كيف تم اختطاف الهوية الجنوبية

> من المفيد التذكير، أن "القضية الجنوبية" جوهرها الأساسي هو "الهوية الجنوبية". بمعنى أنه إذا لم تختطف هذه الهوية، لما كان هناك وجود لما يطلق عليها اليوم بـ" القضية الجنوبية".

ولذا، فإن السؤال هو: كيف جرى اختطاف هويتنا الجنوبية؟

عندما يتم تقييم ظهور الحركة القومية العربية، أو حتى الحديث عنها، غالبًا ما يطغى على هذا التقييم أو الحديث، هالة من التضليل والتبجيل والفخر والافتخار، وذلك باعتبار أن الحركة القومية العربية قد عملت على إيقاظ الشعور القومي، واستعادة الإخاء العربي، وتقوية حركة التضامن العربي بين شعوب البلدان العربية، وأخيرًا فإن الحركة القومية خلقت مفهوم "الوطن العربي الكبير"، وهذا هو الجانب الإيجابي من المسألة مع ما يكتنف ذلك من ضبابية وديماغوجية.

أما الجانب السلبي في هذه المسألة، فتتمثل في أن النزعة القومية من خلال تجلياتها في الحركة القومية وأحزابها القومية، أنها أخمدت النزعة نحو الشعور الوطني، وسرقت منا الانتماء للوطن وحبنا له. وببساطة، فقد صرنا قوميين على حساب وطنيتنا. وبسبب ذلك كانت التكلفة التي دفعناها نحن الجنوبيين باهظة جدًا، وذلك على حساب هويتنا وتاريخنا ونهب ثرواتنا، والاستيلاء على وطننا الجنوب.

كما يجب التذكير أيضًا، أن الهوية اليمنية قد تم تسريبها إلينا من خلال النزعة القومية المحمولة بواسطة الأحزاب القومية (البعث وحركة القوميين العرب والناصرية)، التي ظهرت وتقوت في عدد كبير من البلدان العربية، وذلك بفعل ثلاثة عوامل أساسية تقريبًا، وهي:

1. الصراع ضد الوجود العثماني (التركي) الذي كان مسيطرًا على جزء كبير من المناطق العربية.

2. التأثر بالحركات القومية في أوروبا التي أدت أساسًا إلى تأسيس الدول القومية في أوروبا.

3. الصراع ضد الدول الاستعمارية التي كانت مسيطرة على معظم البلدان العربية، وظهور حركات الاستقلال في هذه البلدان، والتي أدت إلى استقلال عدد كبير من البلدان العربية، وعلى وجه الخصوص منذ النصف الثاني من القرن العشرين.

والآن علينا أن نجيب على السؤال الذي بدأنا به موضوعنا هذا، وهو كيف تم اختطاف هويتنا الجنوبية لصالح الهوية اليمنية؟

وقبل الخوض في تعداد العوامل ذات الصلة، يمكننا الإشارة إلى السمات التي حددت عملية الاختطاف، وهي:

1. إن عملية اختطاف الهوية الجنوبية كانت متدرجة. بمعنى أنها كانت على مراحل، وذلك كما سنرى تاليًا.

2. إن عملية الاختطاف كانت متكئة على الخيال الإيديولوجي، وتزييف للتاريخ الذي لا يقول بوجود يمن واحد جرى تقسيمه إلى شطرين بفعل الوجود البريطاني، أو بسواه.

3. إن عملية الاختطاف جرت بخنوع وموافقة النخب السياسية والثقافية الجنوبية، التي ظهرت وكأنها في حالة تخدير كامل.

4. إن عملية الاختطاف اتسمت بالخداع من قبل اليمنيين، أكانت نخب سياسية أو مثقفة أو تجار أو أناس عاديين.

وفيما يختص بالعوامل التي أدت إلى اختطاف الهوية الجنوبية فهي كثيرة ومتعددة ومتشابكة. ولذلك، سنقوم بذكر هذه العوامل بدون الخوض في تفاصيلها إلا عند الضرورة القصوى. وهذه العوامل هي:

1. دخول اليمنيين عدن ومحمياتها في فترة تاريخية بعيدة، وذلك بغرض البحث عن مصادر للعيش، وبسبب الهروب من اضطهاد السلطات المتعاقبة على الحكم في اليمن. وهذه العملية أخذت وقتًا طويلًا جدًا.

2. تغيير السياسيين اليمنيين الفارين من مناطقهم لنشاطهم السياسي من نشاط سياسي خاص بهم وموجه ضد حكامهم، إلى نشاط سياسي عام تحت لافتة"اليمنية".

3. رخاوة الأنظمة والقوانين المنظمة للوافدين من خارج الجنوب، وذلك في فترة الوجود البريطاني، وما بعدها. ونعني ذلك أنه لم يتم التعامل مع الوافدين من الأراضي اليمنية كأجانب يجب تحديد إقامتهم.

4. ظهور الأحزاب القومية العربية والاشتراكية والإسلامية في الجنوب، وإعلان عدائها للهوية الوطنية الجنوبية التي تم تبنيها من قبل حزب رابطة أبناء الجنوب العربي الذي تأسس في عام 1951.

5. انقلاب 26 سبتمبر 1962 ضد نظام الحكم الملكي في اليمن، وقيام النظام الجمهوري هناك، والتأثير السلبي على الجنوب وهويته.

6. استخدام الكفاح المسلح للحصول على الاستقلال الوطني في الجنوب، وإطلاق تسميات من قبل المنظمات المسلحة لتوثيق نفسها من قبيل اعتبار نفسها منظمات لتحرير الجنوب اليمني المحتل، بدلًا من اعتبار نفسها منظمات لتحرير الجنوب العربي. وبهذه الخطوة تكون كمن يتنازل برغبته عن هويته الوطنية لصالح هوية أخرى.

7. تغيير تسمية دولة الاستقلال من اتحاد الجنوب العربي إلى دولة (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) أولًا، ثم إلى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية). وهذه الخطوة تدعم بقوة الخطوات التي سبقتها.

8. تبني شعار "لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية، وتنفيذ الخطة الخمسية، وتحقيق الوحدة اليمنية". وهو شعار يؤكد أن قيادة دولة (الجنوب) هي من تتبنى الهوية اليمنية رسميًا.

9. اللقاءات المتكررة بين قيادتي السلطتين في (الجنوب) و(الشمال) في أكثر من بلد عربي، وذلك بهدف خلق تقارب القيادتين في الدولتين باتجاه تحقيق "الوحدة اليمنية"، أو "إعادة تحقيق الوحدة" كما يشار إلى ذلك أيضًا.

10. تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني، المؤسس على نظرية الاشتراكية العلمية (الماركسية اللينينية). وقد تم ارتكاب خطأين عظيمين: الأول هو أن الإعلان عن تأسيس هذا لحزب وبهذه التسمية تؤكد على التمسك بالهوية اليمنية، والثاني هو التمسك بأيديولوجية عابرة وغير متوافقة مع واقعنا من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية.

11. أحداث 13 يناير 1986 وما نتج عنها من أضرار في كل الاتجاهات البشرية والمادية. إلا أن الانكشاف الكامل للدولة والنظام السياسي في الجنوب أمام دولة (الشمال) ونظامها السياسي، قد مثّل أهم نتيجة لحدث يناير. وكان ذلك لصالح تقوية الهوية اليمنية، ولصالح قيام الوحدة الاندماجية التي حدثت لاحقًا في 22 مايو 1990.

12. قرار فتح الحدود مع (الشمال) في عام 1989 بدون قيود. وكأن واقع الحال يقول بخطأ وجود تلك الحدود بين البلدين.

13. قرار الوحدة الاندماجية في 22 مايو 1990. وهذه الخطوة شكلت الكارثة الكبرى على الجنوب، لأنها دعمت الخطوات السابقة بشكل نهائي.

14. حرب صيف 1994، واجتياح (الشمال) للجنوب، وما نتج عن ذلك من إلحاق وضم ونهب لثروات الجنوب، وبقية القائمة معروفة. وقد تم كل ذلك باسم الهوية اليمنية.

وأخيرًا، من المؤكد أنه قد ترتب على اختطاف الهوية الجنوبية مجموعة من النتائج الكارثية التي ما زلنا ندفع تكاليفها الباهظة. وتتمثل هذه النتائج المكلفة في التالي:

1. إن فقداننا لهويتنا الجنوبية قد كلفتنا خسارة وطننا لصالح الهوية اليمنية، التي كان أصحابها دومًا يبحثون عن الأمن والأمان والعيش الكريم عندنا.

2. إن النضال من أجل استعادة هويتنا ووطننا، قد كلفنا الكثير: آلاف الشهداء وأضعافهم جرحى وأسرى ومعتقلين ومشردين.

3. كما أن فقداننا لهويتنا ووطننا قد كلفنا أيضًا وبالتبعية، فقداننا ثرواتنا الهائلة التي نمتلكها. وبسبب ذلك فقد تحول شعبنا إلى ما يشبه المتسول على أرضه.

4. إن تنازلنا عن هويتنا الوطنية الجنوبية كانت تكلفتها الأساسية، هي أننا صرنا وما زلنا حتى الآن نحاول استعادتها، ولا نعلم موعد ذلك!!!!!

* أكاديمي وباحث سياسي واقتصادي مستقل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى