تل أبيب بعد أرامكو.. الحوثي على رقعة الشطرنج

>
​أن يصل صاروخ حوثي أطلق من اليمن إلى عمق إسرائيل، فالحادثة لا تحتاج إلى تقديرات تنافي واقعية الحدث. ليس لأن المستهدف هو تل أبيب أو أن الصاروخ الفرط صوتي انطلق من أبعد جبهات المحور الإيراني جغرافيا، بل لأن اللحظة تستدعي إفاقة كاملة للوعي بنتيجة سياسات “الإهمال الإستراتيجي” التي انتهجتها الإدارات الأميركية أولا ثم الغرب، ومن بعد يأتي الإقليم العربي في التعامل مع جماعة الحوثي.

لطالما سخرنا وسخر الكل من هذه الجماعة واعتمد الجميع على الاستهزاء بإمكانياتها وقدراتها العسكرية. التقديرات الصائبة الوحيدة كانت وحدها عند الإماراتيين، فهم الاستثناء لأنهم وحدهم قرروا المضي في دعم الجنوبيين ليذهبوا معهم في 2018 إلى المعركة الوحيدة التي كادت فعليا تنهي الحوثيين، لولا أن العملية أوقفت بتفاهمات سعودية – أميركية بعد أن كادت القوات تنتزع ميناء الحديدة من المخلب الإيراني.

يعيدنا المشهد عنوة إلى العام 2019 عندما استهدف الحوثيون منشآت النفط السعودية في بقيق وخريص. عندها لم تكن قدرات الجماعة تمتلك الصواريخ بعيدة المدى حتى تلك المرة التي حاولوا فيها استهداف مكة المكرمة.

مع السنوات الأولى في عملية “عاصفة الحزم”، تعامل السعوديون مع الصاروخ عبر منظومة الباتريوت في مدينة الطائف واستطاعوا إسقاطه. كذلك نجحوا في التعامل مع صواريخ استهدفت العاصمة الرياض، وظلّ التحدي في التعامل مع الطائرات المسيّرة التي سقطت شظاياها في أكثر من موقع كما حدث في مطار أبها.

هذه القدرات بالأصل كانت معدومة مع الانقلاب الحوثي على النظام الجمهوري في 2014، حتى قوات نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح لم تكن تمتلك هذه القدرات، وإن كانت لديها صواريخ سكود السوفييتية التي نهبتها صنعاء بعد أن احتلت الجنوب في حرب صيف 1994.

غير أن هجوم الحوثيين الصاروخي سبقته تقارير حول الظهور الروسي بعد أن زار وفد منهم موسكو بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. الحرب الأوكرانية وإن كانت بعيدة عن اليمن، غير أن التحولات الجيوسياسية تفرض فيما يبدو الفرصة للروس أن يحركوا بيدقا من بيادق أصدقائهم الإيرانيين على رقعة الشطرنج الدولية. التداخلات في الشرق الأوسط تعيد صورة التقاطعات المبهمة في سوريا التي تتداخل فيها روسيا والولايات المتحدة.

اليمن الذي يكمن في جنوب شبه الجزيرة العربية يعيش حربا إقليمية بالوكالة بين السعودية وإيران منذ أكثر من عقدين. وهنا يبدو أن الروس وجدوا أن بإمكانهم الاستثمار في جزء ملتهب لم تستطع واشنطن معالجته.

من غير المعلوم أن روسيا قدمت دعما مباشرا لجماعة الحوثي، لكن هذا لا يمنع أن يتم تقديم الدعم عبر وسطاء آخرين متاحين. إيران وكوريا الشمالية تمتلكان من الخبرات في تكنولوجيا الصواريخ ما يمكن أن تقدماه للحوثيين في اليمن.

وبوصول الصاروخ الحوثي إلى تل أبيب، أصبح من الواضح أن صُنّاع القرار في إسرائيل لن ينظروا بعد الآن إلى الحوثيين كخطر ثانوي يمكن تأجيل التعامل معه، بل يرون فيهم الآن تهديدا مباشرا يتطلب خطة مواجهة شاملة. لقد دفع هذا الحادث إسرائيل إلى إعادة التفكير في مسألة دعم إيران للحوثيين، وربما حتى دعم روسيا، وإلى التفكير بجدية أكبر في الخيارات المتاحة للتعامل مع هذا التهديد المتنامي.

ما يثير القلق أيضا هو ما إذا كان هذا الحادث يشير إلى تحول في ميزان القوى الإقليمية، خاصة مع وجود حزب الله في لبنان، الذي يمتلك ترسانة صاروخية هائلة.

وإذا كان الحوثيون قادرين على تجاوز منظومات الدفاع الإسرائيلية، فما بالك بحزب الله؟ هل نحن أمام سيناريو مستقبلي قد يشهد إطلاق مئات الصواريخ على مدن إسرائيلية، محدثة دمارا واسعا وخسائر بشرية فادحة؟

في ظل هذه التطورات، يبدو أن إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي. فبالنظر إلى ترسانة الحوثيين المتطورة ومصادر تمويلهم ودعمهم، سواء من إيران أو ربما من موسكو، يبدو أن خطط الردع والمواجهة ستشمل توجيه ضربات قاسية للبنية التحتية للحوثيين. هذه الخطط قد لا تقتصر على استهداف المعامل ومواقع تصنيع الأسلحة، بل قد تمتد إلى تنفيذ عمليات اغتيال ضد قادة الحوثيين.

سبق لإسرائيل أن قامت بعمليات اغتيال ناجحة ضد قادة في حماس والجهاد الإسلامي وحتى قيادات في الحرس الثوري الإيراني، وبالتالي، ليس من المستبعد أن نشهد تطورات مشابهة ضد الحوثيين.

الصاروخ الحوثي الذي اخترق الدفاعات ووصل إلى تل أبيب لم يكن مجرد ضربة عشوائية، بل هو رسالة واضحة بأن خطر الحوثيين لم يعد مسألة هامشية.

التقديرات الإسرائيلية بعد 15 سبتمبر 2024 ليست كما قبلها أبدا. الحوثيون والإيرانيون فرضوا على المنطقة والعالم واقعا مختلفا لم تعد إسرائيل بمقدورها أن تعتمد فيه على المعالجة المنفردة للولايات المتحدة. السياق الذي تنخرط فيه واشنطن مع الرياض بما يسمى “خارطة السلام” اليمنية هو بحدّ ذاته يشكل خطرا ستراه تل أبيب يجب أن يتم تداركه.

ولو اتخذت السعودية مسارا مغايرا، فهي ما زالت ترى أن التسوية السياسية في اليمن تكفل أقصى ما يمكنها الحصول عليه بعدم استهداف الحوثيين لها. التهديدات الحوثية في قضية البنوك أظهرت جانبا قاتما في المعادلة بين السعوديين والحوثيين. السعوديون وهم ما زالوا يحاولون الحصول على الصفقة الكبرى في الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة يسيرون على خط رفيع من غير الممكن الوصول إلى نهايته الطرفية.

ثمّة حقائق جيوسياسية فرضت من بعد أكتوبر 2023 على كل الأطراف التعامل معها بواقعية. سياسات التأجيل والإهمال أنتجت قوى أيديولوجية تمتلك السلاح بل وبلغت أن تبيعه كما يفعل الحوثيون الذين يبيعون الطائرات المسيّرة للتنظيمات ذات التوجهات الإسلامية في القرن الأفريقي وحتى لتنظيمي القاعدة وداعش في اليمن.

ردات الفعل بضربات محدودة كما حدث في ضرب إسرائيل لميناء الحديدة لن تكون حلا ما لم تكن هناك استدارة إلى القوى المحلية في الداخل اليمني. الجنوبيون يمكنهم على أقل تقدير أن يحاصروا الحوثيين ومعهم حلفاؤهم من تنظيم الإخوان في نطاق جغرافي محدد، وهو ما سيتيح توفير الأمن الكامل للممر الملاحي في باب المندب. عودة دولة الجنوب بإقناع الرياض بأن عليها التخلي عن تحالفاتها مع حزب الإصلاح ستوفر ممرا سياسيا واضحا يعالج أزمة اليمن. الحوثي يجب أن يخنق مع كل حلفائه في شمال اليمن، هذا ما سيصل إليه العالم اليوم أو بعد ألف عام.
عن " العرب اللندنية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى