أبعاد الصراع في باب المندب والأخطار المحدقة بالجنوب

> اليمن بلاد الصراعات المستدامة، وكلها تتمحور حول الاستئثار بالسلطة والثروة، والقوى السياسية والقبلية والدينية تجيد اللعب على المتناقضات، وتجدهم اليوم في تحالف وغدًا في تحالف آخر، وهذا ما جسده صراع الملكيين والجمهوريين، حتى ما بعد المصالحة لم يتوقف نزيف الدم فيما بينهم، وكان الاعتقاد بأن الوحدة بين الجنوب والشمال ستذيب تلك الصراعات، لكنها فتحت شهيتهم على أرض وثروات الجنوب، وتخلصوا بشكل سريع من الشريك الجنوبي، وهدأت صراعاتهم لفترة وجيزة لانشغالهم بتوزيع الغنائم الجنوبية، إلا أنهم استأنفوها حتى أوصلتهم إلى تسليم السلطة، ولم يلبثوا قليلًا إلا وأعادوا صياغة تحالفاتهم من جديد، والنتيجة تسلَّم الحوثي السلطة بمساعدة الزعيم علي عبدالله صالح، وانحياز مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية إليه، بينما الطرف الآخر المتمثل بالإخوان المسلمين ولوا هاربين إلى عدن والرياض، ودخلت اليمن في حرب لها أول وليس لها آخر، وخاصة مع دخول لاعبين كثر، إقليميين ودوليين، وكل منهم يملك أجندته الخاصة به، وأصبح الحوثي مسيطرًا على جزء كبير من جغرافية الجمهورية العربية اليمنية.

مسار المشهد السياسي والعسكري كان واضحًا منذ بداية الحرب بأن الحوثي حصل على دعم أمريكي بريطاني أوروبي إلى جانب الدعم الإيراني المباشر وبعض من الإقليم، وهذا ما عزَّز صموده وسمح له أن يحتفظ بميناء الحديدة، وممانعة الأمم المتحدة نقل المنظمات الدولية من صنعاء إلى عدن، كما سمح له بالتنقل بكل حرية عبر منفذ مسقط ليطل على العالم، كما كان يستلم أسلحته عبر ممر آمن من الشرق حتى صنعاء، وآخر شيء فتحت له الأجواء برًّا وبحرًا وجوًّا والتفاوض معه وتدليله على الآخر، هذه حقائق لا ينكرها أحد، كل هذا الدعم الغربي مع علمهم بأن الحوثي انقلب على الشرعية الدستورية، وأنه موالٍ لإيران، واليوم يأتون لفتح معركة جديدة في مياه البحر الأحمر. ما الذي حصل؟ ولماذا؟ ومن انقلب على من؟ لمصلحة من حرب السفن والممرات؟ هل هي لمصلحة اليمن أم أنها حرب بالوكالة ولصالح من؟

وهل جاءت من أجل نصرة غزة أم أنها تخدم أهدافًا أخرى؟ لماذا إيران تتدخل وهي تبعد مئات الكيلومترات، والبحر ليس بحرها؟ ولماذا اختاروا البحر الأحمر كميدان للمعركة؟ ومن المستفيد منها ومن المتضرر؟ وكيف يملك الحوثي الجرأة لمناطحة العالم الغربي، هذا العالم الذي مكنه من الصمود كل هذه السنوات؟

نبدأ بالمستفيد من هذه الحرب:

أولًا: الغرب بزعامة أمريكا وقف بكل ثقله مع إسرائيل، وسمح لها تدمير غزة بالكامل، وتحولت إلى حرب إبادة جماعية، اضطرت شعوب العالم لتقف مع فلسطين، وتنادي بوقف حرب الإبادة، ولهذا، وعند تدخل الحوثي وجد الغرب ذريعة لتسيير أساطيله في البحر الأحمر بهدف صرف انتباه العالم عما يجري في غزة، وتحويله إلى خطر إغلاق مضيق باب المندب من قبل الحوثي لتخفيف الضغط العالمي على إسرائيل، ولازم يزودوها حبتين حتى يصدق العالم، وهذا ما حصل وتطور إلى صدام مسلح في حوض البحر الأحمر بين الحوثي وإيران من جهة وبين أمريكا والدول الغربية من جهة أخرى، علاوة علة أن من أهداف حرب الممرات؛ تعطيل طريق الحرير واستبداله بطريق آخر، وكل ما يجري في غزة وباب المندب مترابط إلى حدٍّ بعيد.

ثانيًا: إيران كانت بحاجة لحروب في المنطقة تبعدها عن المساءلة حول برنامجها النووي، وتريد أن تفتعل أي معركة في الإقليم حتى تتمكن من كسب الوقت، ووضع يدها على خط إنتاج السلاح النووي.

ثالثًا: إيران أيضًا كانت بحاجة إلى معركة خارجية لشد انتباه شعبها في مواجهة الخطر الخارجي، وتبعده عن أي مطالبات أو استحقاقات ضرورية للشعب الإيراني.

رابعًا: إيران تريد أن تثبت أقدامها على أراضٍ عربية لتصبح قوة إقليمية، تكون هي الآمرة الناهية دون منازع لها، وتنتزع اعتراف العالم بها، وهي في سباق مع الزمن لتجد لها موطئ قدم في عالم متعدد الأقطاب، وهي تنافس إسرائيل في الريادة في منطقة الشرق الأوسط، ولكن إسرائيل غرقت في بحر مقاومة غزة، وأظهرت عجزها في محو المقاومة حسب زعمها، على الرغم مما قامت به من دمار وإبادة جماعية، ووقوف العالم ضدها وحتمًا سيؤدي إلى أفول نجمها كقاعدة هشة متقدمة للعالم الغربي، لتحل إيران بدلًا عنها.

نأتي للمتضررين من هذه الحرب:

أول المتضررين ستكون الشرعية لأن ذلك سيعجل من سقوطها وانتهاء دورها الملتبس.

جاءت هذه الحرب لتعطل عملية التسوية السياسية والتي كانت على وشك التنفيذ بعد تفاهمات إقليمية ودولية، ومن ضمن ذلك منح الحوثي سلطة على الجنوب إلا أنه لم يقبل بأن يسلم له الجنوب هكذا كهدية من الإقليم والعالم، ولكنه أراد أن يأخذ الجنوب حسب خطط إيران بعد نهاية هذه الحرب المفتعلة في البحر الأحمر، كتحصيل حاصل لاتفاقات وتفاهمات تكون مسنودة دوليًّا وإقليميًّا ومرتبطة بالحلول التي تجري بين حماس وإسرائيل بضمانات غربية، وبهذا تكون إيران ضمنت هيمنتها على الشرق الأوسط بقوة وجود أذرعها في المنطقة، وتكون قد استحقت إدارة أوراق اللعبة بجدارة ودون منافسة من أحد.

الخاسر الثاني: هو الإقليم العربي الذي سيصبح لا حول له ولا قوة ستتحكم في موارده وممراته قوى إقليمية تحت إدارة غربية جديدة، وقد تخضع كل مقدرات تلك البلدان لمشيئة هذه القوى وحاكميتها.

سيكون الشعب في الشمال أكبر المتضررين من نتائج هذه الحرب، وسيزداد وضعه أكثر سوءًا.

سيكون الجنوب أحد المتضررين الرئيسيين من هذه الحرب وسيواجه لوحده أعباء مقاومة إيران ووكيلها الحوثي، وسيدخل في معركة غير متكافئة؛ بسبب الصمت والإذعان الإقليمي والدولي، فالحوثي قد بدأ التنمر على الجنوب من خلال الهجمات الصاروخية المستمرة على مدن الجنوب، ومن ناحية أخرى يقوم بمحاولات اختراق الحدود الجنوبية مستثمرًا ما يجري في البحر الأحمر، ونسى أو تناسى أن معركته الأساسية هناك حسب ما يعلن عن ذلك.

لا شك ستتضرر كل الدول المتشاطئة في البحر الأحمر وعلى وجه الخصوص مصر ستكون هي الخاسر الأكبر.

انتقال الصراع اليمني من اليابسة إلى البحر ليس عفويًا، ولكن خطط له بعناية منذ زمن بعيد، ليخدم أجندات مشتركة للقوى الفاعلة فيه؛ المحلية والإقليمية والدولية، ومن نتائجه ظهور تغيير جيوستراتيجي لشكل المنطقة، يضمن فيه الغرب استمرارية السيطرة عليه لعقود قادمة.

ما يهمنا هنا ألا تضيع قضية شعب الجنوب مهما شرَّق أو غرَّب المتصارعون، ومهما غيروا جلودهم وتحالفاتهم، ومهما انتقلوا من اليابسة إلى البحر، فحق الجنوب يبقى ثابتًا ولن يتغير في استعادة دولته، ولن يتم ذلك إلا بثبات موقف الجنوبيين وتكاتفهم، والسمو على صغائر الأمور، والنظر إلى المستقبل في حقهم الثابت بالوجود كشعب يتطلع للحرية والاستقلال.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى