها جميعا صوت المقاومة الشعبية المسلحة.

وعلى إيقاع جميع هذه الأصوات المناضلة وصلت قضية الجنوب إلى قمة المحافل الدولية. وسبق أن "اتخذت الدورة الثامنة عشرة للجمعية العمومية للأمم المتحدة التي عقدت في 13 ديسمبر 1963م قرارا أكدت فيه حق اليمن الجنوبي في تقرير مصيره بنفسه، كما أكدت الدورة العشرون للجمعية العمومية قرارها السابق، وبرغم محاولات بريطانيا تجاهل هذين القرارين، إلا أنها اضطرت في آخر الأمر إلى الاعتراف بهما، وذلك في أغسطس 1966- بعد فشل جميع مؤتمرات لندن الدستورية –الباحث– وبعد أن كانت قد أوعزت لحكومة ما تسميه اتحاد الجنوب العربي بتأييد القرارين في مايو 1966 ".

وحقيقة، كان فشل جميع المؤتمرات الدستورية البريطانية التي دخل في بعضها حزب الشعب الاشتراكي، بقيادة عبدالله الأصنج، والأستاذ المناضل عبد القوي مكاوي، بمثابة ضربة سياسية شديدة لمفهوم وخيار الحل السياسي السلمي، والأسلوب السياسي التقليدي "لحل التناقض بين الاستعمار، والحركة الوطنية. وقد ساهمت الجبهة القومية التي قادت الثورة المسلحة، عبر تمسكها بالكفاح المسلح، وتعميقها لمساره، ومهاجمتها المؤتمر وعدم فعاليته، في إفشال أعمال المؤتمر، وذلك لأن الأطراف الوطنية المشتركة فيه كان عليها أن تقف موقفا صلبا في مواجهة تحفظات بريطانيا والسلاطين، خاصة وأنها كانت مدعومة بقرارات قوية من الأمم المتحدة واحتمال صدور قرارات أقوى في الدورة القريبة المقبلة".

وهنا بدأ يتصاعد خطاب التسوية السياسية للقضية اليمنية في الشمال والجنوب، مترافقًا مع خطاب يتبنى فيه حزب الشعب نهج الكفاح المسلح، والذي تصاعد بعد فشل الدمج القسري بين الجبهتين، القومية والتحرير في 13 يناير 1966م، والذي استمر أقل من سنة، أعلنت فيه الجبهة القومية خروجها وانسحابها منه.

غير أن جبهة التحرير استمرت مدعومة عربيا، من (الأجهزة المصرية والسعودية) والجامعة العربية، سيرا على خط التسوية، و"المصالحة الوطنية"، والوحدة الوطنية، التي رفعت شعارات سياسية لتمرير نهج التسوية السياسية، في الشمال والجنوب، وإنصافا للحقيقة التاريخية، فإنه وإلى قبل هذا التاريخ، (الدمج وفشله)، لم يقف، سياسيًا ومؤازرًا للكفاح المسلح، سوى "حزب اتحاد الشعب الديمقراطي"، بقيادة المفكر والمناضل/عبدالله باذيب، ورفاقه الذي حول صحيفة "الأمل" الناطقة باسمه إلى منبر سياسي وإعلامي، داعم للجبهة القومية، وناشر لبياناتها وأخبارها، لدرجة دفعت بعض عناصر جبهة التحرير إلى تفجير مقر المطبعة، والاعتداء على منـزل الأستاذ عبدالله باذيب بالسلاح، احتجاجًا على موقف الصحيفة والحزب المنحاز لجانب الجبهة القومية.

وقد نشرت صحيفة "الأمل" سلسلة مقالات تنتقد خطاب ومفهوم التسوية السياسية، والوحدة الوطنية، والمصالحة الوطنية "الذي ظهر بعد صدور قرارات الأمم المتحدة في نوفمبر 1965م على خلفية أن بريطانيا تواجه ضغطًا عالميًا متزايدًا، وأنها بدأت تعد للجلاء عن اليمن الجنوبي. وعلى هذا فإن الحل السياسي قد أصبح متاحًا، وردت صحيفة "الأمل" بأن التصور السليم للموقف هو أولًا: أن قرارات الأمم المتحدة قد صدرت نتيجة لثورة الشعب المسلحة، وتعتبر انتصارًا سياسيًا، تم إحرازه بقوة السلاح، وثانًيا أن المطلوب لتحقيق أماني الشعب هو حل سياسي سليم، وليس حلًا وسطيًا. والحل السياسي السليم هو أن تسلم بريطانيا بمطالب الشعب، ثالثًا: أنه رغم الجهود المشكورة للأمم المتحدة، فإن قراراتها ستظل عاجزة عن تقديم حل جذري وسليم، وعملي للقضية، ورابعًا: أن بريطانيا عندما تسلم بالحل السياسي للقضية، فإنما لتعمل على عقد مؤتمرات دستورية، تمثل فيها العناصر الرجعية والعميلة، والشعب لا يقبل التفاوض من حول المبادئ، والأماني التي استقر رأيه عليها، بل يقبل التفاوض حول التفاصيل المؤدية إلى تصفية الوجود الاستعماري والرجعي".

كان ذلك شكلا من أشكال المواجهات السياسية والإعلامية والأيديولوجية بين طرفي خطاب التسوية السياسية وخطاب الإنجاز الثوري للعملية السياسية، هذا الأمر ينطبق على واقع حالة التسوية بين الجانبين الشمالي والجنوبي للقضية اليمنية. هذا، بعد أن تعقدت مجريات العملية السياسية داخل قمة القيادة الجمهورية بين الجناحين الجمهوري الثوري، ورموز الجمهورية القبلية، وبين التسوية السياسية في الجنوب عبر خيار التوحيد بين الجبهة القومية، وجبهة التحرير، في 13 يناير 1966م وتحويل دفة القيادة السياسية لطرف آخر غير قيادة الجبهة القومية، رائدة الكفاح المسلح في جنوب البلاد، والطرف الأساسي القائد والمتزعم فعليا للعملية الثورية المسلحة. دون شك، لعب خطاب التسوية السياسية دورا سلبيا في إضعاف حركة الجدل النظري والفكري، والسياسي والتنظيمي وحتى الوطني في الموقف النضالي من الاستعمار، داخل أطر الجبهة القومية وفي المجتمع، بعد أن أصبح ثقل النظام السياسي العربي (مصر) و(السعودية) و(الجامعة العربية) ضاغطًا لإتمام وإنجاز نهج التسوية تحت شعار "السلام" و"إيقاف الحرب"، وحقن الدماء في الشمال الذي تبنته مؤتمرات، عمران وخمر والطائف والجند،

و"توافقت" عليه أخيرا مصر والسعودية. في اتفاق جدة أغسطس 1965. وفي الجانب الآخر، جنوبا، التوجه باسم الوحدة الوطنية والمصالحة الوطنية، إلى تجيير القيادة للثورة لطرف مقرب من الأجهزة المصرية، ومن السعودية في صورة قادة حزب الشعب الاشتراكي عبدالله الأصنج، وعبد القوي مكاوي رئيس حكومة عدن قبل استقالته منها، وهو ما رفضته الجبهة القومية، وأبقت، رغم قرار الدمج في 13يناير 1966م، على أوضاعها السياسية والعسكرية والتنظيمية في حالة استقلالية عن جبهة التحرير، وفي 12/12/1966 أصدرت الجبهة القومية بيانًا أعلنت فيه عن الانسحاب من جبهة التحرير، وعرضت تصوراتها للمناخ الذي ساد حركة التحرير الوطني اليمنية الجنوبية في الآونة الأخيرة، وضعف إطار جبهة التحرير، وتنشيط قوى الاستعمار والرجعية ووضعها مخططات جديدة، ثم جاءت بيانات وخطابات الجبهة القومية اللاحقة لتؤكد أنها لا تعارض قضية التوحيد من حيث المبدأ ولكن على قواعد سياسية وفكرية ووطنية صحيحة. وانعقد المؤتمر العام الثالث للجبهة القومية في نوفمبر 1966م وبشكل متسارع، وكانت أهم "نتائجه هي إقرار شرعية انقلاب 14 أكتوبر وإقرار مواصلة النضال بشكل مستقل عن جبهة التحرير".

فالمؤتمر الثالث لم يضف أي جديد في الجانب الأيديولوجي وظلت القيادة القديمة هي المسيطرة مع وجود عناصر من القيادة الثانوية".

إن قضية الكفاح المسلح، والتسوية السياسية هي عنوان لمرحلة سياسية صراعية طويلة، بدأت "جنوبيًا" تحديدًا مع قضية تبني إنشاء منظمة تحرير الجنوب المحتل ولم تتوقف مع إعلان الدمج في 13 يناير 1966م، واستمرت العملية الصراعية في شكل صراع بين رؤيتين، وموقفين لم يتمكن لقاء الإسكندرية (مصر) أغسطس 1966م حول استمرار توحيد الجبهتين من التوفيق بينهما، وإنجاح مسعاه، وكأنه كان بمثابة لقاء رفع عتب لأن قواعد وقيادات الصف الثاني، ومعهم بعض الصف الأول، الممسكة بالتنظيم في الداخل وقيادة العمل الفدائي، وجيش التحرير، كانت قد حسمت أمرها بالخروج من الدمج ،وإنما فقط كانت تناور لتراعي دور مصر وضغوطها في هذا الاتجاه، ولكنها في الواقع كانت تسير وتتحرك على طريق الانسحاب النهائي من جبهة التحرير، وممارسة العمل المسلح بشكل مستقل كجبهة قومية. واستمر صراع هاتين الرؤيتين والموقفين وصولا للاقتتال الأول والثاني وحتى إنجاز المفاوضات بصورة مستقلة، حيث انتصر خيار الجبهة القومية بالكفاح المسلح على خيار التسوية، تحت شعار الوحدة الوطنية الذي كنا نتمنى أن تنجز وتتحقق، على قواعد وأسس ومبادئ سليمة.

ولكن لأن مياه الاختلاف والصراع قد فاضت على كأس الوحدة، وكان ما تم في سيرورة المفاوضات وحتى إنجاز الاستقلال، تحت قيادة الجبهة القومية إلى أن انفردت وحيدة بالحكم بعد أن أقرت أنها هي وحدها القائد للدولة، والمجتمع وهي التنظيم الثوري الوحيد في البلاد.

وهنا كانت البداية السياسية والعملية لممارسة فعل الاقصاء والاستبعاد لجميع المكونات السياسية عن المشاركة في السلطة، وفي بناء الدولة، وهو جذر الشرور السياسية جميعا التي واجهت تجربة بناء الدولة في جنوب البلاد وفي شمالها كذلك .

"الرأي الثالث"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى