الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي له جذوره الأميركية وفي المبالغة باستخدام الذكاء الاصطناعي

> «الأيام» العرب:

> يبعث الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس قبل أسبوعين على إسرائيل إلى التساؤل عن كيفية مرور هذا المخطط الضخم والمعقد دون انتباه جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الذي تتباهى البلاد به. ويرتبط السؤال الثاني الذي لا يقل أهمية عن سبب عدم تفطن مجتمع الاستخبارات الأميركي لنوايا هذا الهجوم، نظرا إلى النفقات الهائلة التي يتواصل ضخها على مساعي مكافحة الإرهاب منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك.

تكمن الإجابات في تاريخ النجاح الذي تعودت عليه إسرائيل في الكشف عن عمليات حماس في الماضي والرد عليها. وسبّب هذا النجاح التهاون، مما أدى إلى مقتل المئات من المواطنين الإسرائيليين الذين تكمن مهمة أجهزة المخابرات في حمايتهم. ويتعمق الفشل الذي تشهده إسرائيل بحقيقة أن هذا الهجوم وقع بعد 50 عاما ويوم واحد من معاناة مما كان (حتى هذه اللحظة) أكبر فشل استخباراتي للدولة العبرية، أي حرب يوم الغفران في 1973 (حرب أكتوبر).

شكلت حكومة رئيسة الوزراء غولدا مائير لجنة تحقيق بقيادة رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية شمعون أغرانات خلال الأسابيع التي تلت نهاية حرب يوم الغفران. وركزت اللجنة، التي حملت اسم أغرانات، على التحليل المعيب الذي أجرته شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، مع إيلاء اهتمام خاص إلى إيلي زعيرا رئيس قسم البحوث والتحليل (راد) في أمان.

وكان زعيرا المهندس الرئيسي لما أصبح التزاما عقائديا بنموذج تحليلي أثبت (حتى أكتوبر 1973) إمكانية الاعتماد عليه خلال السنوات التي تلت انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة في 1967. ونص نموذج زعيرا على أن الجيوش العربية لم تكن مستعدة لحرب شاملة مع قدرتها المحدودة على إطلاق تحرك عسكري ضد إسرائيل. وهي تتجنب الانخراط في أعمال من شأنها أن تؤدي منطقيا إلى مثل هذه الحرب مع جارتها.

وانتُقد محللو راد لاعتمادهم المفرط على الاستدلال الاستقرائي والحدس والفشل في استخدام المنهجية الاستنتاجية المنظمة. واستنتجت لجنة أغرانات الحاجة إلى التقنيات التحليلية المنظمة، وخاصة “تحليل الفرضيات المتنافسة”. وبرز ذلك في تطور ثقافة التفكير المتناقض داخل أمان، والتي تتمحور حول التفكير النقدي المصمم لتحدي التقييمات الوحدوية والتفكير الجماعي.

نتائج لجنة أغرانات

ودرست الولايات المتحدة الأسباب الجذرية التي تسببت في إخفاقاتها الاستخباراتية في حرب يوم الغفران. وخلص تقييم متعدد الوكالات لفشل الاستخبارات في أكتوبر 1973، والذي نشرته الولايات المتحدة في ديسمبر من السنة نفسها، إلى أن المشكلة في ذلك الوقت لم تكن تتمثل في عدم القدرة على جمع بيانات استخباراتية أو حتى تقييمها بدقة. وعدّد التقرير أدلة على فشل الاستخبارات في أكتوبر 1973.

وكان الهجوم المفاجئ الذي شنته جيوش مصر وسوريا “كثيفا ومثيرا للانشغال، ودقيقا في أغلب الأحيان”. وناقش محللو الاستخبارات الأميركية هذه الأدلة وكتبوا عنها. وذكر تقرير ديسمبر 1979 أن المحللين الأميركيين خلصوا (مثل نظرائهم الإسرائيليين) إلى أنه لن يكون هناك هجوم. وهي استنتاجات “كانت بكل بساطة ووضوح خاطئة”.

وشملت بعض القضايا الحاسمة التي برزت من هذا التقييم اعتماد المحللين الأميركيين المفرط على إسرائيل لمعرفة وضعها الأمني، وتمسّك المحللين بمفاهيم مسبقة حول القدرات العسكرية العربية، والميل إلى تفسير موحد لنفس الأدلة، وفشل المحللين في تحدي خطأ “الفاعل العقلاني”. وحظيت مجتمعات الاستخبارات في إسرائيل والولايات المتحدة خلال السنوات التي تلت حرب يوم الغفران بجاذبية خاصة. واستخدمت إسرائيل منهجية للتنبؤ بالتهديدات والتقييمات التي عززت قرارات التدخل العسكري في لبنان، مما وضعها في الكثير من الأحيان على خلاف مع صناع السياسة في الولايات المتحدة.

ووُضعت السياسة في واشنطن بناء على إحاطات من محللي الاستخبارات الأميركية الذين طوروا ثقافة التقليل من أهمية المخابرات الإسرائيلية لصالح مخابراتهم الخاصة. وسببت الفجوة الناتجة في الأساليب والاستنتاجات التحليلية الأزمة الاستخباراتية المتعلقة بالتهديد الذي تشكله صواريخ سكود العراقية من 1990 إلى 1991.

واستندت هذه الأزمة إلى اختلاف الأولويات الموضوعة على تهديد صواريخ سكود، سواء في الفترة التي سبقت عملية عاصفة الصحراء أو أثناء تنفيذها (بغض النظر عن الأهداف العسكرية)، وهي الحملة التي قادتها الولايات المتحدة لطرد القوات العراقية من الكويت في يناير وفبراير 1991. وتفاقمت هذه الخلافات في السنوات التي تلت نهاية الصراع، حين كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تتصارعان حول أفضل السبل للرد على التهديد الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل العراقية، بما في ذلك صواريخ سكود.

وكُنت في قلب الجدل الاستخباراتي الأميركي - الإسرائيلي خلال تلك الفترة، ودعيت إلى الأمم المتحدة لبعث قدرة استخباراتية مستقلة لدعم الجهود القائمة على التفتيش لنزع أسلحة العراق. وجمعتني اتصالات حساسة مع كل من وكالة المخابرات المركزية وأمان من 1991 إلى 1998، وغالبا ما وجدت نفسي عالقا وسط صراع الثقافات الذي تطور بين الطرفين.

وكان هذا الصدام يشبه أحيانا الكوميديا الهزلية. وأذكر المرة التي اضطررت فيها إلى الخروج من الباب الخلفي لمبنى أمان حتى لا يراني رئيس مكتب وكالة المخابرات المركزية، الذي وصل بغرض معرفة المعلومات الاستخباراتية التي كان الإسرائيليون يخبرونني بها. والتقيت في مناسبة أخرى بفريق من محللي وكالة المخابرات المركزية في شوارع تل أبيب الذين كانوا يقدمون لي المشورة بشأن عملية تفتيش معينة كنا نخطط لها. وانتقدوا الاستخبارات الإسرائيلية التي كنت أعتمد عليها لدعم هذه المهمة.

وكان هدف زيارتهم هو الضغط على إسرائيل لوقف تدفق المعلومات إلى الأمم المتحدة من خلالي، بحجة أنني مواطن أميركي يجب أن يحصل على معلوماته من مصادر أميركية، مما يفرض على إسرائيل أن تزوّدني بجميع المعلومات الاستخباراتية من خلالهم. وتبين أن اجتماعنا لم يكن لقاء “مصادفة”، بل كان لقاءً دبره الإسرائيليون دون علمي، حتى أكون على دراية بازدواجية نظرائي الأميركيين.

وخلقت هذه الازدواجية تفاعلات ذات طابع أكثر خطورة مع منح وكالة المخابرات المركزية الضوء الأخضر لمكتب التحقيقات الفيدرالي حتى يحقق في مزاعم أنني كنت أتجسس لصالح إسرائيل. ولم يكن لتصرفات الولايات المتحدة أيّ علاقة بمخاوف حقيقية من كوني جاسوسا، بل كانت جزءا من حملة أكبر تهدف إلى تقليل تأثير المخابرات الإسرائيلية على جهود تفتيش الأمم المتحدة التي اعتقدت الولايات المتحدة أنها يجب أن تسير على إيقاع تمليه مخابراتها الخاصة.

وكان عداء وكالة المخابرات المركزية للاستخبارات الإسرائيلية حقيقيا وارتكز على النهج السياسي المختلف الذي اتبعته الدولتان فيما يتعلق بدور مفتشي الأسلحة وأسلحة الدمار الشامل العراقية. وكانت الولايات المتحدة منخرطة في سياسة تغيير النظام في العراق، واعتمدت عمليات التفتيش على الأسلحة كوسيلة لمواصلة العقوبات الاقتصادية المصممة لاحتواء حكومة صدام حسين، وكمصدر لمعلومات استخباراتية فريدة يمكن أن تمكنها من تنفيذ عمليات مصممة لإقصاء الرئيس العراقي من السلطة.

وركز الإسرائيليون من جانب فردي على أمن بلادهم. وبينما فكروا في خيار تغيير النظام في العامين الأولين بعد انتهاء عاصفة الصحراء، قرروا بحلول 1994 أن أفضل طريقة للمضي قدما هي العمل مع مفتشي الأمم المتحدة لتحقيق نزع يمكن التحقق منه لأسلحة الدمار الشامل العراقية، بما في ذلك صواريخ سكود. وكانت الجهود التي بذلتها وكالة المخابرات المركزية وإسرائيل في تحديد ترسانة صواريخ سكود العراقية من مظاهر الاختلاف الصارخة في الأساليب التي اتبعها الطرفان.

ودعيت إلى البيت الأبيض في نوفمبر 1993 لمناقشة تقرير قدّمه إلى وكالة الاستخبارات المركزية فريق بقيادة مارتن إنديك وبروس ريدل حول التحقيق الذي أجريته وتوصلت خلاله إلى أن جميع الصواريخ العراقية قد اكتُشفت. وقد رفضت وكالة المخابرات المركزية النتائج التي توصلتُ إليها، معلنة أن تقييمها لقدرة العراق على تصنيع صواريخ سكود تحمل على الاستنتاج أن البلد يحتفظ بما يتراوح بين 12 و20 صاروخا إلى جانب العديد من منصات الإطلاق. وشددت على أن هذا التقييم لن يتغير أبدا، بغض النظر عما وجدته.

وفي المقابل، أي عندما زرت إسرائيل للمرة الأولى في أكتوبر 1994، اتصل بي رئيس أمان أوري ساغي بشأن تقييمي فيما يتعلق بحساب صواريخ سكود العراقية. وقدمت لمدير أمان نفس الإحاطة التي قدمتها لوكالة المخابرات المركزية.

وقبِل ساغي، برفقة رئيس راد في ذلك الوقت يعقوب عميدرور، استنتاجاتي. واعتمدها فيما بعد إطلاع رئيس الوزراء الإسرائيلي عليها. وكانت تجربتي مع الاستخبارات الإسرائيلية مثمرة أكثر من تجربتي مع وكالة المخابرات المركزية لأن الإسرائيليين كانوا يحاولون حل مشكلة استخباراتية (ما هو الوضع الحقيقي لأسلحة الدمار الشامل العراقية)، في حين كانت الولايات المتحدة تحاول تنفيذ قرار سياسي بشأن تغيير النظام في العراق.

وزرت إسرائيل 14 مرة بين 1994 و1998، وعملت بشكل وثيق مع أمان، وقدمت شخصيا إحاطة لاثنين من المديرين (ساغي، ثم موشيه يعلون منذ 1995)، واثنين من رؤساء راد (يعقوب عميدرور وعاموس جلعاد). كما طورت علاقة عمل وثيقة مع محللي الاستخبارات والمشغلين من العديد من منظمات الاستخبارات الإسرائيلية، بما في ذلك الوحدة 8200 ذات السمعة الأسطورية.

ممثل عقلاني

أطلعني الإسرائيليون على منهجيّتهم في مرحلة ما بعد حرب يوم الغفران، وخاصة نهجهم المتناقض الجديد في التحليل. وكان أحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام هو إصدار منشور، يُعرف داخل أمان باسم “توماس المشكك” (مستوحى من العهد الجديد للكتاب المقدس، حين لم يصدق توماس، أحد تلاميذ يسوع الإثني عشر، أن النبي عاد من بين الموت حتى رآه).

وتعرفت على العقيد الذي كان يتولى هذه المهمة، وأوضح لي كيف كان يتلقى كل إحاطة قبل تقديمها إلى المدير للتشكيك في الاستنتاجات والتأكيدات. وكان لا بد من الرد على استفساراته بما يرضيه قبل إرسال الإحاطة. وكان هذا العقيد هو الذي ساعد في صياغة الاستنتاج الإسرائيلي بأن صدام حسين كان لاعبا عقلانيا لا يسعى إلى صراع أكبر مع إسرائيل يمكن أن يؤدي إلى تدمير أمته. ومن المفارقات أنه كان يتبنى نفس استنتاجات “اللاعب العقلاني” الخاطئة التي تم التوصل إليها قبل حرب يوم الغفران.

لكن التحليل كان صحيحا في هذه المناسبة. فقد سمح التحليل الذي قدمه توماس المشكك للإسرائيليين بدراسة إمكانية حدوث تغيير في النهج المتعلق بصدام حسين. لكن ذلك لم يقلل من سعي المخابرات الإسرائيلية إلى التأكد من أن هذا التقييم كان وسيظل دقيقا.

وعملت بشكل وثيق مع أمان والوحدة 8200 لوضع خطة لجمع المعلومات الاستخباراتية التي تستخدم الصور والاستخبارات التقنية والبشرية والإشارات للتأكد من القدرات والنوايا العراقية. وشهدت شخصيا الاجتهاد الذي واصل به المحللون وجامعو الأعمال الإسرائيليون مهمتهم. ودقق هؤلاء في كل التفاصيل، ولم يتغافلوا عن أيّ أطروحة.

وتمكّن الإسرائيليون في النهاية من دعم احتضان أوري ساغي لاستنتاجي خلال 1994 فيما يتعلق بإحصاء صواريخ سكود العراقية من خلال تحليلهم التفصيلي المستنتج من المعلومات الاستخباراتية التي جمعوها بوسائلهم الخاصة، بالإضافة إلى تلك التي جُمعت من خلال التعاون معي ومع مفتشي الأمم المتحدة. وثبت أن هذا النجاح كان قاتلا لإسرائيل وساهم في فشل كل من المخابرات الأميركية والإسرائيلية في التنبؤ بهجمات 2023 التي شنتها حماس، والشبيهة بما شهدته إسرائيل خلال يوم الغفران.

وتقرر في 1998 استبدال يعقوب عميدرور الذي كان رئيسا لراد. وخلفه في المنصب عاموس جلعاد. وبينما تبنى عميدرور النهج المتناقض الذي اتبعه راد وأمان فيما يتعلق بإنتاج تحليل استخباراتي، كان لجلعاد رأي مختلف، ورأى أن تقرير لجنة أغرانات هو الذي شلّ قدرة المخابرات الإسرائيلية على الاستجابة للتحديات الجديدة.

واعتبر أن صدمة يوم الغفران (حرب اكتوبر) أدت إلى اعتماد أمان لمنهج تحليلي محافظ وبسيط، مع التركيز على تحليل القدرات مع إهمال النوايا، مما جعل الاستنتاجات مفرطة في الحذر. وكان جلعاد أكثر ميلا إلى احتضان تقييمات وكالة المخابرات المركزية للتهديد الذي يشكله صدام حسين وعمل معها لتفكيك التعاون بين مفتشي الأمم المتحدة وأمان.

وتخلى جلعاد عن الاستنتاج السابق بأن صدام كان لاعبا عقلانيا إثر هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية على الولايات المتحدة. ولم يعتبر أنه يشكل أيّ تهديد لإسرائيل (وهو تقييم مدعوم باستنتاج مستخلص من التعاون المكثف بين مفتشي الأمم المتحدة وأمان، حيث حدد أن العراق لا يمتلك كميات كافية من أسلحة الدمار الشامل، وأنه لم يعمل على إعادة بناء القدرة الصناعية لتصنيع أسلحة الدمار الشامل بشكل هادف).

ورسم جلعاد بدلا من ذلك صورة خالية من الحقائق. وافترض أن صدام يشكل تهديدا يستحق التدخل العسكري، مما دعم الاستخبارات الأميركية التي بررت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق.

وبرز خطأ المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بقدرات أسلحة الدمار الشامل العراقية التي اعتُمدت لتبرير الغزو الأميركي. لكن ذلك لم يقوّض الحماسة المكتشفة حديثا بين المخابرات الأميركية والإسرائيلية. وأمكن تحقيق الهدف السياسي المتمثل في تغيير النظام، ولم يهم أن يكون المنتج التحليلي الذي تقرر الاعتماد عليه في التقييمات المعيبة خاطئا. وفي الفترة التي سبقت حرب يوم الغفران سنة 1973، تجاهلت أمان عددا كبيرا من التقارير الاستخباراتية التي تنبأت بالهجمات العربية. وطُرح هذا الفشل للتدقيق فيه بعد أن سبّب إحراجا سياسيا إسرائيليا.

لا حرج من غياب الأدلة

كانت الفترة التي سبقت غزو العراق في 2003 مختلفة. وتجاهلت أمان مجموعة كبيرة من الأدلة الخاصة بها، وقد تراكمت خلال سنوات من التعاون الوثيق مع مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة وأبرزت أن العراق لا يمتلك كميات فعالة من أسلحة الدمار الشامل، ولا الرغبة في إعادة تشكيل القدرات الإنتاجية اللازمة لإعادة حيازتها. ولكن تقرر تجاهل هذا الفشل لأن عواقبه لم تشمل إحراج إسرائيل السياسي، على عكس يوم الغفران.

وشهدنا في الواقع ترقية المتهم الرئيسي بهذا الفشل، عاموس جلعاد، في 2003 لرئاسة مكتب الشؤون السياسية العسكرية القوي. وهو منصب شغله حتى 2017. وقيل إن جلعاد تمتع خلال ولايته بنفوذ أكبر على السياسة من أيّ شخص آخر. وساعد في تعزيز العلاقات بين مجتمعات الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية وأعاد إسرائيل إلى ممارسات ما قبل حرب يوم الغفران المتمثلة في الاعتماد المفرط على التفكير الاستقرائي والحدس الخالي من ال

وكانت من أبرز عواقب رئاسة جلعاد الطويلة لمكتب الشؤون السياسية العسكرية إعادة إخضاع مجتمع الاستخبارات الأميركي للأحكام التحليلية الإسرائيلية على أساس أن البلد العبري يدرك التهديدات التي يواجهها.

وتجلت هذه الحقيقة في كلمات مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، الذي تحدث في مهرجان الأطلسي قبل أسبوع من هجمات حماس. وخلص بتفاؤل إلى أن “منطقة الشرق الأوسط أصبحت أكثر هدوءا اليوم مما كانت عليه منذ عقدين من الزمن”. وذكر أن “مقدار الوقت الذي يجب أن أقضيه في الأزمات والصراعات في الشرق الأوسط قد انخفض بشكل كبير اليوم مقارنة بأسلافي منذ 11 سبتمبر”.

ويبدو أن أساس تفاؤل سوليفان المضلل يرجع إلى سياسة أميركية – إسرائيلية مشتركة تسعى إلى تطبيع العلاقات بين البلد العبري والعالم العربي، ومع السعودية في المقام الأول.

واقتنع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان أيقونة الأمن الإسرائيلي لأكثر من ثلاثة عقود، بفكرة التطبيع مع السعوديين باعتبارها عنصرا رئيسيا في إعادة التنظيم الإستراتيجي للسلطة في الشرق الأوسط بعيدا عن إيران وفي اتجاه إسرائيل. وكان الإيمان بحتمية التطبيع دليلا حيا على كيفية تركيز إسرائيل الجديد على النوايا على حساب القدرات، وكيف أعماها ذلك عن حقيقة التهديدات الصادرة من غزة.

وتعني حقيقة إخضاع الولايات المتحدة مرة أخرى تحليلها للتهديدات للاستنتاجات الإسرائيلية (خاصة في الظروف التي لم تر فيها إسرائيل أي خطر مباشر) أنها لم تخصص الكثير من الوقت في البحث عن مؤشرات قد تتعارض مع الاستنتاجات في تل أبيب.

التفوق على الذكاء الاصطناعي

ربما كان المصدر الأكبر لفشل الاستخبارات الإسرائيلية في ما يتعلق بحماس هو اعتماد إسرائيل المفرط على جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها بنفسها. وكانت غزة وحماس مشكلة لإسرائيل لسنوات عديدة، واجتذبتا اهتمام أجهزة الاستخبارات والأمن الإسرائيلية. وأتقنت إسرائيل فن الاستخبارات البشرية ضد هدف حماس، مع سجلها الحافل في وضع العملاء في عمق تسلسل صنع القرار الهرمي في الجماعة.

كما أنفقت الوحدة 8200 المليارات من الدولارات لإنشاء قدرات جمع المعلومات الاستخباراتية التي تشرف على تفريغ كل البيانات الرقمية الصادرة من غزة (المكالمات الهاتفية، ورسائل البريد الإلكتروني، والرسائل النصية القصيرة). وتبقى غزة المكان الأكثر تصويرا على هذا الكوكب بالأقمار الصناعية والطائرات دون طيار وكاميرات المراقبة، ويُقدر أن كل متر مربع من المدينة يُصوّر كل 10 دقائق.

وتعتبر هذه الكمية من البيانات هائلة بالنسبة إلى تقنيات التحليل القياسية التي تعتمد على العقل البشري. وطوّرت إسرائيل لذلك قدرة ضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي، ثم سلّحتها ضد حماس في الصراع القصير والمميت الذي استمر 11 يوما في 2021، والذي أطلِق عليه اسم “حارس الجدران”. وطورت الوحدة 8200 العديد من الخوارزميات الفريدة التي استخدمت قواعد بيانات هائلة مستمدة من سنوات من البيانات الاستخباراتية الأولية التي أمكن جمعها من كل مصدر محتمل للمعلومات.

وتمكنت المخابرات الإسرائيلية من اختيار الأهداف وتوقع تصرفات حماس باستخدام الذكاء الاصطناعي ومفاهيم التعلم الآلي والحرب التي تعتمد على الخوارزميات والتي كانت في طليعة البحث والتطوير العسكري الإسرائيلي لعقود من الزمن.

وساعدت هذه القدرة على “التنبؤ بالمستقبل”، وتشكيل التقييمات الإسرائيلية حول نوايا حماس في الفترة التي سبقت هجمات 2023. وكان خطأ إسرائيل هو التفاخر علنا بالدور الذي لعبه الذكاء الاصطناعي في عملية “حارس الجدران”. ويبدو أن حماس تمكنت من السيطرة على تدفق المعلومات التي تجمعها تل أبيب. وتعددت التكهنات حول تجنب حماس استخدام الهواتف والحواسيب لحرمان إسرائيل من البيانات التي توفرها وسائل الاتصال. لكن “العمل في الظل” كان مؤشرا استخباراتيا في حد ذاته.

ومن المحتمل جدا أن تكون حماس قد حافظت على مستوى كافٍ من الاتصالات من حيث الكم والنوع لتجنب تفطن الذكاء الاصطناعي والمحللين الإسرائيليين المتميزين. ومن المحتمل أن حماس حافظت على سجلها المادي من الحركة والنشاط لإبقاء خوارزميات الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية مقتنعة بعدم وجود أيّ شيء غريب. وهذا يعني أيضا أن أيّ نشاط (مثل التدريب على الطيران المظلي أو العمليات البرمائية) الذي اكتشفه الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي كان مصمما لتجنب اكتشاف ما كان يُراد إخفاؤه حقا.

وأصبح الإسرائيليون اليوم أسرى نجاحاتهم في جمع المعلومات الاستخباراتية. فمن خلال إنتاج بيانات أكثر مما يمكن أن تتعامل معه المنهجيات التحليلية البشرية القياسية، أصبح يتعين عليهم اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي لنيل المساعدة المطلوبة. وطوروا (بسبب نجاح الذكاء الاصطناعي خلال عمليات 2021 ضد غزة) اعتمادا مفرطا على الخوارزميات الحاسوبية للأهداف العملياتية والتحليلية.

ويمكن تتبع أصول الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الهائل في 2023 إلى قرار جلعاد بفصل بلاده عن إرث التحليل المتناقض الناتج عن الفشل الاستخباراتي لحرب يوم الغفران سنة 1973 الذي أنتج نفس الاعتماد المفرط على الاستدلال الاستقرائي والحدس، والذي سبّب الفشل في البداية.

يُذكر أن جودة الذكاء الاصطناعي تعتمد على تلك التي توفرها البيانات والخوارزميات المستخدمة لإنتاج التقارير. وإذا كانت المنهجيات التحليلية المعيبة تقوّض العنصر البشري في الذكاء الاصطناعي (أولئك الذين يبرمجون الخوارزميات)، سيعاني المنتج الذي يكرر هذه المنهجيات على نطاق أوسع من نقائص أيضا. وفي مجلد “العاصفة المتجمعة” الأول من أعمال “الحرب العالمية الثانية” لونستون تشرشل، كتب زعيم الحرب العالمية الثانية “إنها مزحة في بريطانيا أن نقول إن المكتب الحربي يستعد دائما للحرب الأخيرة”.

ونظرا لشمولية الطبيعة البشرية، يمكن تطبيق نفس السخرية على الجيش الإسرائيلي وأجهزة المخابرات الإسرائيلية في الفترة التي سبقت هجمات 2023 التي شنتها حماس. ويبدو أن الإسرائيليين ركزوا بشكل منفرد على النجاحات التي حققوها في عملية “حارس الجدران” في 2021، والدور الذي لعبه الذكاء الاصطناعي في تحقيق هذا النجاح.

وأنكرت إسرائيل الاستفادة من النهج المتناقض في التحليل المعتمد إثر لجنة أغرانات، وجهّزت نفسها للفشل من خلال عدم تخيل سيناريو تستفيد حماس فيه من الاعتماد الإسرائيلي المفرط على الذكاء الاصطناعي، بما يؤدي إلى التلاعب بالخوارزميات بطريقة مّا وإعماء أجهزة الكمبيوتر ومبرمجيها البشريين عن نواياها وقدراتها الحقيقية. وتمكنت حماس من توليد شبح حقيقي في الآلة، مما أفشل الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي وعرّض الشعب والجيش لواحد من أكثر الفصول مأساوية في تاريخ الأمة الإسرائيلية.

* عن موقع كونسورتيوم نيوز

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى