​إريتريا والتغريد التاريخي خارج السرب العربي

> محمود أبو بكر:

>
اختارت إريتريا عدم الوقوع في فخ التعريف الهوياتي الذي تعتمده جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية على رغم أنها ظلت ترتبط بعلاقات جيدة ومتقدمة مع معظم الدول العربية بصورة ثنائية.

يرى بعض الإرتيريين أن بلادهم التي أعلنت استقلالها عام 1993 بعد تجربة ثورة مسلحة استمرت لنحو ثلاثة عقود تبدو كمن يغرد خارج السرب، فعلى رغم العلاقة الوثيقة بمحيطهم العربي جغرافياً وثقافياً، وحتى عرقياً ولغوياً، علاوة على الدعم العربي الذي لازم تاريخ الكفاح الإرتيري المسلح من أجل الاستقلال، فإن التنظيم الذي أنجز الاستقلال (الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا) ارتأى أن ينأى بنفسه عن هذا المحيط على مستوى المنظومة الرسمية التي تمثله جامعة الدول العربية، إذ لم يسع للانضمام إلى هذه المنظمة الإقليمية، بل أعلن مبكراً عدم رغبته في الانضمام إليها.

آنذاك رفضت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا الدعوات التي تكررت من قبل أكثر من دولة عربية في أعقاب إعلان الاستقلال، بضرورة ضم إريتريا إلى منظومة العمل العربي المشترك، بخاصة في ظل توفرها على أهم الشروط الموضوعية التي ينص عليها ميثاق المنظمة، وعلى رأسها أن تكون اللغة العربية لغتها الأساسية والرسمية، إضافة إلى شرط الاستقلال وقبولها بإجماع الأعضاء، وهي ذات الشروط التي تم وفقها قبول عدد من الدول الأفريقية لعضوية الجامعة من بينها جيبوتي والصومال وجزر القمر.

وعلى عكس حكومات تلك الدول ظل الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي يوجه انتقادات حادة لمنظومة الجامعة العربية، واصفاً إياها بـ "المنظمة الفاشلة والعاجزة"، فما سبب هذا التمنع؟
  • معيار الهوية العربية
يرى الدبلوماسي الإريتري السابق حامد ضرار أن علاقة بلاده باللغة العربية قديمة وراسخة، ولعلها أكثر تجذراً من راهن عدد من الدول الأفريقية التي تتمتع بعضوية جامعة الدول العربية. ويضيف الدبلوماسي الذي عمل في سفارة بلاده لدى جيبوتي، أن المجال الجغرافي والتاريخي والثقافي لإريتريا يجعلها في قلب المنطقة العربية، فإن قرار الانضمام للجامعة العربية، يرتبط بشروط أخرى أهمها أنه يرتكز على معيار الهوية، وليس على المصالح الاقتصادية والتجارية والسياسية، مشيراً إلى أن بلاده تتمتع بتعدد إثني وثقافي وديني واسع، ولديها تجارب تاريخية في فترة الثورة التحريرية، في شأن تعريف هويتها الوطنية بصورة مستقلة.

ويوضح ضرار ذلك بالقول، "في ظني أن جزءاً من أزمة السودان الحالية يتعلق بمعيار الهوية، إذ قررت السودانية الحاكمة عقب الاستقلال تعريف (أن السودان دولة عربية إسلامية)، مختزلة بذلك التعدد الثقافي والإثني والديني، مما أسهم بصورة جزئية في تفاقم الأزمات السياسية المتتالية التي عرفتها الدولة الوطنية السودانية منذ 1956، وحتى انفصال جنوب السودان، نتيجة تغول هوية واحدة على بقية الهويات التي يتشكل منها هذا البلد.

ويرى أن بلاده اختارت ألا تقع في فخ التعريف الهوياتي الذي تعتمده الجامعة العربية كمنظمة إقليمية، مشيراً إلى أن إريتريا ظلت ترتبط بعلاقات جيدة ومتقدمة مع معظم الدول العربية بصورة ثنائية، لكنها ترفض الانضمام للجامعة للعام المذكور ذاته، إذ إنها تعرف نفسها كدولة وطنية تضم ثقافات متعددة.

ويرجح ضرار، "لو كانت الجامعة العربية كمنظمة تتجاوز التعريف الهوياتي العربي المعتمد بصورته المختزلة وتعزز من الفواعل والشروط الاقتصادية والسياسية، لكانت إريتريا أول المنضمين لها". ويضيف، "ربما خلافاً لتجارب عدد من دول المنطقة فإن إريتريا شهدت تجربة نضالية طويلة من أجل نيل الاستقلال"، منوهاً بأن إحدى القضايا الخلافية بين تنظيمي جبهة التحرير الإرتيرية والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، أثناء فترة الثورة تعلق بتعريف "هوية الدولة الإرتيرية" المراد إقامتها، بالتالي وبمجرد انتصار الجبهة الشعبية (الحزب الحاكم منذ الاستقلال) وتأسيسه لأول دولة وطنية مستقلة، انحاز لخيار عدم تعريض الهوية الوطنية لشروط تختزل التعدد الذي تزخر به البلاد.

ومع ذلك يعتقد ضرار أن للغة الضاد حضوراً فعلياً كجزء من اللغات الوطنية الإرتيرية التسع، فضلاً عن كونها واحدة من اللغات الرسمية التي تستخدمها الدولة في المخاطبات الرسمية داخلياً وخارجياً.
  • القلق من البعد الثقافي
من جهته يرى صالح أشواك مسؤول مكتب الثقافة والإعلام بجبهة التحرير الإرتيرية (اللجنة التنفيذية) وهي تنظيم معارض أن أنظمة الدول العربية، في الغالب اتخذت مواقف مبدئية لدعم نضال الشعب الإرتيري من أجل الاستقلال، نظراً إلى إيمانها بعدالة القضية الإرتيرية، علاوة على البعد التاريخي لعلاقة أسمرة بالوطن العربي والجزيرة العربية بصورة خاصة، نتيجة التجارة البحرية، وكذلك البعد الثقافي الذي عبر عنه الدستور الفيدرالي الإرتيري (1951)، والذي اعتبر اللغة العربية لغة رسمية، وقد كان لهذا المدخل الثقافي تأثير مباشر في أن تحتل إريتريا حيزاً من الاهتمام العربي.

ويقول أشواك، "نلاحظ قبل الاستقلال أن مستوى بعض مكاتب الثورة الإرتيرية في بعض الدول العربية كان يصل إلى مستوى التمثيل الدبلوماسي (كبعثات دبلوماسية معتمدة)، ولعل أبرزها مكتب تونس حين كانت الأخيرة مقراً لجامعة الدول العربية، إذ ارتقى التمثيل الإرتيري لمستوى السفارة، كما أن الدعم العربي كان حاسماً في انتصار الثورة الإرتيرية، سواء على المستوى المادي أو العسكري أو التأهيل".

وينوه أشواك إلى أن "كل ذلك كان ينبغي أن يمثل محفزاً مهماً لانضمام إريتريا إلى جامعة الدول العربية، إلا أن النظام الذي حكم أسمرة منذ فجر الاستقلال، قد أدار ظهره لكل هذه المواقف العربية المشرفة. ويرجح السياسي الإرتيري المعارض أن النظام في أسمرة يساوره قلق من البعد الثقافي كأهم عنصر محدد للهوية الوطنية الإرتيرية كجزء أصيل من الأمة العربية، وهذا القلق يشكل الجدار النفسي السميك، الذي يحول دون قبوله الانضمام للجامعة العربية.

ويؤكد أن جميع شروط الانضمام للجامعة موفرة في حالة إريتريا، وعلى رأسها الشرطان الثقافي واللغوي، مضيفاً "لو كان النظام يمتلك قدراً من الحصافة السياسية لأنضم لها لاعتبارات المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية، فضلاً عن العامل الجغرافي". وأشار إلى أنه ليس ثمة مبرر يمنع إريتريا موضوعياً من الانضمام للعمل العربي المشترك، لا سيما أنه لا يرتبط بشروط ذات طابع عرقي أو ديني، بل يجمع هذه الدول مقتضيات المصالح الكبرى.

وينوه أشواك لزيارة الرئيس الإرتيري لمقر جامعة الدول العربية وتصريحه الشهير الذي قال فيه "إن مسألة الانضمام للجامعة العربية متروك للزمن لأننا لن ننضم لتحقيق مصالح اقتصادية أو سياسية"، مما يؤكد فرضية الخشية من البعد الثقافي والهوياتي الذي يسكن النظام الحاكم في أسمرة. ويضيف أن "الأمر الأكثر إثارة هو التناقض الذي يدير به النظام ملف الانضمام لجامعة الدول العربية، فوجه الرئيس الإريتري في مايو (أيار) عام 2002 من الدوحة انتقادات حادة تتجاوز الأعراف الدبلوماسية والسياسية المعهودة لدى رؤساء الدول، ثم أعرب لاحقاً رغبة حكومته الانضمام لجامعة الدول العربية بعد عام من تصريحاته في العاصمة القطرية".

ويقرأ أشواك تلك الحالة أن مواقف أسمرة من جامعة الدول العربية تحكمها حالة مزاجية للنظام ولا يخضع لبعد استراتيجي يخدم مصالحة الشعب الإرتيري. ويختم أشواك بأن مثل هذه المواقف لا تتعلق بجامعة الدول العربية فحسب، بل تنسحب أيضاً على بقية المنظمات الإقليمية والدولية، إذ تكرر أسمرة أوصافاً حادة تجاه تلك المنظمات التي تعدها مجرد وكالات ملحقة للإدارة الأميركية في واشنطن.
  • لغة التعليم والأدب
وعلاوة على أن المواثيق الإريترية، لا سيما العائدة للفترة الفيدرالية، توثق لمركزية اللغة العربية في البلاد، فإن الأجيال الجديدة، بخاصة تلك التي ولدت وعاشت في المهجر، تعزز من مكانة لغة "الضاد" عبر إصدارات مختلفة، منها الإصدارات الأدبية التي حاز بعضها على جوائز مهمة على المستوى العربي، وترجمت للغات أجنبية من العربية، فضلاً عن الإصدارات ذات الطابع السياسي والثقافي، إضافة إلى أن العربية تعد من اللغات الرسمية المعمول بها في إريتريا إلى جانب لغات محلية أخرى، كما أن اللغة العربية هي لغة التعليم في المرحلة الابتدائية في معظم المدارس في الداخل الإريتري، مما يجعل البلاد من بين أهم الدول التي يتحدث عدد كبير من سكانها اللغة العربية، دون أن تكون عضواً في جامعة الدول العربية، بالتالي دون أن تدمغ بتعريف "دولة عربية"، إذ ظل هذا التعريف يقتصر عرفياً على الدول التي تتمتع بعضوية هذه المنظمة الإقليمية.

* "صحافي مختص في شؤون القرن الأفريقي"
"إندبندنت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى