أمواج بشرية تزاحمت بالبوابة واكتظ "مسرح الباغ" بجمهوره.. الفنان "المرشدي" في الشحر

> رياض باشراحيل:

> هل يعد الفنان الكبير محمد مرشد ناجي "المرشدي" ظاهرة فنية ؟ أجل.. فأول ما عرفت هذه الظاهرة الفنية الغنائية في حياتي في زمن كنت فيه صبيًا في التاسعة من عمري في العام 1969م، أخذني شقيقي الأكبر معه إلى مسرح الباغ في الشحر عندما استضاف نادي كوكب الصباح الرياضي بالشحر هذا العملاق الفني لإقامة حفلة غنائية في سعي لتنشيط الحركة الفنية بالمدينة.

وعبثًا نحاول أن نشق طريقنا وسط الزحام لدخول بوابة مسرح بالباغ الذي يقام فيه الحفل، موجات من البشر تتلاحم وبحر من الجمهور يتلاطم وتتراكم موجة وراء موجة من أهالي الشحر أمام بوابة المسرح سعيًا للدخول وحضور هذا الحفل الغنائي، وبعد كفاح مرير، ومجهود كبير للخروج من دائرة الزحام دخلنا من بوابة مسرح الباغ، وفي تلك الأجواء أدركت حينئذ منزلة الفنان المرشدي العالية وإنه قمة فنية بحق وبصمة متفردة وقامة شامخة تستحق كل هذا العناء. أما هذا الزخم فإنما يعبر عن المستوى الرفيع لفناننا المرشدي وشهرته الواسعة وحب هذا الفنان العملاق في قلوب عشاق فنه في "سعاد" الشحر.
  • المرشدي.. جاذبية وكاريزما
وكان للفنان فضل كبير في أن رأيت معه وتذوقت منه معالم تراثنا العدني واليمني الأصيل في ضوء جديد غير ما ألفناه في تراثنا الحضرمي.

وما من شك أن جاذبية ما أو كاريزما نوعية لهذا الرمز الغنائي الكبير أدت بهذا الجمهور إلى خوض التزاحم ليحظى بحضور حفل فني لـ "أبو علي" الذي كانت الجماهير تهتف بكنيته هذه أثناء إضافة بعض اللمسات الجمالية في وصلاته الغنائية أو عند طلب أداء بعض أغنياته المختارة جماهيرًا..

فهل ترجع القوة الجاذبة لفنه الغنائي إلى شخصيته الفنية؟، أم تعود إلى إحساسه وأدائه المميز؟ أم إلى صوته الفريد الذي لا يستطيع أن يقلده أحد، أم إلى ماذا؟
  • مدرسة غنائية مستقلة
الواقع أن المطرب محمد مرشد ناجي ليس مجرد شخصية فنية غنائية وكفى، ومن الخطأ الكبير أن ننظر إليه على أنه واحد من أولئك المطربين الذين تزدحم بهم حياتنا الفنية. إنه مطرب، وملحن، وعازف بارع على العود، وباحث موسيقي.

أنه شخصية غنائية فريدة ومتميزة، لها صوتها الفريد وطابعها الخاص وأسلوبها المميز لذلك فهو مدرسة غنائية مستقلة.

إننا حين نعامله على أنه نجم من نجوم الطرب أو نقارنه بغيره من نجوم الغناء، ونطبق عليه مقاييس الفن الغنائي، أنما نعالجه معالجة سطحية تغفل جوانب بالغة الأهمية في هذه الشخصية.

وربما اقتربنا من الصواب إذا نظرنا إليه على أنه "فنان شامل ومتكامل" الجوانب، السياسية والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والفنية، كل هذه الثقافة والوعي الريادي تجسد في شخصية حية فريدة هي شخصية الفنان محمد مرشد ناجي.
  • رحلة حياة وكفاح ونجاح
وعلى ضوء ذلك الازدحام من الجمهور العريض لحضور الحفل الغنائي والاستمتاع بالفن الراقي وكأن المرشدي نبتة أصيلة من الشارع الحضرمي، وصورة من صور المجتمع في الشحر، ولكن الناس في سعاد وجدوا فيه أنفسهم، ونطق باسمهم، وعبر عن أشجانهم، وأحلامهم وآلامهم وآمالهم وجسد لهم صوتهم في مرآة ذلك الزمن، ففي صوته وأدائه وطريقته في التعبير شيء من البعد السياسي، وشيء من النقد الاجتماعي، وشيء من البعد الإنساني، وهو يعمد في أدائه إلى السهل الممتنع، بحيث يبدو طبيعيا للغاية، وعفويا إلى أقصى حد، فهو يمثل بلا تمثيل، وينفعل بلا افتعال، وكأنما يتحدث ويتكلم دون أن يقوم بأداء دور من الأدوار، ولكنه كان يعيش فنه وسط هذه البراعة الإبداعية مثلما عاش مسيرة حياته الفنية منذ ميلاده بعدن في 6/ نوفمبر/ 1929م وحتى رحيله فيها بتاريخ 7/فبراير/2013م والتي امتدت نحو (83) عامًا، عاش حياته فيها رحلة نضال وكفاح ونجاح.
  • أحب الشحر.. فبادلته الحب والوفاء
المطرب الحقيقي لا يبعد بجمهوره لحظة واحدة عن حقيقة المكان الذي يعيشون فيه، بل إنه يجعل من جمهوره جزءًا من هذا المكان مثلما يجعل المكان جزءًا من الجمهور، وقد فعل ذلك المرشدي وأطرب الجمهور الذي استجاب له بانفعال قل نظيره حين غنى جميع أغنياته وخاصة أغنيته الشهيرة الرائعة "الشحر ياخير واد" وقد أعدها في تلك الرحلة كهدية لأهالي الشحر وهكذا كانت أخلاق الرموز والكبار في إكرام مضيفيهم وقد غناها حينئذ لأول مرة وكانت بحق هديته الثمينة إلى جمهوره الواسع في بلد الفن والإبداع والشعر مدينة الشحر.


ولعل أصالة فناننا وحبه ووفاءه للشحر جعله يحتفظ باسم سعاد والشحر في كل مرة يغني فيها الأغنية خارج الشحر، أي في الوطن أو خارجه وليس كما يفعل أغلب المطربين حين يغيرون أسماء الأمكنة في الأغنية لصالح المكان الجديد الذي يغني فيه، والدليل هنا في أدائه الأغنية المصورة المرفقة بهذا المقال في مهرجان أبها السياحي الفني فظلت سعاد والشحر كما هي رغم أنه يغني أغنيته في أبها بالسعودية وغرد من آفاق مسارحها ببيته الشهير القائل:

يرتاح عندي الفؤاد

من حين نوصل سعاد

الشحر يا خير واد

يا بوي أنا شي لله
  • قوة أثره وقيمة تأثيره
أن الفنان الكبير المرشدي يتمتع بقوة الحضور الذي استمده من قوة شخصيته الفنية، وخاصية قوة الحضور هذه هي التي تجلب إليه الجمهور وتشركهم معه في الأداء، وما أسرع ما يحفظ الجمهور كلماته وأبياته بل وما أسرع ما يقلد حركاته وإيماءاته في الأغنية، بحيث يصبح الجمهور جزءًا منها أو تصبح هي جزءًا من الجمهور، إنه يندمج اندماجًا كاملًا، بحيث يتبادل الأداء مع الجمهور، ومن هنا كانت القوة الجاذبة لفنه قوة أثره وقيمة تأثيره جلية مشرقة في أدائه الغنائي البديع.
  • اشحن المواهب إلى الشحر
وجمهور الشحر ليس هو الجمهور العارض الذي يهدف إلى مجرد الترفيه والاستمتاع والترويح عن النفس فحسب، ولكنه جمهور بارع التذوق والإحساس بالفن، المشارك مشاركة إيجابية والمستجيب استجابة جماعية، وذلك كله بفضل خاصية الحضور القوي لدى هذا الفنان، الذي يزيل الحاجز بينه كفنان مؤدٍ وبين الجمهور والفئات العامة من الشعب، في نوع من اللقاء الحي بين الطرفين.

لذلك جاء قول الفنان المرشدي في حوار إعلامي تاريخي عندما سئل عن المواهب الفنية الجديدة في اليمن (الجنوب سابقا) قال:اشحن المواهب في سيارة إلى الشحر وهناك سيكون الفرز فمن تقبله جمهور الشحر والذوق الفني هناك فهو موهبة حقيقية ناجحة ومن لم يتقبله فهو غير موهوب ولن ينجح.

هذا تقييم إبداعي وفني عميق وصادق وحقيقي لا مجاملة فيه وقد تناولت الجرائد والمجلات هذا التصريح وتردد بلسان وسائل الإعلام حينها بالثناء والعز والتقدير للاثنين معًا الفنان الكبير المرشدي والذوق الرفيع لجمهور الفن في الشحر.
  • فخر عدن ورمز الفن الخالد عبر الزمن
ولأن محمد مرشد ناجي فنان ذكي، حساس، وباحث موسيقي متمكن، تشرب الفن منذ الصغر ونضجت مواهبه مبكرًا فهو يعرف فنه ويعرف دوره، ويعرف جمهوره و تلك هي المزايا التي تميزه عن غيره من المطربين ممن سبقوه أو عاصروه، لذلك تقدم عليهم جميعًا بخطوات ناجحة ومتألقة وواسعة إلى الأمام فهو الفنان اليمني الذي استطاع أن يصل بفنه إلى كل بيت عربي.

إبداع المرشدي يجعلنا نشعر بعزة ثقافية وفنية وطنية، وفخر بعدن العظيمة التي أنجبته وترعرع في أحضانها وأعطى بتأثير بيئتها كل هذا العطاء الخصيب والجميل.

المرشدي هو الفن الذي امتاز بكل سمات التجديد والتطوير والتطريب ولازال يعبق عطره في سماء الطرب بأغنياته الجميلة الأصيلة التراثية والمعاصرة حينها ومنها: "عظيم الشأن، عليك سموني، صادت فؤادي، يانجم ياسامر، دار الفلك دار، بامعك بامعك، أنا الشعب، يا ابن الناس، ضناني الشوق، أهل باكرمان، قطفت لك، صفوا حسنها، و..." وغيرها، لتخلد اسمه بأحرف من نور في انصع صفحات تاريخ الغناء في اليمن والعالم العربي.

وسيظل "المرشدي" نموذجا لكرامة الفن خالدا في ذاكرة الزمن عبر الأجيال المتعاقبة.. رحم الله محمد مرشد ناجي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى