من ذاكرة التاريخ: جائحة الطاعون في عدن.. 1900 – 1904م

> بحث وإعداد وترجمة/ بلال غلام حسين

> جوائز نقدية لكل شخص يقتل فأراً في حدود مستوطنة عدن
انتشار الوباء وتعامل الإدارة البريطانية للقضاء عليه
إيقاف حركة الملاحة التجارية وإخضاع طواقم السفن لقانون الحجر الصحي
كيف تعاملت حكومة عدن مع الوباء والتدابير التي اتخذتها؟

في بدايات القرن العشرين الماضي واجهت عدن أكبر جائحة في تاريخها، شُلت فيها كافة مفاصل الحياة تماماً، وكان لها تأثير سلبي كبير في شتى نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية وخسائر بشرية كبيرة بالمقارنة بنسبة عدد السكان وقتها.

الإعلان رسميا عن انتشاره
ففي 25 فبراير 1900م، أفادت التقارير الصحية الواردة من مستوطنة عدن، أنه تم الإعلان رسمياً عن انتشار وباء الطاعون فيها، على إثر برقية استلمها القنصل العام للولايات المتحدة من مكتب الحاكم العام لعدن، والتي أفادت:

"بأن هناك تقارير غير رسمية عن اكتشاف عدد من الحالات المصابة بوباء الطاعون ما بين 8 – 10 حالات، ووفاة 4 أشخاص من بين هذه الحالات. وتعمل السلطات حالياً بمحاصرة الوباء الذي تم اكتشافه في إحدى أرصفة الميناء ما بين التواهي وعدن، وتحديداً في منطقة (حجيف)، حيث يعيش عدد من الكوالية (الحمالين) وعائلاتهم، وتم إدخال هذه الحالات مباشرة إلى المحجر الصحي (الكارنتينا) في جزيرة (فلنت) لكي لا ينتشر الوباء في المدينة. وأضافت البرقية: "إنه على الرغم ما قيل عن هذا الوباء بأن لا يتواجد في المناطق الصخرية الجرداء، كما هو الحال في عدن، إلا أن اكتشاف تلك الحالات أعطى إنذارا للأوروبيين خلاف ما كان سائداً لديهم من اعتقاد".

المرسوم رقم 6
ونتيجة لظهور هذه الحالات أصدر مكتب الصحة البحرية المرسوم رقم (6) بتاريخ 25 فبراير 1900م، والتي أعلنت فيه: "تفشي وباء الطاعون في الميناء" وأنه بموجب أحكام المرسوم رقم (3) والمؤرخ في 8 مايو 1897م، وأحكام المرسوم رقم (6) والمؤرخ في 15 يوليو 1897م، وأحكام المرسوم رقم (1) المؤرخ في 24 يناير 1900م، سوف تُطبق الإجراءات الصحية الخاصة بهذه المراسيم على السفن المغادرة من ميناء عدن إلى موانئ بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول.

محاصرة آخر حالة
وحتى تاريخ 25 يونيو من نفس العام أعلن المسئول الطبي بأنه تمت محاصرة آخر حالة مصابة جرأ هذا الوباء الذي حصد الكثير من الأرواح حينها، حيث بلغ إجمالي الحالات المصابة 714 حالة، تمت إحالتهم ما بين مستشفى الأمراض المعدية في منطقة حُجيف والذي تأسس عام 1896م، والمحجر الصحي (الكارنتينا) في جزيرة (فلنت) والذي تأسس عام 1897م، لهذا الغرض.

تقارير عن سبب الوباء
وأفادت التقارير بأن الفئران هم السبب الرئيسي في نشر هذا الوباء القاتل في مناطق عدن بشكل كبير. وقد قامت حكومة عدن بسرعة اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمحاصرة الوباء، وعملت على نقل كافة السكان الواقعين في مناطق الوباء وعزلهم في جزيرة (عالية)، وقامت بعملية تعقيم شاملة للمحلات والبيوت في هذه المناطق. كما أعلنت الحكومة عن جوائز نقدية وقدرها (سنت ونصف) لكل شخص يقتل فأراً في حدود مستوطنة عدن.

شلل في الحركة التجارية
وجراء هذا الانتشار لوباء الطاعون تعطلت التجارة ومصالح التُجار في عدن بشكل كبير، ورفض العديد من التُجار ممارسة نشاطهم في ظل هذا الوضع المُزري الذي تمُر به البلد، كما أُصيبت الحركة الملاحية بشلل تام، حيث رفض مالكوها القيام بعمليات الاستيراد والتصدير للبضائع من وإلى مستوطنة عدن حتى يتم الإعلان رسمياً بالقضاء على الوباء.

نتائج كارثية
وكانت نتائج انتشار وباء الطاعون في عدن كارثية من الناحية البشرية، حيث حصد الكثير من الأرواح والتي بلغ عددها 575 شخص من إجمالي 714 الذين أصابهم الطاعون، وبلغ عدد الحالات التي تم علاجها 229 حالة. وبتاريخ 3 يوليو 1900م، استبشر الناس خيراً عندما أعلنت حكومة عدن عن شفاء آخر حالة من وباء الطاعون وخروجه من المحجر الصحي (الكارنتينا) والإعلان رسمياً بأن مستوطنة عدن أصبحت خالية من الوباء التي تم حصاره خلال فترة وجيزة ولكنه خلق حالة من الذعر في أوساط المجتمع العدني.

لم يدم ذلكم الإعلان طويلاً، حتى ضرب هذا الوباء الفتاك مستوطنة عدن مرة أخرى في تاريخ 9 مايو 1904م، كما ورد في تقارير الصحة العامة التي أفادت أنه في هذا التاريخ تم الاشتباه في اثنين من الموظفين من بين مجموعة من الموظفين مُصابين بالحُمى ويعملان في (شركة كاوسجي دنشو وإخوانه المحدودة) في منطقة التواهي، وعلى الفور تم إبلاغ الضابط الطبي للميناء الكولونيل (مونكس) والذي أمر بوضع هاذين الشخصين في المحجر الصحي (الكارنتينا)، وتمت اتخاذ كافة التدابير اللازمة لمنع انتشار هذا الوباء في مستوطنة عدن.

العمل بقوانين الحجر الصحي
وعلى الفور قام الضابط الطبي للميناء، باستصدار تعليماته لكافة الشركات الملاحية والقُنصليات الأجنبية المتواجدة في المستوطنة، وطلب منهم العمل بموجب قوانين الحجر الصحي حتى يتم إصدار قرار آخر بهذا الخصوص بحسب تطورات الأوضاع.. كما طلب منهم عدم التواصل مع الميناء، وإيقاف كافة العمليات التجارية عبر سفنهم خلال هذه الفترة، كما منع طلوع الكتبة أو الكوالية (الحمالين) أو أي شخص مرتبط عمله بالميناء إلى السفن، وإن كان ولابد أن يقوم بعمله، فإنه سوف سيتم وضعهم في المحجر الصحي بعد نزولهم من السفن.

وبعد إصدار هذه التعليمات من قبل الضابط الصحي للميناء، قام على الفور بالتواصل مع حاكم عدن (العميد ميتلاند) للتأكد من أن وباء الطاعون قد انتشر في مستوطنة عدن، حتى يتسنى لهم اتخاذ التدابير اللازمة، ولكن الحاكم رد عليه، بأنه تم الاشتباه في تلك الحالتين ولكن الحكومة لا تريد الإعلان رسمياً عن انتشار الطاعون في عدن حتى تتأكد تماماً من حالتهما.

تعليمات حاكم المستوطنة
وفي 13 مايو 1904م، أي بعد أربعة أيام من الاشتباه بالحالتين في التواهي، وجد شخص آخر في إحدى الشوارع الخلفية في مستوطنة عدن، وتم التأكد من خلال الفحوصات بأن آثار الطاعون ظاهرة عليه، وعلى إثر هذا التأكيد الطبي تم الإعلان رسمياً في 14 مايو 1904م، بانتشار وباء الطاعون في عدن، وعليه تم إصدار التعليمات التالية من قبل حاكم مستوطنة عدن كما يلي:

• على رب الأسرة الإبلاغ عن أي حالات وفاة بين أفراد أسرته لمكتب تسجيل المواليد والوفيات في كريتر، بعد استلامه لتقرير رسمي من الضابط الطبي للمستوطنة يظهر فيه سبب الوفاة.
• على المُسجل العام بعد استلامه للتقرير، عليه القيام مباشرةً بإرسال نسخ منه للمسئول الطبي المدني، ومكاتب تسجيل المواليد والوفيات في المعلا، التواهي والمسئول الطبي في الميناء.

• سيقوم الضابط الطبي في المستوطنة على مدار أربعة وعشرين ساعة بإصدار التقارير الرسمية من قبله عن سبب الوفاة، وفي حال وجد أن حالة الوفاة لم تكن بسبب الطاعون، فإن مسجل المواليد والوفيات في مكتب التسجيل في المنطقة التي وجدت فيها الحالة سوف يقوم بإصدار تصريح الدفن لأسرة المتوفى.
• في حال تبث بأن سبب الوفاة كان بإصابة المتوفى بالطاعون، فإن تصاريح الدفن سوف يتم إصدارها من قبل الضابط الطبي المدني للميناء.

• أي شخص سيقوم بمخالفة هذه التعليمات سوف يتم مُعاقبته بموجب القوانين الصادرة في مستوطنة عدن.

متابعة حثيثة لحالات الإصابة
وكان على الضابط الطبي للميناء بأن يقوم برفع تقارير أسبوعية لمكتب الحاكم وإطلاعه عن الحالة الصحية في المستوطنة أولا بأول. وخلال الفترة من مايو وحتى أكتوبر لم يتم الإعلان عن اكتشاف أي حالات مصابة بالطاعون، والحالات الثلاث التي تم اكتشافها في التواهي كانت قاتلة وأودت بحياة شخصين من الثلاثة.
وأثناء ذلك أُعطيت التعليمات من قبل مكتب حاكم عدن بإعادة الحياة إلى مجاريها ولكن بحذر شديد، وبدأ النشاط التجاري في الميناء تدريجياً، ولكن كان لزاماً على الإدارة بأن تقوم بعملية تعقيم لكافة البضائع الصادرة والواردة من وإلى ميناء عدن.

ولكن في شهر نوفمبر من نفس العام، اكتشفت الكثير من حالات الطاعون بين السكان، وهذه المرة كان بشكل أوسع، وحصد الكثير من الأرواح فاقت أعدادهم عن الفترة السابقة قبل أربع سنوات، وأُصُيبت المدينة بالشلل التام، نُقل على إثرها المصابون بالوباء إلى المستشفيات المُخصصة بالأمراض المُعدية في الشيخ عثمان ومنطقة حُجيف، ومستشفى (كيث فالكونير) المعروف بمستشفى عفارة، ونقل الآخرون إلى المحجر الصحي (الكارنتينا) في (جزيرة فلنت).

القضاء على الوباء
استمرت الإحصائيات الأسبوعية المُقلقة لحالات الطاعون وأعداد الوفيات بالتوافد إلى مكتب حاكم مستوطنة عدن بدءً من الفترة من 25 نوفمبر 1904م وحتى 9 يونيو 1905م، وخلال هذه الفترة عملت الحكومة جاهدةً باتخاذ كافة الإجراءات الصارمة بكل ما أُوتيت من الوسائل اللازمة للقضاء كلياً على هذه الجائحة التي ألمت بعدن في تلك الفترة، وبدأت حالات وباء الطاعون والوفيات بالانحسار رويداً رويداً ومن منطقة إلى أخرى، حتى تمت محاصرته والقضاء عليه كُلياً في 9 يونيو 1905م، عند وفاة آخر حالة في جزيرة عالية، والإعلان رسمياً عن انتهاء وباء الطاعون في مستوطنة عدن.

حالات الإصابة والوفيات
وخلال هذه الفترة سُجلت إجمالي عدد الحالات المصابة بوباء الطاعون رسمياً 2287 حالة، بينما وصل إجمالي عدد الوفيات المسجلين رسمياً إلى 1977 حالة وفاة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى