رسالة إلى مولوخ: الأمل من بين ركام اليأس

> د. محمد الميتمي:

>
​يتأرجح اليمن اليوم بين بصيص باهت من الأمل وأعاصير هائجة فتاكة لواقع قاتم. فكل لحظة وبقعة وزاوية من سماء اليمن وأرضه تفتح جروح الذكريات الأليمة وتطوف بعقلي وروحي حول المعاناة والصراعات والمشقات والبؤس والموت التي يكابدها أبناء هذا الوطن المكلوم.

لحظات وأماكن تحدق بي وتطوقني بها العزلة والغربة والاغتراب، الوحشة والكربة وعدم الفهم وغياب اليقين من مآلات وطن يتشظّى وشعب يحتضر. أدير وجهي نحو السماء لعل هذه الأعاصير تتلاشى والأشباح القبيحة تتوارى عن بصري وبصيرتي، وأغلق عن عمد عينيَّ حتى أحجب رؤيتها عن نفسي، ولكن دون جدوى.

أتلفت يمنة ويسرة بحثا عن رفيقٍ يقظٍ متأمل أشاركه ويشاركني الفجيعة بهذه النخب والجماعات الموبوءة المهووسة بالحرب والاقتتال وكأنها قدر كتب على اليمن في اللوح المحفوظ.

لم تفجعني هذه الحرب الطاحنة فقط، ولكنها أيضا أيقظتني من سباتي وفتحت عينيَّ على عدد من “الجلساء” والمعاريف انضموا طوعا وبسهولة إلى خدمة مولوخ – إله الشر والحرب – وكنت أحسبهم بشرا أتقياء حتى وقت قريب من وقوع الحرب. يجد المرء نفسه في هذه العصور البطولية – التي يكتب كلماتها ويعزف لحنها مولوخ – منفيا وحيدا في الصحراء المقفرة المحرقة لا شجرة للإنسانية يستظل بها، ولا عين ماء يرتشف منها ليروي ظمأه.

كنت أنعم أنا وزوجتي وأولادي، كما كان ينعم الكثير من اليمنيين قبل وقوع الحرب، بالبهجة والسعادة وأن العصافير التي تغرد كل صباح تغني من أجلنا، مبتهجة معنا بالحياة التي نتشاركها معا لا تعكر صوفها أصوات طلقات الرصاص وأزيز الطائرات وبيادات (أحذية) الجنود الذاهبين إلى ساحات المعارك ومحارق الموت.

كانت حياتي المهنية ناجحة باستحقاق، وقوس قزح بألوانه الزاهية البراقة قد يرسم مع حلول “الربيع اليمني” لوحة مشرقة للمستقبل القادم. على الرغم من توجسي الدائم من الطقس في منطقتنا العربية ومعرفتي بطبيعته أنه لا يدوم على حال واحد، وأنه حتما ستعقب الربيع فصول أخرى جارحة كالصقور وحارقة كالنار وباردة كالموت، غير أني لم أكن أعلم أن فصل شتاء قارس كالموت كئيب كأرض مظلمة جرداء خالية من كل معالم الحياة سيحل ويستوطن – إلى أجل غير معلوم – يَمَناً كان سعيدا كما يقول تأريخه.

أدركت حينها كم كنت جاهلا بلؤم البشر وجشعهم وتعطشهم للدماء وغافلا عن حقائق التأريخ ولعنة الجغرافيا وقبح السياسة. هذا الوطن، الذي قال فيه شاعرنا العظيم الراحل عبدالله البردوني “هذي بلادي وفيها كل شيء إلا أنا وبلادي”، يتلمس بشوق وشغف طريقا للسلام، والسلم الاجتماعي في وحل من الموت والقتل والوحشية والطغيان. وكلما حاولت ورْدةٌ أو زهرةٌ مسالمة أن تخرج من تلك الأوحال لتطل ببتلاتها الطرية الجميلة الزاهية لتعطر الأرض اليمنية بروح السلام والوئام وتملأها عبقا ونورا وخيرا سارعت بيادة عسكري متغطرس متهور جاهل إلى سحقها، أو بحسب قول الشاعر المبدع عبدالكريم الرازحي “كلما أينعت سنبلة اصطفاها الجراد”.

 إن كل ما حاق ويحيق ببلدنا اليوم من مأساة ليس إلا من صنعنا نحن بالدرجة الأولي، فهو انعكاس لتهاوننا وغفلتنا المزمنة عن مقومات الحياة الحرة الكريمة، والنأي بأنفسنا عن تقديم التضحيات لإنقاذ يمننا وإحاطته بالحماية والرعاية في الوقت الحاسم، وتصحّر في وطنية أغلبنا وعجز مبين في موارد عقولنا وجفاف في أرواحنا واندثار ضمائرنا، والاستهانة والتعامي عن أعدائنا حتى تركنا الرياح الضالة السامة تتسلل إلي عقولنا وأرواحنا ودواخلنا، إلى  بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا وكتبنا ومناهجنا وكافة مشارب حياتنا،  حتى بلغ بها الأمر أن وجّهت مسارنا المعلوم نحو مصيرنا المجهول و”قدرنا المحتوم”.

والآن: هل ينبغي السكوت عن كل ما يجري لهذا البلد وشعبه من تدمير وتقتيل وتشريد، وهل من المقبول بكل الشرائع والأديان والضمير الإنساني تبرير تلك المذابح والمجاعات بخليط مشوه من التراتيل والزوامل الصاخبة والأناشيد الفارغة والأغاني الوطنية الرتيبة والخطابات البراقة المدهونة بسليط الموت والمغالطات المفضوحة والركون إلى الخلاص الواهم على أيدي المبعوثين الدوليين والوسطاء، بينما ملايين اليمنيين يرفعون أياديهم للسماء يصلون ويتضرعون لخالقهم بوقف هذه الحرب الملعونة التي سلبت منهم أحباءهم وجردت إنسانيتهم ومرغت كرامتهم في التراب. إن كل هذه المأساة قد كشفت جبن وأنانية وقصر النظر الشديد لثلة من النخب الفكرية والقوى السياسية والاجتماعية اليمنية وتمركز معظمها حول ذواتها ومصالحها الآنية التافهة وعنادها الحانق للحق ونفورها المطلق من الإيمان الراسخ بحق الآخرين في الحياة الحرة الكريمة. وهي بهذه الخصائص قد فتحت طرقا وممرات عبور للأعداء والخصوم في تمزيق جسد هذا الوطن وسفك دماء أبنائه أمام ناظر الجميع. كما ساعد الجهل المطبق الذي تغرق في أوحاله غالبية السكان من تيسير رقبة القتيل للقاتل، كما تفعل النعجة الذبيحة بتسليم رقبتها للذبّاح.

جموع غفيرة من اليمنيين تقبض بخناق بعضها البعض دون علم ويقين لماذا تفعل ذلك سوى الحشو المغلوط الذي دُسَّ كالسم في عقولها، فيتساقط الكثير منها صرعى في جبهات القتال والكراهية والعنف تلبية لنداء مولوخ. وعندما تبكي الأمهات أطفالهن والزوجات بعولتهن والآباء أبناءهم في المآتم والمقابر تحضر الشياطين المرسلة من الإله مولوخ لتؤسس لجولة قادمة من القتل وسفك الدماء. لن تنتهي هذه السلسلة المتصلة من القتل وسفك الدماء إلا بقطع رأس مولوخ وإحراق روحه في باحات السلام، وحدائق التعايش والمحبة والوئام. وتلك أولوية على كل الأولويات لإحلال السلام في اليمن، ليتلو حينئذ بعدها وصفة البنك الدولي – الشريك التنموي لليمن منذ ستة عقود – والتي أجملها في تقريره (المراقب الاقتصادي لليمن) لربيع هذا العام 2024  بثلاثة مرتكزات:

1) صدور قرار (مجلس الأمن) بشأن الصراع في اليمن والمواجهات في البحر الأحمر.

2) إعلان الشركاء التنمويين لليمن بالتزام دعمهم لعملية السلام.

3) التزام كل الأطراف الداخلية والخارجية بعملية السلام الشامل والعادل والمستدام وإعادة إعمار ما دمرته الحرب.

حينئذ سينبلج ضوء الفجر ويطل بريق الأمل ليحل السلام والوئام ويعيش اليمنيون في أمن واستقرار وتقدم وازدهار، أو بحسب تعبير البنك الدولي ذاته في تقريره، أن احتمالية حدوث السلام يمثل بارقة للأمل.

قد يقول البعض إن كتاباتي وآرائي مناقضة للسياسة، وأنا أؤكد ذلك بقول نعم! فهي ليست مؤدلجة وخالية من المغازي السياسية الصرفة وليست منحازة إلا للإنسان اليمني وإنسانيته. فأنا أسعى جاهدا في ما أكتبه وأقوله أن أتجنب ذلك الشحن السياسي الذي يؤسس لجروح في جسد المجتمع لا تندمل كما درج على ذلك بعض السياسيين والإعلاميين والكتاب. أتوجه بخطابي إلى بنية أعماق الفرد اليمني وإلى عقله وضميره في عالم لم تصله وتلطخه الغايات والبواعث والأشكال السياسية الممحونة الساقطة والأيديولوجيات الماحقة والمذاهب الدميمة والمناطقية اللقيطة. إن القيم الإنسانية السمحاء والسلام والتسامح وقبول الآخر هي أفضل ما في ديننا الإسلامي. لعل في قولي هذا كما قد يراه آخرون روحا مثالية لا تنتمي إلى الواقع، وإنما إلى عالم منقرض أو افتراضي غير موجود.

سفير اليمن بالصين
العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى