واشنطن وإعادة خلط أوراقها في الشرق الأوسط.. نحو تسوية كبرى

> د.جيرار ديب:

> ​دعا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الخميس 5 سبتمبر الجاري، ضمن مؤتمر صحفي في هايتي، إسرائيل وحماس للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وإيجاد حلول لـ"القضايا المتبقية"، لاسيما ملف المحتجزين والأسرى، معتبرًا أن ذلك سيسرّع عملية التطبيع بين إسرائيل والسعودية.

دعوة بلينكن للتوصل إلى اتفاق بين الطرفين المتحاربين في غزة لا تحمل جديدًا، وخاصة أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تعمل على إنجاح هذا المسار. لكنّ الجديد والملفت للنظر هو ربط بلينكن الاتفاق بالمضي قدمًا في “مسار التطبيع” مع المملكة العربية السعودية.

مهلًا يا سيد بلينكن، ألم تعتبر إيران -وعلى رأسها مرشدها- أن عملية “طوفان الأقصى” قضت على كافة جهود التطبيع في المنطقة، لا بل أحبطتها في مهدها، فكيف إذًا يأمل بلينكن التوصل إلى إبرام الاتفاقية قبل نهاية ولاية الرئيس بايدن في يناير المقبل؟ وكيف يأمل ذلك والروسي يكثّف الجهود لضرب مصداقية الولايات المتحدة بين حلفائها في المنطقة؟

دعا وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في مقابلة تلفزيونية بثت السبت 31 أغسطس الماضي، أكراد سوريا (الذين يسيطرون على الشمال الشرقي في سوريا) إلى إدراك أن مستقبلهم يكمن في وحدة البلاد، وليس في الاعتماد على الحماية الأميركية، وحثّهم على الدخول في مفاوضات مع النظام السوري للتوصل إلى اتفاق يضمن حقوقهم بوصفهم مجموعة قومية.

من ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تبدأ واشنطن بخلط أوراقها في المنطقة لإرباك روسيا وإيران معًا في ظلّ هيمنتهما على سوريا وسط نظام لا حول له ولا قوة سوى تنفيذ القرارات. ويبدو أن قسد لم تأخذ بنصيحة لافروف، بل ذهبت إلى ما هو أبعد في رفع سقف المواجهة والتحدي، بعدما أقدمت الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي سوريا الاثنين 2 سبتمبر الجاري على الإفراج عن 50 سجينًا سوريًا متهمين بالانتماء إلى داعش، بعدما شملهم عفو عام، كما ذكر مسؤول كردي لوكالة الصحافة الفرنسية.

ويقبع في سجون قوات سوريا الديمقراطية، الذراع العسكرية للإدارة الذاتية الكردية، الآلاف من المعتقلين، من بينهم مئات الأجانب من جنسيات متعددة. وهذه هي الدفعة الثانية التي يتمّ إطلاق سراحها من إجمالي 1000 إلى 1500 شخص شملهم العفو. فهل إطلاق سراح عناصر داعش، مع ما ترافق من تأكيدات لقوى التحالف الدولي من أنها نفذت ضربات جوية على معاقلهم، يصبّ في سياق أهداف واشنطن لإعادة سيناريو 2014، من خلال إحياء داعش لمحاربة المدّ الإيراني ووكلائه في المنطقة؟

تدرك قسد أن الدعوة الروسية قد تحمل لها المزيد من المتاعب، لاسيما أن موسكو تبذل كل ما في وسعها لتقريب وجهات النظر بين أنقرة ودمشق. وكان لافروف قد أكد في المقابلة ذاتها أن موسكو مهمتها تطبيع العلاقات بين شركائها في دمشق وأنقرة، قائلا إن اجتماعًا جديدًا سيعقد في المستقبل القريب.

هذا المسعى الروسي لخلق فرص التقارب يثير توجس الأكراد من إنهاء حلمهم بإقامة دولتهم الكردية، كما يعتبرونه بمثابة ضوء أخضر من تركيا لإكمال مشروعها وهو إقامة منطقة عازلة في سوريا لإبعاد التواجد الكردي الذي يرى فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطرًا على أمن بلاده القومي. لهذا تجد قسد أنّ البقاء في كنف الحماية الأميركية يظل هو الحلّ في الوقت الحالي، لاسيما بعد تيقنها من أن واشنطن تستغلها كورقة ضغط على تركيا.

سيناريو قد يكون أقرب إلى الواقع مع تصاعد وتيرة الهجمات التي يشنها داعش خاصة على القوات السورية وتلك الموالية لإيران في المنطقة. لكنّ ما هو جديد في الأوراق التي يعاد خلطها في المنطقة، تلك المرتبطة باقتراب انهيار هدنة “ربط الاشتباك” على الحدود السعودية – اليمنية، التي توجت بلقاء القمة بين وزيري خارجية إيران والمملكة بمباركة صينية في بكين. ولم تقف الأمور هنا، بل تدحرجت نحو الانفتاح السعودي على النظام في سوريا، فأصبح بشار الأسد حاضرًا في قمة جامعة الدول العربية التي انعقدت في الرياض العام الماضي.

لا يستطيع المتابع إغفال التهديدات التي أطلقتها جماعة الحوثي في اليمن ضد المملكة واتهامها بنقض الاتفاق الأخير بشأن الرحلات الجوية من مطار صنعاء، والذي رعته الأمم المتحدة. وجاء ذلك الخميس 5 سبتمبر الجاري، وفق ما نقلته وكالة سبأ التي تديرها الجماعة، عن مصدر في وزارة الخارجية في حكومة الحوثي ردًا على “إعادة طائرة الخطوط الجوية اليمنية من أجواء المملكة”. هذه التهديدات قد لا تأتي من فراغ بل هي مدفوعة برسالة واضحة لعودة الاشتباكات بين الجانبين في أي لحظة.

ولا يتوقف الأمر عند مطالب الحوثيين، بل يشمل ما تنوي واشنطن القيام به، خصوصًا بعدما صرح أحد مسؤوليها في وزارة الخارجية بأن استمرار الاستفزازات بين الطرفين الحوثي والسعودي سيؤدي حتمًا إلى إلغاء ما تمّ الاتفاق عليه بين البلدين برعاية أممية. هذا يعني أن العودة إلى التوتر والحرب على الحدود السعودية – اليمنية باتت قريبة، ما سيعيد المملكة إلى اتفاقية “كوينسي” التي وقعتها عام 1945 مع الولايات المتحدة.

إسرائيل والمملكة العربية السعودية، هما الدولتان اللتان لا تستطيع واشنطن الاستغناء عنهما. فزوال إسرائيل يعني فرض الهيمنة الصينية – الروسية على منطقة الشرق الأوسط، ما سيؤدي حتمًا إلى إبعاد النفوذ الأميركي عنها، وضرب مصالحها فيها. وابتعاد الرياض عن الحلف التاريخي مع واشنطن يعني كسرا لكافة العقبات التي تقف في وجه المدّ الإيراني في المنطقة مع ما يرافق ذلك من وضع الوجود الأميركي تحت رحمة طهران.

أمام تحرّك الولايات المتحدة السريع لإعادة ترتيب أوراقها في المنطقة، وسط استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تعمل واشنطن على لجم طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المندفع نحو تحقيق الحرب الكبرى في المنطقة، والتي قد تأتي على كل فرص إعادة خلط الأوراق لتجد الإدارة الأميركية نفسها أمام طائرة سيغونية جديدة للرحيل، عندها ستضيع كافة فرص التسوية التي تخطط لها واشنطن لوضع المنطقة في مسار الشرق الأوسط الجديد.
العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى